الذي بين فرجينيا وولف ومي زيادة – فاطمة المحسن

أشخاص:
بلدان:

كتبت: فاطمة المحسن

قصة ظهور مي زيادة وصعود نجمها الأدبي في العالم العربي، تنطوي على أبعاد تتعدى سيرة امرأة واكبت النهضة الثانية لمصر وبلاد الشام. لعلها إن شئنا النظر إليها من زاوية ما تركته من أثر، تعكس جانباً من فداحة الارتكاسة الاجتماعية في حاضر مصر والبلدان العربية التي كانت تقاربها في التطور.

سيرة مي زيادة الشخصية (1886 – 1941) تحوي الكثير من تجليات الحراك الاجتماعي العربي مطلع القرن العشرين، حيث كان يشكل مسيحيو بلاد الشام الممتدة ما بين سوريا ولبنان وفلسطين، الفاعل الاجتماعي الأهم بين قوى التقارب مع الغرب. وهي أيضا، تعكس ديناميكية المجتمعات المسلمة ذاتها التي كان مثقفوها يتطلعون إلى حياة تخرج بلدانهم من كهوف العزلة.

بين مفردات خطاب مي زيادة تبرز كلمة “الشرق” التي شاعت في أحاديث أدباء عصرها كانتماء إلى عالم له تمايزه عن الغرب أو نديته التي دفعت المستشرقين الأوائل نحو مغامرة البحث عنه وفك ألغازه. وهذه الكلمة أيضا كانت ضمن مفاتيح المثاقفة الأساسية بين كتّاب البلدان العربية والعالم الغربي، فجبران خليل جبران استخدم روحانيات الشرق بما فيها الثقافة الإسلامية كي يخط سطور تمايزه في أميركا وأوروبا. أما مي زيادة وصحبها من الأدباء، فقد كان هذا المصطلح يساعدهم على تلّمس هوية لكتاباتهم تخرجها عن نطاقها العربي الضيق وتجعل من انتمائها الى الشرق، بحضاراته المنوعة، عاملا من عوامل التوازن الروحي، مقابل ثقل الحضارة الغربية الصاعدة. ولكن هل لنا التغافل عن أمر يخص مي زيادة كرائدة من رائدات الكتابة النسائية، ونعني ثقافتها الغربية التي مكنتها من تلمس آفاق واسعة للحرية الإنسانية وحرية النساء على وجه التحديد.

ظهرت مي ونضج قلمها في عشرينيات القرن المنصرم، أي وقت ظهور البريطانية فرجينيا وولف التي تحركت عبر الصحافة والمحاضرات والروايات كي تحدث النقلة النوعية في الوعي النسائي الأدبي. والأرجح أن مي زيادة لم تكن على معرفة بوولف، بدليل عدم الإشارة إليها في كتاباتها وترجماتها، ولكن الغريب أنها كانت تؤدي دورها في زمن يكاد يكون متقاربا.

هناك إذن مفارقة في التوقيت، تضع الشرق الذي تمثله مي زيادة مقابل الغرب الذي تمثله فرجينيا وولف، في لقاء يدور حول قضية واحدة تحملها أديبتان من عالمين مختلفين.

كانت فرجينيا وولف على رأس حركة طليعية أدبية سميت بجماعة بلومزبري، يلتقي أفرادها كل أسبوع للتداول في أحوال الأدب والفكر والفلسفة والسياسة، وكان المكان الأول لهذه الجماعة بيت فرجينيا وولف بلندن. وفي القاهرة حدث ما يشبه هذا، فقد كان بيت مي زيادة أو صالونها الأدبي ملتقى أهل الفكر وقادة الرأي والأدباء بمصر.

ملأت فرجينيا وولف بمحاضراتها وخطبها الساحة البريطانية، وكان موضوعها الأثير المرأة الأديبة على وجه التحديد، فنشرت في التايمس والغارديان والدوريات الأدبية. وفعلت في الوقت ذاته مي زيادة ما فعلته الأديبة البريطانية في العالم العربي، فقد كانت خطيبة من الطراز الرفيع، ومحاضرة وكاتبة في أبرز الصحف والمجلات العربية، وفي المقدم منها المقتطف والهلال، وكان موضوعها الأثير الأديبة العربية.

أصدرت مي زيادة دراسة عن باحثة البادية «ملك حفني ناصف» في 1920، وبعد ست سنوات كتبت دراسة عن عائشة التيمورية، وأخرى عن وردة اليازجي. ولعل الصدفة أو ما يشبه التراسل الثقافي جعل من دراسة فرجينيا وولف لرائدات الرواية الانكليزية في زمن صدور دراسات مي عن الرائدات العربيات، ولكن الفارق بين الاثنتين أن دراسة وولف أصبحت قيمة أساسية في تطوير مصطلح النقد النسائي في العالم، ومن خلاله، جرى الانتباه الى فضل النساء في دفع الحساسية الأدبية والاجتماعية في الغرب إلى مديات خدمت الرواية وكل الاجناس الأخرى ،في حين بقيت دراسات مي زيادة  إلى اليوم مجهولة لم يقرأها إلا القليل من الناس.

ولعل اللافت لانتباه القارىء في سيرة مي زيادة هو انشغال مؤرخيها بعلاقاتها مع الأدباء ومفهومها للحب كفكرة ومضمون، وهذا التبادل بين سيرة مي المجهولة والحقيقية، يمنحنا الإحساس بما تنطوي عليه كلمة الشرق من أحاجي وألغاز العواطف، فاسم مي زيادة ارتبط بعدد كبير من أدباء عصرها في علاقات حب ورسائل دافئة، ولكن أياً منهم لا يدعي وصالا جسديا معها. هذه المرأة القادمة من بلد المسيح، والتي تنوء بحمل تربيتها في الدير، كانت ترى في الحب علاقة روحية وفكرية تربطها بالرجال الذين تعجب بهم، فهي تتبادل معهم رسائل رقيقة لا تمتنع فيها عن العطاء الإنساني بكل أبعاده، في حين كان أدباء عصرها يتطلعون إليها كمثال للجمال والأنوثة، ويطمحون قطف ثمار تلك الشجرة العصية. المفارقة في حياة وسيرة مي الأدبية تحدد الفاصل القطعي بين الشرق والغرب، ففرجينيا وولف نشرت سيرة حياتها الخبيئة، حتى تلك التي تتعلق بطفولتها حين تعرضت الى الأذى الجنسي، دون خجل او مواربة، بينما بقيت عواطف مي زيادة مجرد لعبة لغوية تستمتع صاحبتها بتقعيرها وتدويرها. ومع أن مصير مي زيادة شابه على نحو مذهل، مصير فرجينيا وولف،حيث عانت الاثنتان من الاضطراب العقلي الذي أدى بالأولى إلى الموت والثانية الى الانتحار، بيد أن اختلاف الأسباب في أبعاده العملية، يشير إلى الفارق بين مجتمعين. فمي زيادة واجهت محنة الوصاية على أموالها من قبل أقرباء أبيها بعد وفاته، فضعضعت تلك الوصاية كيانها الرقيق، واختصرت شوط المرأة القوية المثالية بقوانين كابحة تستطيع إلغاء وجودها بطرفة عين.، في حين كان اضطراب فرجينيا وولف لا يمت الى هذه الأسباب بصلة، فقد أورثتها عمتها مالاً جارياً مدى العمر لا وصاية فيه لأحد عليها.

تكتب مي زيادة مخاطبة الرجل: «أتكلم الأن بحرقة كأني صوت المرأة الصامت منذ أجيال، وتستمعون إليَّ بإشفاق كأنكم روح الرجال المشتتة منذ إبتداء الدهور. والنفس الكبيرة المبعثرة تستجمع قواها للإصغاء، والصوت الخافت الذي لم يتعود إلا همس الطاعة وتمتمة التمرد المبهم، يرتفع الآن أتياً من بعيد من عمق أعماق الدهور السوداء، من أقصى أقاصي الخليقة العجيبة آتياً من القبور، من البحار، من عناصر الحياة جميعا، صارخا .. أيها الرجل لقد أذللتني فكنت ذليلاً، حررني لتكن حراً، حررني لتحرر الإنسانية».. في حين تسخر فرجينيا وولف وتتهكم وتغضب وتثور وهي تخاطب الرجل وخاصة الأديب والمفكر. فهي تقول في محاضرة من محاضراتها العاصفة واصفة أحد المفكرين: ” صاح بعد أن قرأ فقرة لكاتبة، يا لها من نسوية متطرفة فهي تقول ان الرجال متكبرون. الذي أدهشني في صيحته ليس فقط حس الزهو، وقد أصيب بجرح ما، ولكن ما بدا أنه اعتراض قوي على تعدٍ أصاب، فيما أتخيل، ثقة ذلك الرجل بنفس”..

مي زيادة كانت مجاملة تتوسل في خطابها التغيير، وتخوض في بحور من العداء بثوب الحمامة الوديعة التي تحني رأسها أمام العواصف، فقد كان بعض من صاحبتهم من الأدباء يحمل البغض لقضيتها، ولعل عباس محمود العقّاد يصلح أن يكون حقل اختبار لازدواجية الأديب في نظرته الى المرأة. ولكن مي زيادة التي بادلته الرسائل واللقاءات الاسبوعية، لم تدخل معه في خضم هذا الإشكال الحضاري الذي كان يؤرقها، فقد كانت تخاف عنفوانه في مقارعة الأعداء، لذا بقيت على صداقة معه، مستغنية عن سجال يثري الثقافة العربية معرفيا وإنسانيا.

التشابه والاختلاف بين السجايا الشخصية والفكرية للأديبتين العربية والانكليزية لا يمنع القارئ من التصور أن اندفاعة النهضة العربية مطلع القرن العشرين كانت من القوة والزخم، ما بدت وكأنها المشروع الذي يختصر سنوات التخلّف الطويلة التي مرّ بها العرب، ولم يكن يلوح لأكثر الناس تشاؤما إن عجلة الزمن بعد أن انقضى عهد مي زيادة، تستعد للاستدارة على هذا المنحى الدراماتيكي. ماتت مي زيادة تلك الميتة المؤلمة، ولم يخرج بجنازتها إلاّ القليل من سمّار منتداها الأدبي، ونساها الناس ولم يبق منها سوى تلك الحكاية الشرقية التي تضع اللغز ثم تفتش عن الحل كي تنسى فداحة الفقدان.

زر الذهاب إلى الأعلى