قد يعتقد البعض أن الخطوط التي تميز الحمار الوحشي هي خطوط حبته بها الطبيعة بغرض التمويه والإخفاء عن أعين الحيوانات المفترسة، لكن هذا التصور غير صحيح، فالأبيض والأسود هما لونان مميِّزان جدًا، ويمكنك أن تلمحهما على بعد عشرات الأميال.
أي أنهما قد يكونا ملفتين للنظر أكثر من كونهما وسيلة للتمويه. فما السر وراء هذا التأثير البيئي؟ وكيف يساعد الحيوانات على مواجهة الحياة والحفاظ على النوع؟
عندما قام البيولوجيون بعمل دراسات عن الحمار الوحشي، كانوا ينتقون أحدها لملاحظته وتتبعه وتدوين سلوكه، لكن شدة التشابه بينها كانت تثير الالتباس والخلط وتعجزهم عن تبين الحيوان موضع الملاحظة من غيره مما دعاهم إلى محاولة تمييزه بوسم معين أو ببقعة ألوان ظاهرة مثلا لتسهل عليهم مراقبته، وبعد فترة لاحظوا أن الأسود والحيوانات المفترسة تنتقي هذا الحيوان صاحب العلامة الظاهرة بالذات لتهاجمه. أثبتت هذه التجربة أن غرض الطبيعة من هذه الألوان المميزة هو دمج الحيوان بالقطيع وليس دمجه بالبيئة المحيطة، والأهم أنها أوضحت أن الفئة الأكثر عرضة للهجوم ليست هي الفئة الأضعف -كما كان يظن في السابق- ولكنها الفئة البارزة أو المميزة.
تساهم هذه التجربة إلى حد كبير في تفسير غريزة القطيع التي تدفع الكائنات إلى العيش في مجموعات متلاصقة طلبا للأمان ورغبة في الشعور بالقوة والحصانة. هذه الغريزة الفطرية لا تقتصر فقط على الحيوانات ولكنها موجودة أيضا لدى البشر وتعرف في علم النفس بثقافة القطيع أو سيكولوجية الجماهير كما اسماها جوستاف لوبون في كتابه الشهير الذي يحمل نفس العنوان والذي يشرح فيه فكرة انتقال عدوى العواطف والأفكار بين الأفراد عند انخراطهم في الجماعة، وكيف يؤدي الانصهار في المنظومة الكلية إلى تخلي الفرد عن تفرده وذاتيته وتبنيه لأفكار الجماعة والتطبع بسلوكها. وكلما كان الفرد ضعيفا زادت سطوة الجماعة عليه وزادت درجة تماهيه مع الجماهير.
ومن الملاحظ أن هذه الظاهرة تعتبر سلوكا مميزا للمجتمعات الرجعية باعتبارها آلية من الآليات التي تؤسس لها الانظمة السلطوية لتستخدمها في ترسيخ اعتقادات وعادات جمعية تدعم بها هيمنة الحاكم وولاء الأفراد له، كما تكفل ابتعاد الناس عن إعمال العقل والتفكير الحر والاستعاضة عنهما بأنماط سلوكية محددة وموروثة يمكن إخضاعها وشحنها في أي اتجاه. لكن هذه الانظمة السلطوية التي تتعمد تحويل مواطنيها إلى مجرد قطيع لتستطيع التحكم فيه والسيطرة عليه هي أنظمة تبيد نفسها بنفسها لانها مع الوقت تتحول إلى مجرد قشور تغطي بنية فاسدة مضعضعة نظرالأن سلامة المجتمعات تكون بسلامة أفرادها.
ليس ثمة شك في عمق التأثير الذي يحدثه المجتمع في تكوين أفراده، فكل إنسان يستقي معلوماته ومفاهيمه ومعتقداته وخبراته وسلوكه من واقعه الاجتماعي ومن البيئة التي تحيط به, وكلما كانت هذه البيئة صالحة وصحية استطاعت أن تشبع احتياجاته النفسية والاجتماعية والاقتصادية وأن تنمي لديه الشعور بالتفرد والتميز وان تشجعه على تنمية مهاراته وتساعده على المساهمة بإمكانياته في تحقيق المصلحة العامة، أما إذا كانت البيئة فاسدة فهي تقمع رغبته في التفرد بل وتعاقبه على تميزه وتجعله يدور بعقم في الدائرة المغلقة للفكر الجماعي الأحادي ليصبح شاغله الأوحد هو تحقيق القبول والتوافق مع باقي المنظومة حتى لو كان ذلك على حساب المنطق والضمير.