إرنست همنغواي – على رصيف الميناء في إزمير (قصة قصيرة)

على رصيف الميناء في إزمير (1) (1930)

ترجمة: موسى الحالول

قال إن الشيء الغريب هو أنهم كانوا يصرخون كل ليلة عند منتصف الليل. لا أعرف لماذا كانوا يصرخون في ذلك الوقت. لقد كنا في الميناء وكانوا جميعا على الرصيف، وعند منتصف الليل، راحوا يصرخون. لقد كنا نسلط عليهم الأضواء الكاشفة لنُسكتهم. وكنا ننجح دائما في ذلك. كنا نسلط أضواءنا الكاشفة مرتين أو ثلاثا، صعودا ونزولا، إلى أن يتوقفوا. في إحدى المرات كنت أنا الضابط القائد على رصيف الميناء، فجاءني ضابط تركي يكاد ينفجر من الغضب لأن أحد بحارتنا أهانه. فقلت له إننا سنرسل الجاني إلى السفينة حيث سينال عقابا قاسيا. وطلبت منه أن يدلني على من أهانه، فأشار إلى مساعد رامي المدفعية، وكان هذا شابا لا يؤذي أحدا. قال إنه أهانه عدة مرات وبشكل مريع، وكان يتحدث إلي من خلال مترجم. لم أستطع أن أتصور أن مساعد رامي المدفعية يعرف من التركية ما يؤهله إلى أن يوجه الإهانات بها. ناديته وقلت له: «هذا لمجرد أن تكون قد تحدثت مع أي من الضباط الأتراك.»
«لم أتحدث إلى أي منهم، يا سيدي.»
قلت له: «أنا متأكد من ذلك، لكن من الأفضل أن تذهب إلى السفينة وألا تأتي إلى الشاطئ ثانية فيما تبقى من اليوم.»
ثم أخبرت التركي بأن الرجل قد أُرسل إلى السفينة لينال جزاءه العادل. بل جزاءه القاسي. فشعر بالزهو، وأصبحنا من أحسن الأصدقاء.
قال إن أسوأ ما في الأمر هو أمهات الأطفال الموتى. إذ لا يمكنك أن تجعلهن يتخلّين عن أطفالهن الموتى. كن يحتفظن بأطفالهن الموتى لمدة ستة أيام ولا يتخلين عنهم. وليس في اليد حيلة. وفي النهاية عليك أن تنزعهم منهن انتزاعا. ثم هناك قصة تفوق العادة عن امرأة عجوز. وعندما حكيت هذه القصة لأحد الأطباء اتهمني بالكذب.

كنا نُخلي رصيف الميناء منهن، ومن الموتى، وكانت هذه العجوز مستلقية على ما يشبه المحفة. قلن: «ألا تنظر إليها يا سيدي؟» فنظرت إليها، وفي تلك اللحظة ماتت وتخشبت. انكمشت ساقاها ثم انكمشت من عند خصرها وتَصلّبت. تصلبت كما لو كانت ميتة منذ ليلة أمس. كانت ميتة تماما ومتخشبة. حكيت هذه القصة لمساعد طبيب فقال: هذا مستحيل.
كانوا جميعا على رصيف الميناء، ولم يكن الأمر كالزلزال إطلاقا أو ما شابه؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون بوجود التركي. لم يكونوا يعلمون أبدا ماذا سيفعل التركي. هل تذكر عندما أمرونا بألا نأتي لإخلاء المزيد؟ لقد كنت خائفا عندما دخلنا ذلك الصباح. كان لديه عدد من المدافع وكان بإمكانه أن يقذف بنا إلى اليابسة. كنا سندخل ونسير بمحاذاة الرصيف، ونقذف 
المراسي الأمامية والخلفية في الماء، ثم نقصف الحي التركي
من البلدة. كانوا سيقذفون بنا إلى اليابسة وكنا سنحول البلدة إلى جحيم، هكذا ببساطة. لكنهم أطلقوا علينا بضع طلقات خُلَّبية عندما دخلنا. ترجل كمال وطرد القائد التركي، لأنه تجاوز صلاحياته أو شيئا من هذا القبيل. لقد تجاوز حدوده قليلا. كان الأمر سيتحول إلى كارثة.

أنت تذكر الميناء. كانت كثير من الأشياء الجميلة تطفو فيه جيئة وذهابا. وكان هذا كل ما تبقى لي من الحياة، لذلك رحت أحلم بالأشياء. ومشكلتك ليست مع النساء اللواتي كن يلدن، بل مع أمهات الأطفال الموتى. كن ٍ يلدنهم بيسر وسهولة. والغريب أن قليلا منهم كانوا يموتون. كل ما عليك أن تفعله هو أن تغطيهن بشيء ما وتتركهن يتدبرن أمرهن. كن دوما ينتقين أشد الأماكن ظلمة في بطن السفينة ليلدن فيها. كن يتلقين كل شيء بصدر رحب حالما ينزلن من رصيف الميناء. كان اليونانيون أناسا رائعين أيضا. فعندما أُجلوا كسروا الأرجل الأمامية لدوابهم التي كانوا ينقلون عليها أمتعتهم ولم يستطيعوا أن يأخذوها معهم، فألقوها في المياه الضحلة. كل تلك البغال التي كسرت أرجلها الأمامية ألقي بعضها فوق بعض
في المياه الضحلة. لقد كان كل هذا عملا رائعا. نعم، عملا رائعا جدا.

 

(1) تقع إزمير في غربي تركيا، على بحر إيجة، وهي ثاني أكبر ميناء تركي. بعد انهيار الدولة العثمانية العام 1918 تنازعت اليونان وتركيا على هذه المنطقة إلا أن معاهدة لوزان (24يوليو 1923) أقرت بسيادة تركيا عليها، ما اضطر الجالية اليونانية فيها إلى الجلاء. والقصة هنا تحكي عن هذا الجلاء (المترجم).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى