(….) دُعيت المجموعة الأولى من الضيوف، التي كانت على رأس الحلقة ، إلى الداخل للجلوس حول مناسف ضخمة من الضأن والرز. ويقتضي الأتيكيت ألا يأكل المضيف مع ضيوفه. فهو يطوف حولهم ، مُرحباً ، يشجع الجميع على أكل المزيد ، ويقطع بسكين مخيفة أكبر الكتل الرجراجة من اللحم والشحم . الضيوف يتخذون وضع الهجوم ، مشمّرين عن الساعد الأيمن مع إسناد الرسغ بارتخاء إلى الركبة اليمنى ، بينما تتدلى اليد من على الركبة (…)
وتمتد الأيدي – في البداية بقدر من الوجل كرجل بدأ يداعب بلوزة امرأة متظاهراً بالعبث على رسله بقلادتها ثم تنزلق يده تحت محزمها ويأخذ في تمسيد عمودها الفقري صاعداً نازلاً لحبس درجات التجاوب أو الممانعة التي يمكن أن يتوقعها – . أولاً تغترف الأيدي من الرز ما يُحدث تجويفاً على حافة الطبق يحدد دائرة نفوذها. كالحفر التي يصنعها المستجمون على رمال الشاطئ . يُملأ التجويف باللبن الرائب وحساء الخضار من السلطانيات الموضوعة حول الطبق على الأرض. الرجال يغمسون أصابعهم بعناية في الرز الساخن مطعماً باللوز والزبيب، ثم ينقضّون بكامل اليد. ومع المرق في التجويف يعجنون الرز ، مستخدمين الإبهام ، في كلة يرمونها بحركة سريعة من الرسغ إلى مؤخرة الحلق ويبتلعون اللقمة دفعة واحدة . في غضون ذلك ، تراقب السواعد الستة أو السبعة حول المنسف بعضها بعضاً عن كثب. وكما في لعبة الإسراع ثم التمهل ، يتمثل فن هذه اللعبة في الحفاظ على التوازن بالتمهل في الموقع حتى يعيل صبر أحد فينقضّ إلى الأمام بأقصى سرعة ثم يلحقه الباقون . ومع صمت المضغ ومصمصة الشفاه تتحسس الأنامل قطع اللحم ، تسحب رقائق من الجلد وتداعب الشحم في الحواف. الحاضرون ينقضّون بقوة أشد على الخروف الذي يجثم مترجرجاً على قمة جبل الرز – وأخيراً تكون الأيدي طليقة في هجماتها – مفاصل كاملة تتكسر. يدان يُمنيان تساعدان أحدهما الأخرى لتمزيق اللحم ( اليد اليسرى استخدامها محرَّم في الأكل ). تُقطع الذبيحة بسكين جزار وتختفي أذرع إلى ما فوق الكوع عميقاً في جوف البطن والأحشاء ثم تعود ظافرة بكبد وكلى في قبضتها (..)
***
” في بعض الأمسيات كان ينضم إلينا خبير مائي فرنسي ، عاش في رفحا خمس سنوات وكان ضجراً. كان معه راديو ترانزيستور روسي – اشتراه في الكويت – وكان يسمعنا منه الأحاديث التي تجري بين الطائرات المحلقة على ارتفاع عشرة كيلو مترات فوقنا وبين أبراج المراقبة في بغداد ودمشق والكويت ودول خليجية أخرى . كانت الحركة الجوية بين الشرق والغرب كلها تمر عبر هذا الرواق بين أوروبا وشرق آسيا ، الذي يتبع مسار أنبوب التاب مثله مثل الطريق الوحيد المعبّد في المنطقة . لذا، كنا جالسين تماماً تحت ما يعادل قناة السويس في حركة الطيران. ومثل حيوانات السرطان في قاع بحر مداري كنا نرنو إلى بطون السفن العابرة . كنا نرى الطائرات ، من بسطنا المفروشة في الحديقة شديدة الحرارة والرطوبة ، تخترق السماء فوقنا صامتة بسبب ارتفاعها الشاهق. ولكن في ليل الصحراء الجاف ، الرائق ، كانت تبدو واضحة وضوحاً أثيرياً يكاد المرء يلمسها . وكانت ترسل ، مثل اليراعات ، إشارات بأضوائها الحمراء والبيضاء في الجناح والذيل، لا تُرى إلا من وميضها بإيقاع منتظم في سماء الليل المرصعة بالنجوم. وعلى راديو ” أف أم ” كنا نسمع الموقع – نمر الآن برفحا – والارتفاع والأحوال الجوية في مطارات تبعد الآلف الكيلو مترات . كيف يستطيع المرء أن يكون أبعد من العالم منه إلى رفحا، لكنه مع ذلك يبعد عشرة كيلو مترات فقط تحت أكثر شرايين حركة الطيران ازدحاماً بين أكبر قارتين سكاناً ؟ ”
* ( الهولندي / مارسيل كوربرشوك )
البدوي الأخير.