التمرّد، جنون الكتابة: موريس بلانشو

أشخاص:

1- قراءة ساد صعبة، إنه واضح، سَلِسَ الأسلوب، وذو لغة صريحة. إنه ينشد المنطق؛ يفكّر، ولا يهتم إلاّ بالتفكير؛ وهذا العقل، الخالي من الأحكام المسبقة، يتكلّم ليُقنع، وبالاستعانة بالحقائق التي يعطيها شكلاً عاماً، والتي تبدو له بديهية إلى حدّ أن كلّ اعتراض يُعزى بقوة إلى اعتقاد باطل. إنه يصبو إلى العقل، وبالعقل يهتم، بعقلٍ يقترحه على الجميع وسيكون موافقاً للجميع.
أظن أنه لا ينبغي نسيان ذلك أبداً، أي علاقة ساد هذه بعقل ما [من هنا الطابع البرهاني لأقل كتاباته والذي يهزأ به الواعظون]. وكيف ستنساه القراءة، وهي تصادف حالاً هذا الطموح، هذا الشرط المعقول، إنما كيف لا تنساه، وهي تصادف حالاً كل ما يلزم لدحضه: التناقضات الأكثر وقاحةً، حجج تنقلب، قضايا لا تصمد، تنافر أمانٍ ومبادئ نتفاجأ بها إما بشدّة وإما شيئاً فشيئا؟ يستطيع كلّ واحد أن يختبر ذلك بنفسه. ولن أذكر غير مثل عام واحد مقتبس من الكتيّب المشهور(1). ففي الجزء الذي يعالج موضوع الدين، يطالب المؤلَّف باستبعاد هذا الأخير إذا أردنا أن يكون عندنا مواطنون صالحون وآباء صالحون وأزواج صالحون؛ أمّا المبرّر الذي يثبت ذلك فهو أن رجالاً مذعورين، جهلة وأذلاّء، كما هم جميع المؤمنين، لا يستطيعون القيام بواجباتهم المدنية لكونهم قد فقدوا كلَّ إحساس بالحرية. لكنه، في الجزء الثاني، يوصينا بمثال مختلف تماماً، وإذا به يقترح علينا أولاداً بلا أب ويقرّ شيوع النساء وشيوع الرجال ويلغي العائلة أخيراً، وبتأكيد قوي يقول: «لا تتصوّروا أن تصنعوا جمهوريين صالحين ما دمتم تعزلون الأولاد الذين ينبغي ألاّ ينتموا إلاّ إلى الجمهورية داخل عائلاتهم». حسناً، ها قد اقتنعنا. لكننا في موضع آخر أو في الوقت ذاته، نتبيّن فكرة مختلفة كلياً: أولاد بلا أب، نعم، إنما ليس من أجل رفعة الجمهورية بل من أجل سهولة الفسق؛ النساء الشائعات للرجال [والرجال الشائعون للنساء]، ليس من أجل شيوعية شريفة للأعراف إنما لتيسير الاستمالة إلى البيوت المخصَّصة للدعارة؛ أما العائلة، فإذا كنّا لم نعد الآن مستعجلين لإلغائها، فذاك للحفاظ بوجه أفضل على الزنا، كما على كلّ الانحرافات التي ستزول معه، بدءاً بارتكاب المحارم الذي يكتب عنه ساد بدعابة خفيّة خاصة به: «أسمح لنفسي بأن أؤكد بأن ارتكاب المحارم يجب أن يكون قانون كلّ حكم يكون الإخاء أساسه». لنتوقف هنا. فإن قارئاً سوف يلقي الكتاب من يده مقتنعاً بخرق مؤلِّفه؛ بينما سيحتفظ به قارئ آخر بسبب هذا الخرق. وأعتقد أنهما سيكونان كلاهما على خطأ. ربما كان ساد مجنوناً مثلما لابدّ أن نكون جميعاً في أوقاتنا الليلية الحلوة، غير أن ما يكتبه لا يقع تحت طائلة هذا الحكم. والدليل هو أننا معرّضون لطريقة في الفهم تفوتنا، ومع ذلك تجذبنا. بسبب ذلك، فإننا، رغماً عنّا وعلى الرغم من رغبتنا في منطق بسيط، نستأنف القراءة، مجذوبين بحركة لن تتوقف من بعد.

2- ثمة شيء يُبحث عنه في ساد. وهذا البحث، الذي هو بحث عن وضوح جديد، لا يتواصل على طريقة استفهامية، إنما بتأكيدات واضحة، مضمونة، وحاسمة على الدوام. وذلك خاص به. إن العقل التحليلي، بمسلّماته وسرعته الإثباتية، موضوع هنا في خدمة مبدأ نهائي لا يُكتشف، وذي جاذبية لا تأخذ في الاعتبار قطعاً تحديدات التحليل. وهذا المزيج، هذا الخليط من الوضوح والغموض هو ما يربكنا ويعقّد قراءتنا، جاعلاً إياها عنيفة باطنياً. عنفٌ أشدّ بكثير من عنف الانقلابات القاسية، والتي تفيد بالأحرى لتسليتنا ما لم تكن تمثّله. بالطبع، يمكن القول إن ساد يكتفي بأن يستمدّ من عصره ذلك العقل الوضعي الهادئ، مثلما يستمد منه اللغة الواضحة والكتابة الخطيّة (Linéaire) الخالية من الظلال. وسوف نضيف بأنه يجعلها تخدم بطريقة ما حقائق أو مبررات لا تتوافق معها. أما وقد قيل ذلك، فإنه يمكن أن يصمد. أعتقد أنه ينبغي أن نوضح فكرتنا بطريقة مغايرة. فما يوجد من مغالاة عند ساد، في تجربته وفكره، وضرورة الإفراط تلك، لا يؤكد فقط حقه في العقل، ولا يكتفي بالإقرار بتوافقه مع مبادئ عقل وضعي [عقل المادية الملحدة] بل يعرف أنه أكثر إدراكاً من هذا الأخير، لأنه يبالغ أكثر منه في الحركة الماثلة فيه ولا يخشى أي عاقبة. المسألة عند ساد هي دائماً مسألة منطق: فهو يشعر أنه أكثر دقّةً وأكثر ارتباطاً وحتى أكثر تماسكاً –تماسك يشتمل على التفكك- من الآخرين، والهيجان الذي يستولي عليه هو في أكثر الأحيان هيجان عقل مقموع، معاق في تقدّمه الذي يوشك أن يلقيه في المهاوي. أن يكون العقل قادراً على صيرورة نشيطة، وأن يكون هو نفسه في صيرورة نشيطة، وأن يكون هو نفسه في صيرورة دائمة، بما أنه في الأساس حركة، فتلك هي إحدى حقائق ساد، ويمكننا القول إن تلك هي أيضاً الحركة التي تثير نتاجه، وهي حركة مفرطة طبعاً، إنما أن يكون المرء عاقلاً فهذا يعني دائماً أن يكون أولاً عاقلاً بإفراط.
3- العقل المفرط. ولن أشدّد على مختلف الطرق التي يكشف بها نتاج ساد هذا الإفراط. إنما للتعداد – للتبسيط- يمكن القول إن هناك ثلاث طرق:
– الأولى ذات طابع موسوعي. والمقصود هو إحصاء كلّ الإمكانات البشرية، وبالضبط تلك التي تُعتبر مشوَّشة والتي هي أقوى مظاهر الطاقة، التي بدونها لا يعود العقل طبيعياً [لا يعود تلك النار التي أشعلتها الطبيعة والتي فيها تحرق هذه الأخيرة وتحترق بطريقة لا تقبل الفساد].
– الثانية ذات طابع جدلي. وهذه إحدى السمات البارزة لنتاج ساد، والتي لم تعد مجهولة. إنني أحيل القارئ هنا إلى البحث المكتوب بعنوان عقل ساد وكذلك أفكار جورج باتاي وبيار كلوسوﭭسكي العميقة. عندما يؤكد بأن جلّ ما فعله هذا النبيل الداعر هو التفتيش في المبادئ المادية الوضعية عن الحجج السهلة القادرة على تبرير سوء سلوكه، وعندما يُضاف أنه ظاهرة عصرٍ وأنه ينتمي إلى عصره، فإنما يُقال الحق حتى ولو استخدم ساد، جلياً، للتنديد بالإلحاد المادي، وحتى ولو سارع البعض، في الوقت نفسه، إلى ردّ المغالاة الموجودة عند ساد إلى لا أخلاقية العصر. يُقال الحق باستثناء أن ساد لا يسعى قطعاً في كتبه إلى التبرؤ من سلوكه الذي كان يبدو له دائماً عادياً للغاية، وأنه، مع ذلك، إذا كان هذا تبريراً، فإنه تبرير أحمق، إذ يميل إلى إظهاره فرضيا بأنه مذنب في جرائم هائلة لم يقترب منها أبداً. لكن، أن يفتِّش عن معنى لفكره الذي لا يميّزه، بحق، عن مقدرته التخيّلية، وأن يتساءل على طريقة التأكيد: لماذا يمكن أن أتصوَّر ذلك؟ وإلى أي حدّ من التخيّل الزائد يمكن أن أصل؟ وماذا يعني هذا النزق، وهذه الحركة الرائعة، وربما الفريدة، إنما غير مخصَّصة قطعاً، كما هي، لي وحدي والتي يكمن أساسها في سبب خفيّ؟ فصحيح تماماً أن ذاك هو اهتمامه وأن هذا الاهتمام، الماثل في كلّ نتاجه، يتوكد فيه باستمرار كعمل عقل أكبر، سواء كان هذا العقل يتهيّأ أم يتغيّر أم يتهيّأ بالانهيار. إنما لماذا صفة الجدلية؟ أو ليس هناك شيء من المجاملة أو من التهوّر في قول هذه الكلمة الموعودة بمستقبل كبير إلى هذا الحدّ؟ ساد ليس هيغل، فثمة بون بينهما. لكنني لا أرى أية مفارقة تاريخية في إطلاق صفة الجدلية بالمعنى الحديث على الطموح السادي* أساساً إلى بناء سيادة الإنسان العاقلة على قدرة إنكارية متعالية، وهي سلطة لا يفوته أن يقرّ بها لمبدأ أوضح وأبسط عقلٍ وضعي. كيف تُبين هذه القدرة الإنكارية اللامحدودة وتلغي دورياً، بتجربة دائرية، مفاهيم الإنسان والله والطبيعة لتؤكّد في النهاية الإنسان الكامل «الإنسان الفريد من نوعه»، وكيف ينتهي إذاً إنكار لا متناه، بتطابقه مع كل مراحل تجربته –تطابقاً ليس توفيقاً بل حدث خاطف- إلى التماسك كتأكيد هو أيضاً لا متناه، فإنني أعتقد أنه لا يسعنا قراءة ساد دون الاعتراف بأن هذه هي بالضبط حقيقة الحركات المشوَّشة التي ستكشف نفسها في نتاج واسع.
– إنها تستكشف نفسها فيه بواسطة حركة الكتابة. وهذا هو الشكل الثالث الذي يظهر فيه اعتدال عقل مفرط. فالكتابة هي جنون ساد الخاص. لا يفتَّش عن هذا الجنون في انحرافات أخلاقه التي سمّاها هو نفسه بهذا الاسم دون تردّد، والتي يرى فيها إما مجرّد نتيجة لجبلته ومزاجه وإما، على نحو أبرز، علامة على حريته، تلك التي، بتنحيته جانباً، تحرّره من الأحكام المسبقة لمجتمعه إلى حدّ التأكيد بأنه سيتخلى بشدّة عن هذا المجتمع يوم يكفّ هذا الأخير عن مقاومتها. إنه لتصريح رائع. وبسرعة كبيرة، يكفّ عن التفريق بين نفسه وعزلة سجنه، ومن هذه العزلة الدفينة التي كانت ترعبه [مضاعفاً: هي بنفسها، ومن خلال العقاب الذي كانت تمثّله له] نشأت وانطلقت، حين انقلب الرعب إلى اغراء. الحاجة إلى الكتابة المتعذّر كبتها، كطاقة كلامية مخيفة لم تعد تهدأ. ينبغي قول كلّ شيء. فأوّل الحريات هي حرية قول كلّ شيء. وهكذا يعبّر، على شكل مطالبة ملازمة من الآن فصاعداً لجمهورية حقيقية، عن الضرورة الأساسية. غير أن “الكل” المقصود في حرية قول كل شيء هذه، لم يعد فقط شمولية المعرفة الموسوعية [ولو كانت معرفة إمكاناتنا المنحرفة] ولا حتى مجمل تجربة يتحقَّق فيها المعنى بحركة إنكار موصلة إلى نهايتها –خطاب دائري هو إذاً التأكيد، المبثوث والمنجز، على السيطرة على كلّ شيء.
إن قول كلّ شيء عند ساد، كل ما يُسمع في كتبه كاجترار هائل لكلام أبدي، واضح أبديًا، وفارغ أبدياً، يذهب إلى أبعد من ذلك أيضاً. لم يعد المقصود هو كل الممكن الذي يقدَّم ويُبان فيه. وهو ليس أيضاً –كما ظُنّ بسهولة زائدة –عموم القيم التي يمنعنا دين أو مجتمع أو أخلاق من التعبير عنها. المحظور يلعب دوره قطعاً، في حركة اللاتحديد هذه، كحدّ يجب تجاوزه. لكنّ هذا ليس إطلاقاً الحدّ النهائي. وفي وسع ساد أن يحسّ بمتعة، بمتعة عادية صحية، في المشاهد القوية التي يتخيّلها، حيث تُهزّأ جميع حقائق عصره وحيث يقول ما لا يُقال، وينصح بالرعب. فتوجيه السبِّاب وتظيم الشرّ والدفاع عن الشهوات الإجرام، كلّ ذلك هو بالنسبة إليه أقل شيء لا يحرم نفسه منه، إنما لا مجال لأن يكتفي به. فثمة شيء أعنف يتجلّى في جنون الكتابة هذا؛ عنف لا يفلح في استنفاده أو تهدئته كل إفراط خيالٍ رائع أو شرس، إنما دائماً أقل من احتداد كلام لا يحتمل التوقيف مثلما لا يتصوّر نهاية. عنف قوي بقدر ما هو بسيط، يتوكدّ بكلام لا لبس فيه، خال من كلّ قصد خفيّ، يقول دائماً كل شيء بلا تكلّف ولا يتصنّع بشيء، متكلّماً هكذا بطهارة، خالياً فعلاً من تلك البذاءة غير المحتشمة التي ستعكّر بها الكلام قريباً انفعالات شاتوبريان العظيمة، دون أن يندّد به أي قانون. هنا تُردّ الوقاحة الكبرى إلى القوة التكرارية فحسب، وهي وقاحة سرد لا يصدم بالمحظور لأنه لم يعد ثمّة محظور آخر [كل هذا النتاج –الحدّ يخبرنا إياه برتابة إشاعته المخيفة] غير وقت ما بين القول (l’entr-dire)، ذلك التوقف الصرف الذي لا يمكننا بلوغه إلاّ بالاستمرار دوماً في الكلام.
4- الكتابة هي جنون ساد الخاص. والحرية لا تخلّص من هذا الجنون، الذي سبّبه السجن أو على الأقل أوصله إلى ما هو عليه، من قوة غامضة وخفيّة دوماً، إنما هي تضيف إليه بالأحرى جنوناً آخر يجعله يعتقد بأن في وسعه أن يتوكّد في وضح النهار، وكأنه مخزون أو مستقبل الإمكانات المشتركة. وهكذا تتزامن للحظة –الوقت الذي تلتقي فيه الثورة والفلسفة وراء قضبان الحديد(2)– هاتان الفُرجتان التاريخيتان، المختلفتان كثيراً طبعاً، واللتان تبقى إحداهما ذكراً دائماً وتفتح التاريخ بينما تُشكّل الأخرى ما يريد التاريخ دوماً أن ينغلق عليه. لن أدخل في فحص سلوك ساد السياسي خلال السنوات التي كان فيها، على نحو يضايق كثيراً فاضلي الثورة ويرضي كثيراً فاضلي الثورة المضادة، “مواطناً نشيطاً”، يتكلّم ويكتب ضد الملك، ويتكلّم ويكتب إكراماً لمارا (Marat)، وحيث ظهر في الجمعية التأسيسية فخطب أيضاً وترأس خليّة البستوني [خليّة روبسپيير]، واقترح عبادة لا آلهة، ودافع عن أفكاره الخاصة حول مفهوم السيادة وانتزع تبنّيها، وأطلق أسماء ثورية على شوارع باريس، وكان حتى عضواً محلّفاً، بكل سرور، في هيئة اتهامية. ويمكننا أن نتناقش بلا كلل حول مشاعره، وحول ما إذا كان متوافقاً أم لا، بصدق أو برياء، مع سلوكه وتصاريحه الخارجية. لا أظن أن في ذلك لغزاً كبيراً. فهو نفسه غيّر رأيه. وقد صحّ ذلك على الجميع، حتى على سان جوست وروبسبيير اللذين لم يكونا أول من طالب بسقوط الملكية –وذلك ببساطة لأن حقيقة الأحداث كانت تتفوّق على الأفكار دائماً. لقد كان حذراً، إنما بدون حذر حقيقي، ولم يكن دائماً كثير التقلّب، ذاك التقلب الذي يعني الوفاء لسرعة الصيرورة. ولأنه حذر، فإن شيئاً لم يمنعه من البقاء بعيداً أو محاولة الهرب: كان بمقدوره ذلك. حتى لو أخذنا في الاعتبار كل الأسباب الأخرى التي كانت تحمله على البقاء في باريس، فقلّما كان هناك شك في أنه سيبدي أشدّ الاهتمام بما كان يحدث وبأن جزءاً كبيراً منه يجد نفسه في ذلك. أي جزء؟ ذلك الجزء الغامض [الغريب] الذي كان يحكم عليه بالكتابة بلا نهاية دون أن يتمكن من أن يجعل منه كاتباً حقيقياً، مستساغاً اجتماعياً. أعتقد أن كلمة توافق هي الأصحّ. فمع ساد –وبدرجة عالية جداً من الحقيقة المفارقة- لدينا أول مثل [ولكن هل ثمة مثل ثان؟] على الطريقة التي يمكن أن تتوافق بها الكتابة، وحرية الكتابة، مع حركة الحرية الحقيقية عندما تقع هذه الأخيرة في أزمة وتسبب فراغاً تاريخياً. لكنّ هذا التوافق ليس تماهياً. وليست دوافع ساد هي تلك التي أطلقت الطاقة الثورية. إنها تناقضها حتى. ومع ذلك، لولاها، ولولا المغالاة المجنونة التي مثلها اسم ساد وحياته وحقيقته، لحُرمت الثورة من قسط من عقلها.
5- لتكوين فكرة عن تصورات ساد السياسية، أظنّ أنه يكفي الاستشهاد بنصوص قليلة. فعنوان الكتيّب(3) ذاته، المتّسم بتهكّم خفي، يكلّمنا بوضوح كاف. فهو يقول إنه لا يكفي أن يكون المرء في جمهورية حتى يكون جمهورياً؛ ولا أن يكون عنده دستور حتى يكون في جمهورية؛ ولا أخيراً أن تكون عنده قوانين حتى يدوم الفعل التأسيسي، تلك السلطة المبدعة، ويبقينا في حالة تكوّن مستمرّ. ينبغي بذل جهد –ومزيد من الجهد باستمرار- وهنا التهكّم الخفي. من هنا الاستنتاج المضمر بأن العصر الثوري مازال في بدايته. إنما من أي نوع سيكون هذا الجهد؟ ومن سيطلبه منّا؟ ساد يسميه تمرّداً، وهو الحالة الدائمة للجمهورية. بتعبير آخر، فإن الجمهورية لا تعرف حالة بلا حركة فقط –وهي في ذلك مماثلة للطبيعة. وهذا الاهتزاز الدائم ضروري أولاً لأن الحكومة الجمهورية مُحاطة بحكومات معادية تكرهها أو تحسدها [فرضية المحاصرة]: لا سلام للإنسان الذي استيقظ دفعة واحدة؛ فالتيقّظ الثوري يستبعد كل هدوء، ومذ ذاك، يكون السبيل الوحيد للبقاء هو عدم اعتماد نهج محافظ أي عدم الراحة. وهو موقف يعتبره ساد متناقضاً مع الأخلاقية العادية التي ليست سوى جمود وركود: «حالة الإنسان الأخلاقية هي حالة سلام وهدوء بينما حالته اللاأخلاقية هي حالة حركة دائمة تقرّبه من التمرّد الضروري الذي يتعيّن على الجمهوري أن يبقى فيه دوماً الحكم الذي هو عضو فيه». هو ذا سبب أول، إنما هناك سبب آخر يُعطي لنا بتفكير جريء جداً: إن كلّ الأمم التي تريد أن تحكم نفسها اليوم في جمهورية ليست مهدَّدة فقط بالعنف الخارجي: فهي بنفسها، بماضيها، عنيفة أصلاً من الداخل أو مجرمة وفاسدة، حسب مصطلح العصر. فكيف ستتغلَّب على هذا العنف القائم الموروث إن لم يكن بعنف أقوى، وأرعب أيضاً، بما أنه بلا تراث، وأصلي تقريباً؟ إن الفضيلة التي يضعها كلّ المشرّعين في أساس الجمهورية لا تناسبها إلاّ إذا كان بوسعنا بلوغها دون ماضٍ، خارج التاريخ نفسه وببدء التاريخ معها. لكننا أصلاً في التاريخ وفي الجريمة ولن نخرج منهما دون المزايدة في العنف والإجرام. [فرضية نقرّ بها تماماً، ولا يكفي أن نسخط عليها بتسميتها هيغلية لمنعها من أن تكون حقيقة]. ولكن، هل سنخرج منها يوماً؟ وما سيكون الفرق؟ ماذا نكون قد كسبنا؟ أولاً تغيير مصطلحي: فما كان يسمى جريمة سوف يسمّى طاقة: إنه تغيير غير مهم، ومع ذلك، تترتب عليه نتائج جسام. فالعالم المقبل لن يكون عالم قيم. فلا الخير ولا الشر سيكونان قطبيه؛ ولا الفضيلة ولا الرذيلة، إنما العلاقة بهذا الأساس التي يستجيب لها، بالتماهي، الإثبات والنفي المدفوعين إلى أوجهما. عندما يقول ساد: «كلّ شيء جيد عندما يكون مفرطاً»، فإن هذا الإفراط الذي يختلف عن حالة الغليان ويمرّ بما يسمّيه دولمانسيه (Dolmancé) الخمول، والذي هو حالة توتر شديد وفقدان واضح للإحساس، يدلّ على الأخلاقية الوحيدة للإنسان الطاقي كما يدل على نوع السيادة التي يمكن أن يطمح إليها في حركة الحرية هذه حيث لم يعد يشعر، ولو مركَّزاً في ذاته، أنه متميّز عن الانحلال الذي هو السمة المشتركة للكل. الإفراط، الطاقة، الانحلال، تلك هي الكلمات الرئيسة للعصر الجديد(4).
6- لنُعِد الآن القراءة الكاملة للمقطعين اللذين ألمحتُ إليهما. أظن أننا سنفهمهما بوجه أفضل إنطلاقاً من الفكرة الشاملة التي يجدان موضعهما فيها. «لقد شعر مشرّعو اليونان تماماً بالضرورة المهمة لإفساد الأعضاء، حتى ينجم عن انحلالها الأخلاقي المؤثر على ذاك المفيد للجسم، التمرّدُ الضروري دوماً في حكم موفَّق تماماً، كالحكم الجمهوري، لابدّ من أن يثير كره وحسد كل ما يحيط به. كان هؤلاء المشرّعون يعتقدون أن التمرّد ليس قط حال أخلاقية: مع ذلك، يجب أن يكون الحالة الدائمة لجمهورية؛ وسيكون إذاً من المحال ومن الخطر الاشتراط بأن يكون الذين يتعيّن عليهم الإبقاء على الاهتزاز اللاأخلاقي، الدائم للجسم، بأن يكونوا هم أنفسهم أشخاصاً فاضلين جداً لأن الحالة الأخلاقية لإنسان ما هي حالة سلام وهدوء بينما حالته اللاأخلاقية هي حالة حركة دائمة تقرّبه من التمرّد الضروري الذي يتعيّن على الجمهوري أن يبقي فيه دوماً الحكم الذي هو عضو فيه». وهو ذا النص الثاني الذي لا يقل عنه وضوحاً: «ثمة تفكير خاص جداً يخطر لي هنا، لكن، بما أنه صحيح رغم جرأته، فسأفصح عنه. إن أمّة تبدأ بحكم ذاتها في جمهورية. لن تقف على قدميها إلا بواسطة فضائل، لأنه للوصول إلى الأكثر، لابد من البدء دوماً بالأقل؛ غير أن أمة قديمة وفاسدة أصلاً، تريد أن تتمرّد بشجاعة على الحكم الملكي لتعتمد حكماً جمهورياً، لن تصمد إلا بجرائم كثيرة؛ ذلك لأنها الآن في الجريمة، وإذا كانت تريد الانتقال من الجريمة إلى الفضيلة أي من حالة عنيفة إلى حالة هادئة، فستقع في جمود ينتج عنه سريعاً انهيارها الأكيد»(5). إنني بقراءتي ثانيةً لهذا المقطع، أقرّ بأن كلمة جريمة ضرورية تماماً ويجب أن تحافظ فيه على طاقتها الاستحضارية والتحريضية. فللجريمة قوةُ بريق، وحريةُ تحدٍّ، وروعةُ استدعاء تثير دائماً لسان ساد وقلبه على السواء، لكنها ليست أقل إثارة للغة الثورة الصارمة. فهل هو ساد أم سان جوست الذي قال: «لا شيء يشبه الفضيلة مثل جريمة كبرى»؟ وذلك التأكيد الأكثر لغزاً مما يبدو عليه: «الفضيلة تتطابق مع الجريمة في زمن الفوضى» -وتلك النصيحة المخصَّصة لتُدوي بشدّة في جمعية اليعقوبيين: «سلّحوا الفضيلة بحذق الجريمة ضد الجريمة»، حيث يكفي، بقصد الصراحة، أن نستبدل الحذق بالعنف –كيف يمكن أن يكون صواب الفعل هنا إلاّ عنيفاً؟- حتى نهتدي إلى الجوهري عند ساد. أخيراً، عندما يمدح سان جوست الطاقة منذ خطابه الأول، بقوله عنها: «الطاقة ليست القوة»، فإنه يقول شيئاً يحاول كل نتاج ساد أن يقوله أيضاً بمزيد من الاحتداد. [أذكّر بالعبرة الأخيرة لمؤلف جوستيين وجولييت: لا يكون البشر سعداء أو تعساء حسب الكثير أو اليسير من الفضيلة أو الرذيلة، إنما حسب الطاقة التي يظهرونها، لأن «السعادة تتوقف على طاقة المبادئ ولا يمكن أن يمتلكها من يتردد باستمرار»] لنقرأ أيضاً سان جوست «الحل هو تمرّد العقول الفعلي»، وساد: «يجب أن يكون التمرد هو الحالة الدائمة للجمهورية». فما الذي يميّز لا أقول بين هذين الرجلين الغريبين عن بعضهما بقدر ما يمكن أن يكونه رجلان متعاصران قريبان الواحد من الآخر، إنما بين هذين الحُكمين المطلقين بالتساوي؟ إن ذلك واضح. ففي رأي ساد أن التمرد يجب أن يكون تمرّد العادات وتمرّد الأفكار على السواء؛ يجب أن يطال كل الإنسان وكلّ ما في الإنسان؛ بل أكثر من ذلك: إن التخريب المستمر والمفرط في آن سوف يشكّل السمة الدائمة لحياتنا المرفوعة باستمرار إلى أعلى درجاتها، أي إلى أقرب نقطة من نهايتها، بما أنه حيث توجد الطاقة، كإدخار للقوى، توجد الطاقة، كإنفاق للقوى، وهذا إيجاب لا يتحقق إلا بأكبر قدر من السلب. أفهم أن يندَّد هنا باليوتوبيا وبخطر اليوتوبيا [التي تتميّز على الأقل بعدم كونها فقط يوتوبيا الشرّ]. إنما لندع الآراء جانباً.
7- ثمة نص ثالث من شأنه أن يساعدنا على توجيه تأويلنا بشكل أفضل. إنني أقتبسه من الجزء الرابع من قصة جولييت: «حكم القوانين فاسد؛ وهو أدنى من حكم الفوضى. وأكبر دليل على ما أقول هو ضرورة أن يغرق الحكم نفسه في الفوضى عندما يريد أن يصلح دستوره. لكي يلغي قوانينه القديمة، فإنه مضطرّ لإقامة نظام ثوري حيث لا قوانين قط؛ وعن هذا النظام تنشأ في النهاية قوانين جديدة، لكن هذه الحالة الثانية هي حتماً أقل صفاء من الأولى، بما أنها مشتقة منها، وبما أنه كان لابد من تلك الأولى، أي الفوضى، للوصول إلى الثانية، أي تكوين الدولة». إنه نص واضح ظاهراً وموضَّح أيضاً بنصوص أخرى كثيرة حيث نسمع ساد وهو يؤكد بأنه لا يوجد حكم حرّ واحد –ولأي سبب؟ لأن الإنسان هو وسيكون، في كلّ مكان، ضحية القوانين. فالقوانين قادرة على ظلم يجعلها باستمرار أخطر من أي نزوة فردية. إن الشهوة الخطرة لإنسان فرد قد تؤذيني، إنما في النطاق الذي ستحدّده لها شهوتي الخاصة. أما القانون الذي يُلزمني في كل مكان، فلا مجال للطعن فيه: القانون يقضي بأن أكون دائماً محروماً من نفسي، ودائماً بلا شهوة، أي قليل الذكاء وعما قريب غبيّاً. من هنا تلك الانتقادات التي تتكرّر بكل الأشكال: القانون جائر لأنه يملك السلطة ويغتصب السيادة، التي لا ينبغي أن يفوَّض أمرها أبداً فيما يخصّ الأساس؛ والقانون، المبتكر لاحتواء أهواء جاري قد يحميني، لكنه يتركني بلا ضمانة ضد تأكيدات القانون الخاصة، الأكثر فساداً والأكثر قسوةً، لأنها لا تمثّل أبداً شيئاً حراً، ولا تمثل غير قوة باردة، عديمة الحرية؛ وهي أخيراً تضعف وتزيّف علاقات الإنسان الصحيحة، سواء مع الطبيعة أو مع مستقبل المعرفة: «لولا القوانين والأديان، لكان مستوى المجد والعظمة الذي كانت ستبلغه اليوم المعارف الإنسانية متعذّر التصوّر؛ فمن الغريب كم أخّرت هذه الكوابح المعيبة مسار التقدم… إننا نجرؤ على التنديد بالأهواء، ونجرؤ على تقييدها بقوانين… وإلى الأهواء الشديدة وحدها يُعزى الإبداع وروائع الفنون… إن الأفراد الذين لا تحرّكهم أهواء شديدة ليسوا سوى أناس قليلي الذكاء؛ فالمرء يصبح غبيّاً عندما لا يعود صاحب هوىً»(6). إنها سلسلة قناعات ينهيها هذا التأكيد المذهل: «لا تتفجَّر الأعمال العظيمة إلا لحظة صمت القوانين»، لكن من الواضح أن تأكيداً كهذا سيظل عديم الأهمية، وإنه من الأفضل الاكتفاء بخلاصة تنمّ عن تسوية: إذا كان لابدّ من قوانين، فيجب أن تكون قليلة العدد وليّنة؛ وإذا كان لابدّ من أن “تعاقب” الذين نستمرّ في تسميتهم مذنبين، فلا ينبغي أن تطمح إلى إصلاحهم؛ أخيراً، يجب ألاّ تتعدى أبداً على الحياة نفسها، ويستحيل التساهل حول هذه النقطة، لأنه إذا لم يكن بوسع شعب ما أن يظهر حقه في السيادة فكيف سيكون باستطاعته أن يفوّض حقه في الحياة، يعني بالنهاية حقه في الموت؟ «أياً كان الاحترام الذي تفرضه عليّ سلطة جان جاك روسّو، فإنني لا أسامحك، أيها الرجل العظيم، على كونك قد برّرت حق الموت…» إنه إخطار لا يصدر في الحقيقة عن ساد، بل عن سان جوست مرة أخرى. مما لا يعني أن هذا الأخير قد جعل مطلب الفوضى مطلبه. فلا شيء كان سيرعبه أكثر من ذلك. ويبدو لي أن لكلمة قانون، في فمه، عندما يلفظها، الصدى الغريب ذاته والصفاء ذاته اللذين يكونان لكلمة جريمة في فم ساد. مع ذلك، وبالضبط لأن القانون هو دائماً فوق القوانين ولأنه دائماً محقَّر من قبل القواعد، فإن سان جوست يطالب، هو أيضاً، بأن يكون هناك عدد قليل من هذه القوانين [«حيث يوجد الكثير منها، يكون الشعب عبداً»]. ويؤكد أن القوانين المديدة هي كوارث عامة، وأنه يرفض كل ما من شأنه أن يقدّس باسم القانون قوة القمع المدنية، التي يقول عنها بصلابته المهيبة: «أنا لا أرضى بأن أخضع لأي قانون يفترضني كافراً بالنعمة وفاسداً». وفي موضع آخر، في جملة مقتضبة تعبّر عن كل شيء تقريباً، يقول: «في البدء، ليس للمواطن علاقات إلا مع ضميره والأخلاق؛ إذا نسيهما، تكون له تلك العلاقة مع القانون؛ وإذا احتقر القانون، لا يعود مواطناً: هنا تبدأ علاقته مع السلطة». ينتج عن ذلك أن القانون ليس سوى بداية سياق طويل من التقهقر تصبح السلطة في نهايته، وقد غدت قمعية، غارقة في القوانين، مثلما حدث في ظل الملكية. «أما الخضوع للقوانين، فليس هذا واضحاً»، «القوانين المفرطة تقابلها مؤسسات مدنية دون الكفاية». «إذا أردتم تأسيس جمهورية، انتزعوا من الشعب أقل ما يمكن من السلطة». «إذا أردتم إعادة الإنسان إلى الحرية، فلا تضعوا قوانين إلا له، ولا ترهقوه تحت ثقل السلطة». في ظل الملكية «كان القانون يصنع من أطهر الميول جريمة» –إنها حكمة على وزن البحر الإسكندري كان ساد مهيّأً دوماً لتقبّلها، مثلما كان يعترف دائماً بأن «الاستبداد معنيّ برخاوة الشعب»، لأن الاستبداد لا يقوى إلا من ضنى الطاقة، القادرة وحدها على الحد منه، والتي هي المبدأ الصحيح الوحيد في نظر ساد.
8- يسمّي ساد إذاً نظاماً ثورياً الزمن الصرف حيث يُبقي التاريخ المعلَّق ذكراً دائماً، وذلك الزمن الحالّ في أثناء ذلك (temps de l’entre-temps) حيث يسود بين القوانين القديمة والقوانين الجديدة صمت غياب القوانين، وتلك المدة التي تطابق بالضبط فترة ما بين القول حيث ينتهي كلّ شيء ويتوقَّف، بما فيه دافع التكلم الأبدي، لأنه لا يعود حينئذٍ ممنوعاً. إنه لحظة الإفراط والانحلال والطاقة التي لا يعود الإنسان خلالها –كما سيقول هيغل بعد سنوات قليلة- سوى حركة اللانهاية التي تلغي ذاتها بذاتها وتولد باستمرار في زوالها، و«مفسقة الحقيقة حيث لا يستطيع أحد أن يظلّ زاهداً». إن لحظة الجنون الصامت هذه، المعلَّقة باستمرار، هي أيضاً اللحظة التي يبلغ فيها الإنسان، في توقف يتوكد فيه، سيادته الحقيقية، بما أنه لا يعود هو نفسه فقط ولا الطبيعة فقط –الإنسان الطبيعي-، بل ما ليست عليه الطبيعة أبداً: الوعي بالقدرة اللامحدودة على التدمير، أي على الإنكار، التي بواسطتها يتكوَّن وينحلّ باستمرار. تلك هي النقطة القصوى لفكر ساد التي لا يستقر فيها دائماً إنما التي ينزع ويصل إليها. خصوصاً في الجزئين الثامن والتاسع من “جوستين الجديدة”. وحيث لا تبذل جولييت، في صرخات رائعة، جهداً أقل لرفض الطبيعة من ذاك الذي بذلته لرفض القوانين والأخلاق والدين. فالطبيعة، كما تقول، ليست أكثر حقيقة من الله نفسه. «آه، أيتها الصبيّة، إنك تخدعيني ربما، مثلما كنت مخدوعة سابقاً بالخرافة الإلهية الكريهة التي قيل إنك خاضعة لها. إننا لا نخضع لك أكثر مما نخضع لها». «أجل، يا صديقي، أجل، إنني أكره الطبيعة». وهكذا، في لحظة من اللحظات، في تلك اللحظة الخارقة التي يخصّها ساد بصفة الثورية، تصمت القوانين، القوانين الاجتماعية والقوانين الأخلاقية والقوانين الطبيعية، وذلك كي تخلي المكان لا لهدوء أي عدم كان –كعدم ما قبل الولادة مثلاً-، إنما لتلك القدرة على الانحلال التي يحملها الإنسان في ذاته مثل مستقبله، والتي هي حبور الإهانة [لم يكن في هذا الاقتراب للّحظة العاصفة القصوى أي شيء كئيب في النهاية، ولم يكن فيها غير روعة وبشاشة]. وحاجة إلى التجاوز هي قلب العقل، الذي هو طبعاً خطر، مرعب، بل الرعب عينه بالمعنى الحصري، إنما الذي لا يُنتظر منه أي شيء مشؤوم، ولكن بشرط واحد: «عدم الافتقار أبداً إلى القوة اللازمة لتجاوز الحدود الأخيرة»، تماماً مثلما يقول سان جوست، بكلمة يجعلها إيجازها مرتعدة: «الفضيلة هي مبدأ الحكم الجمهوري، إن لم يكن الرعب».
9- إن ساد، الذي أُفرج عنه في نيسان 1790م اعتقل كمشتبه في كانون الأول 1793م، قد أسهم خلال أربع سنوات تقريباً في قيام الجمهورية، وشارك خلال ستة عشر شهراً في الثورة، لا في واجهة المسرح إنما كرجل له دور عام، يتكلّم باسم الشعب ويمارس وظائف هامة. لا يمكن نسيان ذلك. فثمة شيء من ساد يخصّ عهد الرعب كما أن شيئاً من عهد الرعب يخص ساد. إننا نتذكر النص الشهير الذي يشبه إحدى صور إپينال (Epinal): «يقال إنه عندما تعب روبيسبير وكوتون وسان جوست وكولو ووزراؤه من أعمال القتل والإدانات، وعندما شعرت هذه القلوب القاسية ببعض التبكيت، وعند رؤية الأحكام العديدة التي كان يجب عليهم أن يوقّعوها، كانت الريشة تفلت من أصابعهم فيمضون إلى قراءة بعض صفحات من جوستين ويعودون للتوقيع». إن هذا النص المكتوب سنة 1797م بقلم ڤييه (Villers)، لم يُكتب للتنديد بـ ساد ككاتب لاأخلاقي فحسب إنما لتعريضه للخطر بجعله شريكاً لأسياد الثورة. وهذا النص، في حماقته، يقول مع ذلك شيئاً صحيحاً، بمقدار ما يلتقي فيه رجال متعارضون حول ما تنطوي عليه حرية حركتهم من إفراط وحول ذلك الاعتقاد المشترك بأن تجربة الحرية تمرّ دوماً بلحظة قصوى: من يجهلها، يجهل كل شيء عنها. إذاً، ما الذي يميّز هؤلاء الرجال المعتبرين كلهم سفلة؟ يبدو ذلك في بادئ الأمر بدهياً. عندما صعد سان جوست آخر مرة إلى منبر المجلس قبل التاسع من ترميدور ليرسم عن الإنسان الثوري صورة مكوَّنة من مبادئ راسخة: الثوري هو إنسان صلب، عاقل، زاهد، وبسيط، إنه العدو اللدود لكل رياء، لكل تساهل، لكل تكلّف، إنه بطل الرشاد والاستقامة(7)، فإن هذه الصورة الأخلاقية لا تشبه تلك التي قد تُرسم عن الإنسان الكامل، إلاّ فيما يختصّ بصلابة المبادئ –ذلك أن أرباب الفسق أيضاً هم بدورهم زاهدون بفعل الشبع وفاترون بفعل الحساسية الزائدة ومتقشفون بفعل الإفراط في المتعة، وبسطاء بفعل التجرد من كل خبث. عندما يأخذ سان جوست على ديمولين (Desmoulins) في أثناء اتهامه، بأنه قال: الشرف مثير للسخرية، المجد والخلود غباء فإن هذا المأخذ كان يطال ساد أيضاً، لكنه كان، في رأيي، مديحاً له، لأن كلمة مجد هذه، التي نجدها في جميع خطابات ذلك العصر والتي هي أيضاً على لسان جان بول مارا، لا نصادفها أبداً تقريباً في كتابات ساد الذي لا يرى فيها أيضاً سوى وهم، مثلما لا يرى في الخلود سوى غش بارد الأسلوب(8) [ولابدّ من الإيضاح أيضاً بأن مآخذ سان جوست كان يستهدف في ديمولين المتشكّك اللطيف، في حين كره الأحكام السبقية، عند ساد، وما سيُسمّى فيما بعد ضرورة العقل النقدي، أي شغف الإنكار المحض، هو الذي يمنعه من الاكتفاء بهذه القيم المعترف بها بسهولة مفرطة]. وأخيراً، عندما يستنكر سان جوست انحلال الأخلاق بإلحادية النفوس(9) ففي هذه النقطة ربما، سوف نجد أشدّ الاختلاف بين الفلسفتين –إن لم يكن بين الرجلين– وهنا أيضاً أجيز لنفسي بأن أقول إنه لصالح ساد كذلك. «إننا مغمورون بكتابات محرَّفة: هنا تؤلَّه الإلحادية المتعصّبة والمتزمّتة؛ فنخال أن الكاهن أصبح ملحداً وأن الملحد أصبح كاهناً. يجب الكفّ عن الكلام في هذا الموضوع! إننا بحاجة إلى الطاقة: فيقترحون علينا الهذيان والضعف». إنه اتهام يستهدف المشبوهين المعتقلين أصلاً والذين يوجد في عدادهم، وفي ذلك التاريخ بالذات، الماركيز دو ساد. أن يكون قد اعتقل بسبب العلاقات التي كانت له سنة 1971م أم بسبب معارضته للتدابير التي اعتبرها جذرية فوق الحدّ [مثلاً، إنشاء جيش ثوري في باريس، أشبه بنوع من حرس الطاغية الذي أوشك أن يكون، في نظره، ملاذاً للطمّاعين والغاصبين، ومرة أخرى، أبى أن يعرض على التصويت، كونه رئيساً لخليته، “عملاً فظيعاً” و”وحشياً”]، أم ببساطة لأنه كان يجذب المواقف التشهيرية باستمرار، كونه ارستقراطياً ومتهوّراً، فهذا صحيح ومحتمل. أما أن يكون أيضاً قد عرّض نفسه للشبهة بسبب تعصبه الإلحادي، فإنني أصدّق ذلك بطيبة خاطر: ذاك أنه قبل ثلاثة أسابيع من اعتقاله، خطب على منصة الجمعية التأسيسية مدافعاً عن مشروع عبادة للفضائل كان قد احتفل بها، بالأناشيد والبخور، على مذابح الكثلكة المحوَّلة لغرض آخر- وبأية عبارات؟ بعبارات يتحدَّث فيها عن نفسه، بطريقة تكاد تكون مكشوفة: «طالما سخرت الفلسفة خفيةً من حركات الكثلكة المضحكة؛ أما إذا كانت قد تجاسرت على رفع صوتها فقد كان ذلك في زنزانات قلعة الباستيل حيث ألزمها الصمت بعد قليل استبدادُ الوزارة. «إيه! من قال إن الاستبداد لم يدعم الاعتقاد الباطل؟…» وقبل ذلك بقليل، قال: «لقد أزال عهد الفلسفة أخيراً عهد الدجل؛ أخيراً، استنار الإنسان، فحطّم بيدٍ اللعب التافهة لدين عبثي وأقام باليد الأخرى مذبحاً لأعزّ إله على قلبه. فقد حلّ العقل محلّ مريم في معابدنا…» لقد حظي مشروع الإلحادية البارزة هذا [بما أنه لم ترد فيه، إطلاقاً، أية إشارة إلى أي كائن أسمى] بالتقريظ، إنما كان لابدّ من أن يسترعي الانتباه المعادي لأولئك الذين كانوا يستلمون الحكم، والذين كانوا كلهم تقريباً من عابدي اللّه وحده وكانوا يخشون، فوق ذلك، من أن تشكّل مثل هذه العبادة المُشركة، المثيرة لعموم الشعب الذي لماّ يزل كاثوليكياً، ذريعة لمبادرات الثورة المضادة. إن موطن القوة عند المرء هو غالباً سبب هلاكه. فكان لابدّ من أن يصحّ ذلك على ساد. كانت الإلحادية معتقده الأساسي، وشغفه، ومقياسه للحرية. حين كان سجيناً في الباستيل، رجته السيدة دو ساد أن يخفي مشاعره؛ فردّ بأنه يفضّل الموت ألف مرة على إخفاء حقيقته، ولو في رسائل شخصية، ومن أول كتاباته “حوار كاهن محتضر” الشهير حيث يعبّر أبلغ تعبير عمّا سيحافظ عليه دائماً وحتى النهاية: اليقين بالعدم. إنه لم يرعبني قط، وإنني لا أرى فيه غير التعزية والبساطة؛ كل الأنظمة الأخرى هي من صنع التكبّر، أما هذا فهو وحده من صنع العقل». إنه تصريح ينبغي ضمّه إلى تصريح إحدى شخصياته: إذا كانت الإلحادية تريد شهداء، فلتقل ذلك، ودمي جاهز تماماً»، كما ينبغي ضمّه أخيراً إلى ذلك التأكيد، الذي هو أحد أكثر تأكيدات ساد حسماً وأحد مفاتيح النظام، حيث جاء: «إن فكرة الله هي الخطأ الوحيد الذي لا يسعني أن أغفره للإنسان». فالله هو الخطيئة الأصلية، تلك التي تفسّر كوننا عاجزين عن الحكم ببراءة.
10- نجا رأس ساد من المقصلة بفرق ضئيل، وذلك بفعل الخطأ ليس إلاّ؛ ولو لم ينجُ منها، لكان عهد الرعب قد قدَّم لنا شهيد الإلحادية، بفعل سوء فهم آخر.
لقد أُطلق سراحه في شهر تشرين الأول 1794م، بعد تحقيق وبعد شهادة من خليّة البستوني، التي كانت قد أذلَّته في بادئ الأمر [أيام روبسبيير] آخذةً عليه قوله إنه يتعذّر ممارسة الحكم الديمقراطي في فرنسا(10)، لكنها عادت الآن لتمدح حسّه المدني ومبادئه كوطني صالح، فبدأ آخر حياته كرجل حرّ. والحالة هذه، ماذا يفعل؟ كلّ ما يلزم لتقويض هذه الحرية التي يتعلّق بها كثيراً. هذا لا يعني أنه يسيء التصرف. فبعد أن انفصل منذ 1790م عن المتقشفة رينيه دو ساد، التي حرّرها حيناً من فضيلتها ثم وقعت ثانية في اللامبالاة، عاش حياة زوجية مع شابة ناعمة وحسَّاسة لم تتركه بهد ذلك. شيطانه ليس شيطان الشبق. بل أخطر. إنه جن سقراط الذي قاومه سقراط دائماً والذي كان يودّ أفلاطون ألاّ يستسلم له: جنون الكتابة، حركة لا محدودة، لا متناهية، ودائمة. لقد ظُنّ زمناً طويلاً، عندما أعتقل سنة 1801م، أنه أوقف لأنه تحدّى بونابرت برسالة هجاء مجهولة. وقد حكم جيلبير لولي (Gillbert Lely) بالعدل على هذا التقليد المجازي بإفراط. صحيح أن ساد سُجن في ﭭنسين والباستيل في ظل الاستبداد الملكي، وأنه اعتقل في سان لازار وبيكبوس في سجون نظام الحرية (Liberté). ,انه اقتيد إلى سانت-ﭙيلاجي وبيساتر وشارنتون من قبل الطغيان العسكري المتوَّج بعد قليل، غير أن ما يجدر إيضاحه، وملاحظته برأيي، هو أن مؤلَّف جوستين وحده لا الخصم السياسي هو من حكمت عليه بالسجن مدى الحياة الأخلاق العالية لبونابرت، أي للمجتمع بأسره. لأن تلك هي حقيقة ساد: حقيقة خطرة بقدر ما هي واضحة، معروضة بجلاء، ومعبَّر عنها ببساطة –بالضبط في الصفحة الأخيرة من “رواج الرذيلة” وبالشكل الأسهل قراءةً [بالأحرف الكبيرة]: «يجب على الفلسفة أن تقول كل شيء، مهما ارتعد الناس من ذلك». كل شيء. لقد كان هذا السطر وحده كافياً لتعريضه للشبهة، وهذا المشروع كافياً لإدانته، وتحقيقه كافياً لإدخاله السجن. ولا مجال لإلقاء المسؤولية على بونابرت وحده. فنحن مازلنا نعيش عهد بونابرت ما. ومازال ساد ملاحقاً وبسبب الضرورة ذاتها: قول كل شيء، يجب قول كل شيء، الحرية هي حرية قول كلّ شيء، وتلك الحركة اللامحدودة التي هي نزعة العقل، أمنيته الخفيّة، وجنونه.

الهوامش:
1. المقصود هو صفحات لـ ساد مقتبسة من الفلسفة في الصالون، ومكتوبة تحت عنوان: أيها الفرنسيون، مزيداً من الجهد إذا أردتم أن تصبحوا جمهوريين [ في شأن “الكتابات السياسية”، أحيل القارئ إلى:
Œuvres Complètes de Sade, Volume VIII, J. –J Lauvert.
* نسبة إلى ساد نفسه.
2. التعبير هو لساد الذي يطبّقه على نفسه: «أيها الفرنسيون المحظوظون، لقد شعرتم بذلك بسحقكم أنصاب الرعب وتلك السجون الكريهة حيث كانت الفلسفة وراء قضبان الحديد تصرخ لكم بذلك، قبل أن تشكّكوا بالطاقة التي ستجعلكم تحطّمون السلاسل التي خُنق بها صوتها»
3. الكتيّب المذكور آنفاً: «أيها الفرنسيون، مزيداً من الجهد…»
4. لنذكر بلاك في الحال وليس نيتشه: «الطاقة والحياة الوحيدة. الطاقة هي نعيم أبدي»، وحتى فان غوغ: «ثمة حسنة في كل حركة طاقية»، لأن الطاقة هي الفكر [الحدّة، الكثافة، رقّة الفكر المدفوع إلى مداه الأقصى].
5. يقول سان جوست بالعكس، إنما على نحو مشابه: «الثورات تسير من الضعف إلى الجرأة ومن الجريمة إلى الفضيلة».
6. العبارة نفسها عند هلقيثيوس: «يصبح المرء غبياً عندما لا يعود صاحب هوى»
7. في خطاب آخر، يقول سان جوست أيضاً: «الرشاد البسيط، قوة النفس، برودة العقل، حماسة قلب حار وطاهر، التقشف، والنزاهة، ذاك هو طبع الإنسان الوطني»
8. في خطابه الهادئ، يوم التاسع من ترميدور، سوف يفكّر سان جوست على النحو ذاته تقريباً: الشهرة هي شائعة باطلة، لنُصغ إلى العصور المنصرمة، فإننا لن نسمع شيئاً»
9. في أحد أروع خطاباته حيث توجد الجملة التالية: إن الذين يصنعون نصف ثورات قد حفروا لأنفسهم قبراً»
10. أن يكون ساد قد تكلّم هكذا، فهذا محتمل. وهذا يظهر صدقه وقلّة احتراسه. فالنص يقول: «مجرياً باستمرار في أحاديثه الخاصة مقارنات مستمدة من التاريخ اليوناني والروماني ليثبت استحالة إقامة حكم ديمقراطي وجمهوري في فرنسا». مستحيل «بدون جهد ومزيد من الجهد»؛ ذاك هو موضوع الكتيّب الذي وضعناه؛ لم تكن تلك جريمة؛ فقد كان ذلك يُقال في كلّ مكان. وكان أيضاً رأي سان جوست الذي يرى أنه بعد ليكورغُس، جاء طغاة هدموا عمله الإصلاحي؛ «حقائق محزنة».

المصدر: مجلة العرب والفكر العالمي، العدد 10، سنة 1990

ترجمة: جورج أبي صالح
مراجعة: فريق مركز الإنماء القومي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى