الصمتُ والموت: صمتُ الهَزيمة – ديفد لوبروتون – ترجمة: فريد الزاهي


“الموتُ يحُيطنا مسبقاً بصمتٍ لا نهايةَ له. كما لو كُنَّا جزيرةً مُحاطةً بالماء. لكن، فيه بالضبط يُوجد مستحيل القول. لا تهم الكلمات التي لا تفتق ذلك الصَّمت. ما الجدوى من الحديثِ عن “لحظة قبر” حين يكون كلُّ كلامٍ لا شيء .. لأنَّه لا يبلغ ما وراءَ الكلمات؟”

– جورج باطاي، قبر لويس الرابع عشر




الموتُ هو الانبثاق الفُجائيِّ لِصمتٍ ساحقٍ وغيرِ محتملٍ. فَفي الوقتِ الذي يتمكنُ فيهِ الموتُ من الإنسانِ يُصيبُهُ بالصمتِ والرغبةِ في تحريكِ الجُثَّةِ لاستعادة الكلام وحركات الحياة، والصرخةُ اليائسةُ للشاهد عَلى الوَفاة، ونَفيهِ القَصير لأن يَكُون المَوت قَد حَل، تَكشف الاضطراب المتولّد عن الغزوِ البارد للصمت، حينها يقَدِّم الموت نفسه بِاِعتباره ذلِك الخرَس الألِيم. تخنقُ الدَهشة مَن يحضر لَحظة العُبور هذه وَتنْذرهُ لِعَجزٍ جِذريّ لِلُّغة. فَالموتُ وَهوَ يُحطمُ العلاقةَ بالعالمِ يَصدرُ عن المقدسِ، وبالأخصِّ اللحظةُ الهاربةُ للعُبور نَحو العالم الآخر؛ أَي ذلك الإِحساس بالمُطلق الذي يَنتزع المَرء مِن الحَياة العادية ويُواجه المَرء بِلُغز شَرطه البَشري وَبِحَدس نِهايتِهِ الشَخصية.


عند قرب الموت يُصابُ الكلامُ بِالاختناقِ، ويتبددُ في الصمتِ أو ينشرخُ في الصرخةِ. فَفي استحالةِ اللقاءِ بِالآخرِ المطلقِ وإمكانِ لَمسِهِ، يَتفككُ الكلامُ وَيَستدعي بِالأحرى الخرس. الموتُ نهايةُ كلامٍ كان عنفوانُهُ يَتمثلُ في الوجهِ المهتمِّ لِلآخر الذي صار اليَوم غائباً. فَإِزاء التَحطيم النِهائي لِلمعنى، يعْمَل عبُور الحدُود علَى إعْدام اللغَة ويُعِيد الإنْسان إلَى عرْيه وَعَجْزه النهائي عن فهْمِ دلالة وجُوده. تَتَفَكك الشاشة الهشَّة للكَلمات أَمام المُستَحيل على القَولِ، وفي تَأجُّج ألمٍ يخنُقُ الحَلقَ كما لو كانَ ذلكَ للإِفْصاح عن تفاهَة الكلامِ. يبينُ الموْت أَن وراءَ الصمْت الذي يعقد أَحيانًا لسانَ الحياةِ يمتدُّ صَمت آخر، أَشد عُمقاً يشمَلُ مَعنى حضورِ الإنْسان نفسهِ في العالمِ.


فَفي التخومِ الرمزيةِ التي تمكّنُ من تَملّكِ دلالاتِ الأشياءِ، وَفي عتبةِ خطِّ العتمةِ، يَكونُ الفردُ متروكاً لِحالِهِ، من غيرِ معالمَ منيرةٍ، تَنهشُهُ الحيرةُ أو الخوفُ. وَإزاءَ جثمانِ الميتِ المكفَّنِ في ما لا يُسمى، نَراهُ موزعاً بينَ العالمِ المعقولِ لِلحَياة الجارية وَبَين العالم العِصيّ عَلى القَول الذي صار يَنْتمي إِليهِ الآخر، قَريباً مِن ما يُجاوز الفِكر، بَين عالميْن، إذ يَعيشُ حالُ تعليقٍ حيثُ يَغيبُ القلبُ وَتَنبثقُ العواطفُ. العودةُ لِلطابع العادي لِلوضْعياتِ الاجتماعية بتَرك الغرفة الَّتي تُسَجَّى فيه جُثَّة الآخَر تكُون مثقلة الاختلاء بالذات، وبِغِلاف من الصمت يجعَل الكلِمات عصَيَّة علَى النطق، حتَّى لقَول الأشياء الأوَّلية، كطَلَب تذكِرة حافلة أو قول عنوان لسائق التاكسي أو تحية صدِيق. فالأسَى الَّذي يحِسُّه المرء عند موت شخص يستَدعي لحَظات الصمت نفسها والكلِمات ذاتها، المستعملة سلَفًا، لكِنها تكُون أولى وحارقة لأُولئك الَّذين يسِيرونَ في هذا الدرب المتَّبع حيث يكُون كلُّ شخصٍ وحِيدًا.


يَسكنُ الصمتُ الموتَ كما لوْ كانَ مصدرَ غذائِهِ، وَهوَ يَبدو كما لو أنَّهُ يَرمي فيهِ بِبعضِ جذورِهِ. في الديناميةِ الجماعيةِ التي تُؤلفُ بينَ المشاركِينَ لِعدةِ أيامٍ من غيرِ أيِّ ترتيباتٍ غير أنْ يَكونُوا هناكَ وَيُفكرُوا في دلالةِ حضورِهمْ المشتركِ، فَإنَّ لحظاتِ الصمتِ الطويلةَ التي تَتولدُ من غرابةِ الموقفِ غالباً ما تَقطعُها الشهقاتُ أو لحظاتُ التأثرِ حينَ يَربطُ أحد المعزِّينَ بينَ هذا الانطواءِ على الذاتِ وَذكرى فِراقِ شخصٍ قريبٍ. وَالصمتُ الرهيبُ الذي يَشلُّ أعضاءَ مجموعةٍ ما يَستدعي صورَ الحدادِ وَيُنعشُ عواطفَ تَكونُ مخزونَةً إلى هذا الحدِّ أو ذاكَ.

الضّنى يُلزم بالصمتِ، ويؤدي إلى الانسحاب من الأنشطة العاديَّة للحياة، بدءاً من اللغةِ التي يستعملها الفرد بتحفّظٍ أو يَصدّها بقوةٍ. لا يعودُ الألمُ يتداخل مع الكلمات القابلة لقوله. إنَّه يُلزمُ اللغة بالعجز بحيث لا يَتبقَّى للمرءِ غير أن يَصمُت، وهو أمرٌ يكون بالغ التعبير.


إنَّ لحظةَ الموتِ -حسب نيهر- هيَ الصمتُ الذي يَنهشُ الحياةَ. فَمدةُ الموتِ هيَ الصمتُ الذي يبعد عن الحياةِ بِشكلٍ لا نهائيٍّ. لا أحدَ استطاعَ أنْ يَنتزعَ شيئاً من الموتِ غيرِ الصمتِ. وَلا أحدَ استطاعَ أن يَلحقَ الموتَ، لأنَّهُ يَنغمسُ في صمتِهِ كما لوْ كانَ رمالاً متحركةً. ثمةَ في الموتِ اقتلاعٌ من الحضورِ يُثيرُ ذهولَ من كانَ شاهداً عليْهِ.

صمتٌ خفيفٌ يُخفي الألمَ وَيَضع بِاستمرارٍ حجاباً معَ الغيرِ، أحياناً خلالَ حياةٍ بِكاملِها. فَالفردُ المفجوعُ يَمنحُ حينَها الانطباعَ بِالرتابةِ وهوَ يُحسُّ نفسَهُ دوماً في محيطِ الأسى، مهموماً دوماً بِغيابِ الآخرِ من غيرِ أن يُسميَهُ أَبداً، وحيداً معَ ألمٍ يَستعصي على القولِ. تُشدّدُ “آني دوبيري” على ضرورةِ إبكاءِ الأطفالِ إذا ما أصيبُوا بِفقدانِ أحدِ أفرادِ عائلتِهم. فَتَملُّك الحدث معَ الألم الذي يَنجمُ عنهُ أو الصراخ الذي يُطلق، يمنح الحريةَ لِلعاطفة، وَيُؤَكّد التمرّد أَمام الأَحداث. إِنَّهُ يَجعل المَرء يَتَفادى تَحنيط الحِداد الذي يُؤَدي إِلى عَيش المَرء فِي ظِلِّ ذاتهِ. وَما كَتبتُهُ “آن دوبيري” بِهذا الصَدد يَنْطبق عَلى كُلِّ شَخصٍ يَعِيش الحِداد عَلى قَريبٍ لَه: “الأسى المقفولُ لا يَجفُّ بِذاتِهِ، إنَّهُ يَكبرُ وَيَتسمَّمُ وَيَتغذَّى من الصمتِ، ومن صمتٍ يُسمّمُ من غيرِ أن يُحسّ بهِ أحدٌ”. لذا فإنَّ فضاءً لِلكَلام مَع المَفجوع بِالموت فِي مُناخِ الثِّقة أَمرٌ يُحَرِّر الأَلمَ بِالاِقتلاعِ مِن الصَّمت.



*نص: ديفد لوبروتون
*ترجمة: فريد الزاهي
*مقتطفات من كتاب: الصمت لغة المعنى والوجود ، فصل الصمت والموت.

زر الذهاب إلى الأعلى