هيغل والمسألة الفنيّة ـــ د.نايف بَلّوز

في منتصف عام 1970 انعقد في برلين مؤتمر هيغل العالمي الثامن بمناسبة مرور مئتي عام على ميلاده. وقد دلت المناقشات التي دارت في لجنة العمل المختصة بمعالجة موضوع “اللغة والوعي” عند هيغل على أن مسائل علم الجمال ونظرية الفن لديه لا تزال تتمتع بأهمية راهنة وفائقة. لقد أشار أحد الباحثين إلى أن مختلف الآراء الجمالية والفنية المعاصرة يمكن أن تتحدد بموقفها من علم الجمال الهيغلي. والواقع أن علم الجمال ونظرية الفن الهيغليين ـ وهما شيء واحد ـ يمثلان في تاريخ الفكر الإنساني أضخم عرض فلسفي منظم ومتماسك وشامل لمسائل النشاط الجمالي والفني ولمظاهره المختلفة ولتاريخه المتعدد الحلقات. إن علم الجمال الهيغلي لا يلخص كل التجربة الجمالية التي تتالت عبر تعاقب الحضارات والمجتمعات فحسب بل يتجاوز ذلك إلى صياغة قوانين نظرية شاملة تفسر حركة النشاط الجمالي الفني وماضيها ومستقبلها وبالتالي إلى صياغة منطق الوعي الجمالي.‏
وإذا نظرنا أخيراً إلى واقعنا الفني والأدبي وإلى محاولات استيعاب هذا الواقع أو جوانب منه نظرياً لوجدنا مبرراً واقعياً للتوقف عند تفكير هيغل الفني والجمالي وعند رحابة هذا التفكير وعمقه وشموخه المنطقي وعند نفاذه إلى الحركة المستترة وراء الركود الخادع والتمايز الظاهري المجرد. وسأحاول في ما يلي عرض المسألة الفنية عند هيغل آخذاً بعين الاعتبار المناقشات التي دارت في مؤتمر برلين حول علم الجمال الهيغلي.‏
1ـ مقدمة فلسفية:‏
* كان كنط قد فصل في فلسفته النقدية بين العلم والحقيقة، بين الفكر والوجود فقضى بفصله هذا على إمكانية قيام علم الميتافيزياء وأكد على نسبية المعرفة التي غدت عنده متعلقة ببنية معينة للتفكير. أما هيغل فقد كان شديد الطموح نظرياً ومؤمناً إلى أبعد حد بقدرة العقل وبمطالبه. وقد رد على كنط بقوله إن امتحان قدرتنا على المعرفة لا يتم إلا بالمعرفة. إن أول ما وقع عليه نظر هيغل هو حركة الفكر التي أصبحت لديه بمثابة أساس العالم.‏
إن كنط قد قصر بنظر هيغل عن رؤية الصلة الصحيحة بين الذات والموضوع وانسحب تقصيره هذا على فهمه الثنائي لكل جوانب الواقع (الفصل بين شكل المعرفة القبلي ومحتواها التجريبي، الفصل بين العقل النظري ـ العلم ـ والعقل العملي ـ الأخلاق ـ وبين صورة الحكم الجمالي ومضمونه) فجاء هيغل يقيم وحدة الفكر والوجود والعلاقة الجدلية بين الذات والموضوع وينفذ إلى التفاعل بين “الثنائيات الكنطية” منوهاً بأهمية التاريخ في فهمها. لم يوافق هيغل كنط على بحث المعرفة البشرية بمعزل عن تاريخ المعرفة وتحققاتها العملية. وأقام المعرفة على أساس موضوعي فحواه الدلالات الكلية في الأشياء، إلا أن الفرق بين الذاتي والموضوعي لا يوجد عنده إلا في إطار وحدة الفكر والوجود، إلا في الفكر. فهيغل قد اكتشف في تحليله للموضوع مماثلته لحركة الفكر وذهب إلى أن بين الفكر وموضوعه وحدة مردها إلى أن الفكر إذ يفكر في ذاته إنما يجعل من ذاته موضوعاً للفكر فينقسم إلى ذاتي وموضوعي. لقد نظر هيغل إلى الفكر لا كصفة إنسانية فحسب بل كبنية وأساس عميق للعالم الموضوعي. إن الفكر والعقل هو نبع الوجود وأساس عميق للعالم الموضوعي. إن الفكر والعقل هو نبع الوجود والأساس المطلق لكل موجود وهو محتوى العالم وماهيته. وهو يقيم في صميم العالم لا خارجه ويجد تعبيراً عنه في تنوع ظواهر الطبيعة والمجتمع والإنسان، فمحتوى الفكر (أو المعرفة العقلية) ليس انعكاساً لموضوع خارجي ولا يدخل إلى الفكر من الخارج بل إنه توليد ذاتي للفكر ومسار تفتح الفكر نفسه. وعلى ذلك فليست المعرفة سوى معرفة ذاتية سوى وعي محتوى الفكر.‏
وهيغل مثله مثل المثاليين الموضوعيين يوحد بين المفهوم الذهني وماهية الأشياء. إن المفهوم هو الشكل الأساسي للفكر والصورة المنطقية للكلي. وحقيقة الأشياء تقوم في مفهومها فحقيقة أي فرد من الناس قائمة في الإنسان كمفهوم كلي. إن المفهوم قائم في الأشياء كماهية لها فليست البذرة هي التي تسفر عن شجرة بل المفهوم أو الحقيقة العقلية المنطوية في الحركة من البذرة إلى الشجرة. إن للمفهوم أو الكلي حقيقة أكثر من الجزئي. الكلي هو مقر الحقيقة وهو موجود وجوداً موضوعياً وهو حاضر دائماً. إن الإنسان كنوع، كمدلول كلي أعمق وجوداً من يوسف وسلمى. فالحقيقة وهي كلية تفيض على المعطى الجزئي وتتخطاه إلى الإمكانيات والآفاق التي يحتويها الكلي. وليس المفهوم صورة منطقية ذهنية فحسب بل مبدأ الحياة والوجود والتطور أيضاً وأساس وجود الجزئيات وهو الذي ينشئ الظاهرات والترابطات والاطراد القانوني. فالمفهوم ليس الكلي العام فحسب بل الكلي في ترابطه مع الجزئي الخاص ومع ما يميز الظاهرة عن غيرها. إن المفهوم هو كلي وعيني ولا يتحقق إلا في الجزئي. وحركة المفاهيم هي حركة الاغتناء بالمحتوى وتاريخ الاعتناء بالمحتوى، إنها عملية الوجود.‏
* وأهمية هيغل تكمن في أنه ينظر إلى الطبيعة والتاريخ الإنساني والثقافة وكل أشياء العالم لا كجوهر تتعلق به لواحق عرضية بل كنمو داخلي، كعملية متحركة وتطور تاريخي أي كذات تتفتح عما يغايرها ثم تعود فتلم فروعها وحالاتها المتباعدة المتغايرة في وحدة ذاتية عليا. وهيغل يثبت من خلال متابعة وقائع العالم والتاريخ فكرة المعقولية في الوجود والضرورة في التطور والحرية كأساس لحركة التاريخ. إن هيغل لم يستطع أن يثبت الترابط الداخلي في الحركة والتطور وأن يكشف عن قوانينها ومقولاتها الجدلية إلا بالأخذ بالمثالية أي بالوحدة الفكرية بين الفكر والوجود. ولكن هنا تتضح لحظة أساسية في فلسفته: إن الفكر ليس شيئاً ثابتاً بل عملية معرفية موضوعية متطورة وصاعدة بدون انقطاع. ومن هنا جدلية هيغل التي تعتمد على وحدة تطور المعرفة والعالم. إن هيغل ينتقد التصور الميتافيزيائي القديم حول الهوية المجردة ويضع محلها الهوية الجدلية. وهو يبين بهذا الصدد أن الزهرة لو كانت زهرة فقط لبقيت زهرة إلى الأبد. فثمة اختلاف في قلب الهوية. أما أساس الصلة بين الهوية والاختلاف فهو التناقض. فالتناقض هو المصدر الداخلي للحركة ومبدأ الحركة الذاتية والتطور. ويرتبط التناقض بمبدأ النفي ونفي النفي وسائر قوانين التغير والتطور. إن النفي يشكل طابع العقل الجدلي والنفي هو إيجاب بقدر ما هو سلب. إن التناقضات ليست مطلقة بل نسبية، فالنفي لا يحيل الشيء إلى عدم، لا يقضي على الزهرة تماماً بل ينفي المضمون الجزئي الخاص ويبقي على حركة المفهوم الكلي، على حركة الشيء الكلية التي تتجاوز وجوده المعطى (بتحويل الزهرة إلى ثمرة مثلاً). وعبر التناقضات يغتني الواقع بالمحتوى ويتم تواصل الحركة الواقعي فالحقيقة تنطوي على تناقضات الواقع وتنوعه، إنها عينية وليس ثمة حقيقة مجردة مثل آ هي آ أو الحجر حجر.‏
* إن وحدة الفكر والوجود تتجلى في أن قوانين الفكر وهي موضوع المنطق هي في الوقت ذاته قوانين الوجود، فالمنطق يغدو النظرية التي تتناول ماهية كل الأشياء لا القوالب الفكرية الفارغة.‏
إن قوانين الفكر والطبيعة والمجتمع واحدة. ويبحث هيغل في منطقه جملة المفاهيم العامة التي تنشأ وتتكون في عملية تطور المعرفة الإنسانية ويقوم بعرض حركتها ابتداء من مفهوم الوجود المجرد إلى مفهوم الوجود العيني وذلك في عملية منطقية تاريخية تنقلب فيها المفاهيم العامة التي احتواها وتؤلف فيها التناقضات الداخلية، وضمنها عملية النفي، القوة الدافعة للتطور. إن مفاهيم الوجود والعدم والصيرورة والكيف والكم والقياس والماهية والهوية والاختلاف والتناقض والضرورة والصدفة والإمكانية والواقع إلخ.. ترتبط بعضها ببعض ارتباطاً منطقياً جدلياً وهي تعبر عن درجات مختلفة في تطور المعرفة وتفتح الواقع. إن هيغل قد نظر إلى اللحظات الأساسية في عملية المعرفة كمقولات منطقية واعتبر التوسط بين هذه المقولات بمثابة الحركة العقلية التي تفسر الواقع وتطوره. وهذا الفهم يكشف عن حس هيغل التاريخي الهائل. إن حركة المفاهيم هي محتوى الفكر (المعرفة) وهي متضمنة في الفكر. وإذا كان الفكر يحوي في ذاته قوانين الواقع فهو يمثل ماهية العالم. إن هيغل يحيل عملية التفكير إلى الواقع الموضوعي أو أنه يرفع عملية المعرفة إلى المطلق، وهذا هو جوهر مثاليته الموضوعية، أما الفكر الإنساني فهو شكل تجلي الفكر المطلق. إلا أن توحيد هيغل بين الواقع الموضوعي والعقل ينطوي على رفض لتصور الفكرة المطلقة كعقل خالص بالمعنى التقليدي أو كنموذج داخلي لحقيقة خارجية. إن الفكرة المطلقة ليست عقل العالم فحسب بل الوحدة بين عقل العالم وتنوع الظاهرات فيه. فمفهوم الفكرة المطلقة يدل من جهة على جملة العلاقات المنطقية الكلية ويحتوي من جهة أخرى على مضمون واقعي تاريخي ويرمز من جهة ثالثة إلى تصور مجرد للإله.‏
2ـ تاريخ الفكرة ومحل الفن في المنظومة الفلسفية:‏
إن الفكرة المطلقة تنفي ذاتها في الطبيعة، ثم تعود من هذا الوجود المغاير إلى ذاتها في التاريخ الإنساني، في الروح، حيث يتم نفي النفي. والحركة الذاتية للروح هي الطريقة الجدلية المتمثلة قبل كل شيء في وضع القضية وطباقها وتركيبها. يقول هيغل بصدد اللحظة الأولى “لقد رجعنا إلى مفهوم الفكرة التي بدأنا بها. لكن هذه العودة إلى البداية هي خطوة إلى الأمام. إن ما بدأنا به كان الوجود، الوجود المجرد، والآن لدينا الفكرة كوجود، هذه الفكرة الموجودة، هي الطبيعة”. إن طريق التطور هذا هو الانتقال من المجرد إلى العيني من الفكرة المنطقية إلى الطبيعة. ولكن أي نمط من الوجود يمكننا أن ننسبه إلى الفكرة قبل تجسدها في الطبيعة؟ ليس ثمة إجابة واضحة حول هذه النقطة. إن الفكرة المطلقة تتجلى في الطبيعة: أولاً في الميكانيك (زمان، مكان، مادة، حركة، ثقالة، جاذبية) ثم في الفيزياء (أجسام، ضوء، حرارة، كيمياء) ثم في العضوية (جيولوجيا، نبات، حيوان) وتعود الفكرة المطلقة إلى ذاتها في الروح مغتنية بكل التطور السابق. لقد نفت الفكرة المطلقة ذاتها في الطبيعة ثم نفت نفيها في وعي الإنسانية الذاتي.‏
فالفكر ليس مبدأ الوجود وأساسه فحسب كما ذكرنا سابقاً بل نتيجته وغايته وأعلى درجات تطوره. والدرجة العليا للفكر المطلق هي ما يسميه هيغل الروح المطلق.‏
إن الفكر يتطور ويقتني في مسار توضيح ماهيته والعرف على ذاته كروح مطلق، وفلسفة الروح هي فلسفة تطور الوعي الاجتماعي والفردي، فلسفة تاريخ الإنسانية، هذا التاريخ الواقعي الذي يمثل في الحقيقة عملية تعرف ذاتي.‏
لقد انتقل هيغل في تحليله الفلسفي من المنطق والفكرة في وجودها لذاتها إلى فلسفة الطبيعة أو الفكرة في وجودها المغاير كطبيعة حيث تطمح الفكرة إلى استعادة وحدتها، فإلى فلسفة الروح أو الفكرة في وجودها بذاتها ولذاتها، أي في عودتها إلى ذاتها في الروح. أما الروح فإذا نظر إليه كواقع أو كعالم ناجم عنه كان الروح الموضوعي. إن الروح يكون في البداية مندمجاً مع الطبيعة ثم يخطو من الوعي الحسي إلى الإدراك فالفهم فالوعي الذاتي فالعقل. وإذ يتناول هيغل علاقة الوعي بالموضوع يؤكد أن الموضوع قابل للمعرفة لأن ماهيته ذات صفة فكرية منطقية فهي من طبيعة الوعي. وهكذا يستوعب الوعي في الموضوع ماهيته الخصوصية ويرتفع إلى الوعي الذاتي.‏
ينتقل هيغل في فلسفة الروح من نظرية الروح الذاتي (أنتروبولوجيا، فينومنولوجيا، بسيكولوجيا) إلى نظرية الروح الموضوعي (حق، أخلاق، دولة) ثم إلى نظرية الروح المطلق وهي أعلى درجة في معرفة الفكرة المطلقة لذاتها. إن الروح المطلق هو الذكرى التي تسترجع وتستعيد كل حركة الروح. وبهذا المعنى يكون موضوع الروح هو الماضي. إن أشكال الروح الثلاثة تمثل ماهية الوعي الإنساني ومختلف العلاقات الإنسانية.‏
وماهية الروح هي الحرية. فالروح إذ تتفتح بضرورتها الداخلية تحقق حريتها. والروح المطلق يشتمل على الفن والدين والفلسفة. فالفن هو إذن مرحلة في تطور الفكرة المطلقة وبالأخص في تطور الروح المطلق، إنه فكرة يتحقق فيها الوعي الذاتي للفكرة المطلقة فالفن ليس مجرد شكل خاص لمعرفة العالم الموضوعي بل تطور ذاتي للمفهوم. ومضمون الفن والدين والفلسفة بالأساس واحد إلا أن شكل انكشاف أو حضور المضمون مختلف. ففي الفن تتعرف الفكرة المطلقة على ذاتها في قالب الرؤية الحسية وفي هذا القالب تتحرر الفكرة من التناهي. وفي الدين تتعرف الفكرة على ذاتها كتصور خيالي، أما في الفلسفة، المرحلة الأرقى، فتعي الفكرة ذاتها في صيغة المفهوم، وهذه الأشكال الثلاثة لا تتعايش فحسب بل إنها بالدرجة الأولى تتعاقب تاريخياً، أي أن الوعي الإنساني الاجتماعي يتطور تطوراً غير متواز، وفي الوعي الفلسفي يبدو أن الواقع قد أتم عملية تكونه وأنجز مهمته وفضّ كل مضامينه.‏
3ـ الفن والمطلق والمعرفة:‏
إن الفن والدين والفلسفة تمثل مراحل في تطور الروح المطلق، والفن هو أول شكل للتجلي الذاتي أو للتعرف الذاتي في الروح المطلق وهو أقل الأشكال كمالاً، إنه الألق الحسي للروح أو حضوره الحسي. والدين هو تعبير رمزي عنه. أما الفلسفة فهي مرحلة أرقى يصل فيها الروح المطلق إلى الوعي الذاتي التام. لقد تعين الفن على هذا النحو كتعبير حسي عن الروح، يلعب دور الوسيط بين الواقع الحسي والفكر الخالص، بين الطبيعة المتناهية وحرية الفكر اللامتناهية، والفن كما يقول هيغل شيء من الماضي وإذا كان النشاط الفكري على العموم يستهدف التوحيد الواعي للذاتي والموضوعي، فالفن كشكل لهذا النشاط يتوخى جعل التلاؤم مع الواقع واعياً.‏
إن الفن يصل الجانب الخارجي والمحسوس والزائل بالفكر الخالص وبكلمة أوضح إنه علاقة بين الطبيعة والإنسان. ولكن هذا الوصل بالذات هو خطوة في طريق تحرير الروح من محتوى التناهي وصورته. الفن يمثل الوجود بوصفه جمالاً وهو كتعبير عن الروح يستمد قيمته وهدفه من أنه يرفع إلى مستوى الوعي لأعمق مصالح الإنسان وأشمل حقائق الروح. ومن هنا اهتمام هيغل بالمحتوى في الفن. إن الفن من عالم الروح وليس مسامرة أو تزجية لأوقات الفراغ. وانطلاقاً من هذا الفهم ينتقد هيغل النزعة الشكلية عند كنط وأتباعه، هذه النزعة التي تتوقف أمام جمال الشكل بذاته أو روعة الخيال واللعب الفني، ويؤكد بقوة أن المحتوى هو العنصر الحاسم في الفن كما في سائر الفعاليات الإنسانية وهكذا يتضح أن للفن قيمة معرفية فهو شكل من أشكال المعرفة. والبحث عن محتوى الفن يجعلنا نتجاوز دائرة الفن الخالصة إلى مجال الحقيقة. إن الحاجة إلى التعبير الفني تتفق مع طموح الإنسان إلى وعي العالم الداخلي والخارجي كموضوع يكتشف فيه ذاته، أو أناه الخاصة. يقول هيغل إن الفن يطمح إلى تصوير المجال الفكري والإلهي فهو مشغول بالحقيقة، بالروح، وبما هو إلهي. فالفن من هذه الناحية، ناحية المحتوى، لا يتميز عن الدين والفلسفة، أما إذا نظرنا إلى الشكل والأسلوب الذي يبلغ فيه المطلق مرتبة الوعي الذاتي فإننا بذلك نضع أساس التمييز بين الفن والدين والفلسفة. إن الفن يقوم بتصوير المطلق تصويراً حسياً ومن هنا يتبين لنا أن موضوع الفن ليس الروح الحق، ببساطة، ليس الروح كروح، أو الروح في ذاته ولذاته، بل العرض الحسي للمطلق.‏
إن تحليل هيغل للتجلي الحسي للروح هو الذي يعطي علم جماله أهميته وقيمته الراهنة، لكن ما هو هذا المطلق المحسوس؟ ما هو هذا العنصر الإلهي؟ ثم ما هي هذه الوحدة بين الحس المتناهي والكلي المطلق اللامتناهي التي تجد تعبيراً عنها في الفن؟ إن العنصر الإلهي الذي يمثل محتوى الفن ليس سوى “أعمق مصالح الإنسان”، وعند هيغل أن أشمل حقائق الروح ليس أمراً غريباً عن المسائل الاجتماعية والسياسية والتاريخية والأخلاقية إلخ.. التي تحدد حياة الإنسان، إنها جملة علاقات الإنسان الموضوعية في هذا العالم. وماهية الجميل (أو توليده في الفن) تتجلى حين تتخذ وحدة الحسي والمطلق مظهراً فردياً. وهذه العلاقة بين الحسي والمطلق هي نفسها علاقة الشكل بالمضمون، فالصياغة الحسية هي الشكل أما المضمون فهو الروح، العنصر الإلهي، أعمق مصالح الإنسان وحملة علاقاته الموضوعية في هذا العالم. ومما له أهمية كبيرة أن هيغل يتوقف عند اللحظة الحسية مؤكداً أنها أقرب ما تكون من أسلوب تجلي الطبيعة. لقد بيَّن هيغل أن الفن شكل للمعرفة أو أن ثمة قيمة معرفية للفن، أما كيف يعرف الفن؟ ما هو أسلوبه؟ فهذا ما برز وتحدد في الصياغة الحسية الفردية. والسؤال الذي يطرح الآن هو التالي: إذا كان المحتوى الأساسي للفن والدين والفلسفة واحداً أفلا يوجد بالإضافة إلى ذلك موضوع خاص بالفن؟ ألا يوجد محتوى فني متميز؟ وبكلمة أخرى: ماذا يعرف الفن؟ هنا يتجاوز هيغل مقاصده الفلسفية الشاملة فيشير إلى أن ثمة دائرة معينة ودرجة معينة للحقيقة تستجيب للنشاط الفني وتتجسد في الأثر الفني، فهناك إذن تمايز نسبي بين موضوع المعرفة وموضوع العرض الفني فإذا كان الإلهي العام المطلق هو الموضوع الحقيقي للفن وهو في الوقت ذاته موضوع المعرفة فإن موضوع العرض الفني هو الغنى الكلي لأشكال الطبيعة وصورها. فثمة إذن محتوى فني خاص، ثمة خصائص مضمونية للفن. ويمكن أيضاً أن ننظر إلى المحتوى الفني الخاص من ناحية دور الفن الانفعالي والثقافي. يقول هيغل إن الفن يكتشف سيطرة القوى العامة في التاريخ، وبهذا الصدد يميز بين محتوى نظري فكري ومحتوى انفعالي فهو يبين في فلسفة التاريخ أن القوانين لا تؤلف سوى سدى العملية التاريخية، أما العواطف والانفعالات الإنسانية فهي التي تؤلف لحمتها. إن علم التاريخ يتناول بالبحث القوانين أما الفن فمجاله الانفعالات والعواطف، فالفن معرفة وبحث وتقص. لكنه بحث وتقص في ديالكتيك النفس الإنسانية. وهكذا يتبين أن وراء التصوير الحسي للمطلق مدلولات ملموسة تاريخية واجتماعية واقعية. إن للفن قيمة معرفية كالفلسفة إلا أننا رأينا أن موضوع العرض الفني هو الغنى الكلي لأشكال الطبيعة وصورها. ولا شك أن وحدة الطبيعة والإنسان، وهي أساس القيمة الفنية، لا تتطابق تماماً مع موضوع المعرفة. والعرض الفني لا يقتصر على الغنى الكلي لصور الطبيعة، بل يتناول أيضاً القوى السائدة في التاريخ، وهو يتناولها من حيث هي قوانين بل من حيث هي عواطف إنسانية فاعلة. ولأن الفن غني بالمحتوى فهو قادر على التأثير أيضاً على العملية التاريخية وذلك بتغييره للإنسان. إن الفن هو العامل الأهم في صنع الثقافة إذ أن الإنسان يطمح بتأثير الفن إلى أن يعيش كفنان وإلى أن يصوغ مادة حياته صياغة فنية جمالية، إن الفن يساعد ولا شك في أبعاد مظاهر القسوة والهمجية والفظاظة من حياة الإنسان وفي إحلال الرقة والنقاوة واللطف محلها. فالفن يمتلك بهذا المعنى قيمة ثقافية كبرى. وقد قال أحد الباحثين معلقاً على هذه النقطة أنه إذا كان العلم يجعل الإنسان اختصاصياً فإن الفن يجعله إنساناً. إن هذه الأفكار الهيغلية حول الموضوع الخاص للعرض الفني تتعارض كلياً مع النزعات الشكلية والتجريدية ومع مظاهر الانحطاط في الفن المعاصر.‏
4ـ تفسير الفعالية الجمالية:‏
لقد تحدثنا في ما تقدم عن النشاط الفني وكأنه معادل للنشاط الجمالي وللجميل عموماً والواقع أن هيغل قد أولى الفن فعلاً أهمية كبيرة جداً. صحيح أن هيغل قد حلل أيضاً الجميل في الطبيعة وفي النشاط العملي والعلاقات الإنسانية إلا أنه كاد في منظومته الفلسفية يوحد بين الفني والجمالي. إن هيغل قد قام بتفسير ظاهرة الجمالي وبتحليل النشاط الجمالي والفن وتحليل طبيعة الجمالي وطبيعة الفن، وقد انطلق في ذلك من أن الإنسان ليس يوجد مثل الأشياء الطبيعية بل يوجد لذاته أيضاً، يوجد كروح. والوجود لذاته هو معرفة الإنسان لذاته، ومع أن هيغل يعطي المجال النظري الأهمية الأولى في معرفة الإنسان لذاته، إلا أنه قد أكد أيضاً على أهمية العمل في الوعي الذاتي وفي فهم طبيعة الجمالي. ففي المجال النظري تتم معرفة الإنسان ذاته من أجل ذاته ووعي كل حياته الداخلية بما فيها اللحظة العاطفية. وتهدف هذه العلاقة النظرية إلى معرفة الأشياء في كليتها ومعرفة ماهيتها الداخلية وقوانين وجودها وتطورها. وتجد هذه العلاقة تعبيراً عنها في العلم. أما في المجال العملي فيقوم الإنسان بالتأثير في أشياء العالم وبتغيير هذا العالم والعلاقة العملية نفعية يتم فيها استهلاك الشيء إذا كان فيه نفع أو فائدة. وتلعب الرغبة الدور الأساسي في تدمير الشيء من أجل الانتفاع به، أما العلاقة الجمالية أو الفن فإن الإنسان فيها يبدع ذاته في أشياء العالم الخارجي، إنها شكل من أشكال إنتاج الإنسان لذاته، حيث يؤنس الإنسان العالم ويطمح من خلال ذلك إلى جعل العالم الداخلي والخارجي موضوعاً يتعرف فيه على ذاته المبدعة الفعالة. فالجمال عند هيغل ليس أثراً طبيعياً بل صنع إنساني يرتبط بالعمل وبفعالية الإنسان. والعلاقة الجمالية تقوم على إدراك الأشياء في حريتها وفي فرديتها الحسية وفي كليتها العضوية وأصالتها غير القابلة للنسخ والتكرار. إن الجميل هو موضوع إدراك حسي مباشر. ومن هذه الناحية تختلف العلاقة الجمالية عن العلاقة النظرية وهي تختلف كذلك عن العلاقة العملية لأنها لا تتلف لشيء ولا تستهلكه بل تجعل منه غاية في ذاته وتدعه يتمتع بوجود مستقل وحر. إن العلاقة الجمالية هي رؤية الأشياء من حيث هي أثر للإبداع الإنساني، رؤيتها في استقلالها وحريتها كتعبير عن الإنسان وفعاليته. وهذه العلاقة ليست واسطة بل غاية في ذاتها، إن علاقة الإنسان الجمالية هي علاقة الإنسان بذاته. ويضرب هيغل مثلاً لذلك بالصبي الذي يرمي الحجر في الماء فتنداح فيه الدوائر فيأخذه العجب والدهشة من فعله. يقول هيغل: “إن الإنسان يفعل ذلك كذات حرة كيما ينتزع من العالم غرابته القاسية وكيما يتمتع بواقع خارجي لذاته في قالب الأشياء”. والفعالية الجمالية التي لا تنفصل عن الفعالية العملية ترسم أفق التقدم العقلي والنمو الداخلي للمحتوى العقلي أي أفق الحرية. وتواجه هيغل هنا مسألة التوفيق بين اعتبار الفعالية الجمالية غاية بذاتها، وبين كون الفن تعبيراً عن الروح ومرحلة عابرة في تطوره. إن هيغل يفهم المسألة الجمالية من خلال وعي الفكرة لذاتها إلا أنه بقوله بالغائية الداخلية للفن أضفى على العلاقة الجمالية، وعلى العلاقة بين الطبيعة والفكر دلالة ذاتية لا ترجع إلى مبدأ يتجاوزها.‏
5ـ المراحل التاريخية لتطور الفن:‏
قسم هيغل على أساس مذهبه الفلسفي الذي يعتبر الفن لحظة معينة في تطور الروح، قسم تطور الإنسانية الفني والجمالي إلى ثلاث مراحل أساسية:‏
1ـ المرحلة الرمزية وهي مرحلة الفن الشرقي الذي يظهر فيه عدم التوافق بين الفكرة وصورتها المادية الخارجية. إن العمارة التي يتغلب فيها الشكل المادي الخارجي على الفكرة هي النوع الذي يهيمن في هذه المرحلة، فالفكرة هنا مجردة غير متوافقة مع قالبها المادي ومثقلة به.‏
2ـ المرحلة الكلاسيكية وهي مرحلة الفن اليوناني الذي يتحقق فيه الانسجام والتطابق بين الفكرة وشكلها الطبيعي المادي أو التوافق بين الشكل والمضمون، إن الفكرة تجد هنا تعبيراً منسجماً عنها. والنحت هو الشكل الفني السائد في هذه المرحلة. فالفكر الحر يتجسد في الجسد الإنساني وتقوم بينه وبين الجسد مواءمة وتناسب وانسجام. وتتصف هذه المرحلة بأن علاقة الإنسان بمحيطه تكون فيها شفافه مباشرة لا يداخلها أي إكراه أو اختلال.‏
3ـ المرحلة الرومانسية: وهي مرحلة الفن الوسيط والحديث هنا لا يبقى التطابق بين الفكرة وشكلها المادي قائماً بل يأخذ عدم التوافق بينهما بالظهور. إلا أن عدم التوافق بينهما يتطور في هذه المرحلة لمصلحة الفكرة والروح بعكس المرحلة الرمزية حيث كانت المادة تضغط على الفكرة وترهقها. إن هذه المرحلة تكشف عن حرية الروح وانتصارها على المادة والطبيعة، إذ ليس الشكل المادي فيها سوى إشارة أو إيماءة للروح. وموضوع الفن الرومانسي هو الحياة الداخلية المطلقة. وأنواعها الفنية هي الرسم والموسيقى والشعر. ففي الرسم لا يحتاج المضمون الفكري إلى الحجم المادي للجسم، وفي الموسيقى يستغني المضمون كلياً عن المكان ذي الأبعاد ويتم فيها عبر تواصل الزمن التعبير عن المجال الانفعالي للحياة الداخلية. أما في الشعر فالحامل المادي هو الكلمة فحسب وفيه يطلق الفنان العنان للخيال الذي يمثل الحياة الروحية والعاطفة والمشاعر الإنسانية. والشعر هو حلقة الانتقال والوصل بين الفن والدين حيث تعبر الفكرة عن نفسها في قالب التصور الخيالي.‏
ولا شك أن التحليل التاريخي للمقولات الجمالية هو الذي أكسب علم الجمال الهيغلي الأهمية القصوى في الفكر الجمالي الحديث. إن الأشكال الفنية ليست سوى علاقات مختلفة للفكرة بالقالب الخارجي، وهذا الاختلاف في علاقة الفكرة بالقالب الخارجي، وهذا الاختلاف في علاقة الفكرة بالقالب مشروط بدرجة التطور الاجتماعي والتاريخي. ورغم ما في هذا التقسيم الهيغلي من تعسف فن رأيه بأن تطور الفن لا يرجع إلى الشكل والعبقرية الفردية بل إلى تطور المضمون صحيح تماماً. فهيمنة نوع فني أو خصائص فنية معينة تجد تفسيرها في مجمل العلاقات الإنسانية وفي درجة تطورها أو تطور الروح. إن هيغل يبين أن لكل مرحلة من المراحل الثلاث خصوصية لا تتكرر ولها عالمها الداخلي الخاص بها. والشكل الكلاسيكي هو من الناحية الفنية أعلى تطور للحياة الخاصة للموضوع. وهكذا يظهر التعارض بين المثل الأعلى المطلق (غاية الروح) والمثل الأعلى الفني. إن هذا الترتيب المرحلي التاريخي يجمع بين فكرة التقدم المستمر وفكرة عودة الأشياء إلى أصولها ومع ذلك فإن الصفة التاريخية لعلم الجمال الهيغلي تظل أحد أهم منجزاته وحقائقه الكبيرة.‏
6 ـ المثلى الأعلى والواقعية:‏
إن المفهوم الجمالي الرئيس عند هيغل هو المثل الأعلى. والمثل الأعلى هو أقصى تفتح للضرورة الداخلية في الشيء. إنه الواقعي إذ يفصح عن ماهيته وعن الإمكانيات التي ينطوي مفهومه عليها وبكلمة أخرى الواقع المتجانس مع ماهيته. وتطور الفن وأشكاله تابع لتطور هذا المثل الأعلى بل إن هيغل يعتبر الأشكال الفنية مراحل لتطور المثل الأعلى، ويسمي مراحل تطور المثل الأعلى أشكالاً فنية. وإذا كانت الأشكال الفنية مراحل لتطور المثل الأعلى، ويسمي مراحل تطور المثل الأعلى أشكالاً فنية. وإذا كانت الأشكال والأنواع الفنية تعبر عن المثل الأعلى في تطوره فإن هذه الأشكال ترجع إلى أساس مشترك. إن المثل الأعلى الجمالي ليس تابعاً لأنماط الأسلوب الذاتية بل يستند إلى معيار موضوعي يحدده تطور المحتوى العام للمراحل التاريخية. فالقيمة الفنية مستمدة من قيمة المحتوى كمعنى تاريخي وكقوة واقعية. إن المعنى التاريخي للمحتوى يعبر في منظومة هيغل الفلسفية عن تطور الفكرة، إلا أن هيغل نفسه قد نظر إليه أو سمح لنفسه أن ينظر إليه كتعبير متميز عن تناقضات حياة الإنسان الاجتماعية وعلاقاتها دون أن تستتبع ذلك عملية إرجاع صوفية لأقصى غايات الروح. وهنا تتجلى نزعة هيغل الواقعية في الفن كما يتجلى فهم هيغل التاريخي لعلم الجمال. إن هيغل يؤكد أن المثل الأعلى الجمالي أعني الواقع المتطابق مع ماهيته لا يجد حقيقته وسره في ما يتجاوز الفن، في تطور أرقى للروح بل إنه في حقيقته وسره في ما يتجاوز الفن، في تطور أرقى للروح بل إنه في حقيقته تعبير عن إشراقة شكل الحياة الأفضل. هذه الإشراقة التي تتألق لا خارج هذا العالم بل في هذا العالم بالذات وفي قلب الواقعي التاريخي. وهذا المثل الأعلى الجمالي يبرز حين يكون غنى الحياة أقرب ما يكون إلى التحقق. ومن الواضح أن المثل الأعلى الجمالي لا يتفق مع مسار الروح إلى أرقى درجات وعيها لذاتها. إن المثل الأعلى الجمالي ليس على موعد مع الفلسفة في آخر تطورها، بل إنه قد تحقق في الحضارة اليونانية أعني في لحظة مضت. لقد كان هيغل يعتبر النظام الديمقراطي اليوناني مثلاً أعلى للحياة ولقد دعا إلى إقامة حضارة جديدة على أساس المثل الكلاسيكية اليونانية حيث يتحقق الانسجام بين حرية الفرد ونشاطه الشخصي الذاتي من جهة وبين الوجود الاجتماعي ومتطلباته من جهة أخرى. إن هيغل قد أشار إلى أساس هذا الانسجام في حياة اليونانيين وفنهم فقال: “إن اليونانيين قد عاشوا وفقاً لواقعهم المباشر في الوسط السعيد بين الحرية الواعية لذاتها وبين الجوهر الأخلاقي.. كان الفرد في الحياة اليونانية مستقلاً وحراً في ذاته غير أنه لم يقطع صلته بالمصالح العامة القائمة للدولة الواقعية… ولم تظهر استقلالية العنصر السياسي إزاء أخلاقية ذاتية مختلفة عنه. إن الإحساس الجميل ومعنى وروح هذا الانسجام الرائع قد مهرا بطابعهما كل المنتجات التي وعت بها الحرية اليونانية ذاتها وأدركت ماهيتها”.‏
إن هيغل قد أدرك أن الانسجام الجمالي في الحياة والفن اليونانيين شيء مفقود ولا يمكن أن يستعاد إذ أن الروح تنهمك في ملاحقة أهداف أخرى أرقى كما يقول لوكاتش، وما يلفت النظر هنا هو أن هيغل لم يفصل ملاحقة الأهداف الأرقى عن الصفة غير الإنسانية للمجتمع الرأسمالي وسحقه لأي انسجام إنساني لدى الأفراد. وهيغل يخفف فيما بعد من هذه العلاقة الوثيقة بين المثل الأعلى الجمالي والفن والحياة اليونانيين فيشير إلى أن الفن وهو تعبير عن غنى الحياة الواقعية قد وجد في كل عصر إمكانية معينة لإقامة وحدة الطبيعة والفكر الإنساني. وتتجلى هذه الوحدة في خصوصية تطور الشكل وفي الاستخدام الخاص للطاقة الذاتية للإنسان الخلاق وفي المواد الحسية الجديدة للنشاط الفني إلخ… إن خصوصية الظاهرة الفنية لا تقضي على القيمة التاريخية الموضوعية للفن بل تؤكد فقط نسبية القيمة الفنية في إطار مجرى التطور التاريخي العام. وليست أشكال تجلي الجمال الفني أشكالاً أسلوبية ذاتية تعبر عن أساليب للرؤية بل تجد مكانها في سلسلة التطور التاريخي والمنطقي على السواء. إنها كلها مرتبطة بتطور المحتوى العام. والشكل الفني ليس صدفة طارئة بل تحدده قيمة المضمون ومغزاه التاريخي كقوة واقعية تتقدم وتعبر عن نفسها في تيار الأشكال الفنية. والمثل الأعلى الجمالي هو نفسه المثل الأعلى الفني. لقد التفت هيغل إلى الجمال في الطبيعة إلا أنه اعتبر الجمالي كما رأينا إبداعاً إنسانياً ووحد بين علم الجمال وفلسفة الفن. وخلال تحليله للمثل الأعلى الفني صاغ بعض المبادئ الأساسية للطريقة الواقعية. إن الواقعية تتخطى سطح الحياة لتنفذ إلى حركتها العميقة وتياراتها الداخلية الأساسية والفنان الواقعي إذ يكتشف ماهية الحدث يستطيع أن يرسم شخصيات وملامح ذات أهمية استباقية. إنه إذ يتوغل في أعماق الواقع يواجهه أفق المستقبل. وفي تحليل هيغل للشعر كنوع فني حديث ينوه بأن على الشعر أن يبرز الشيء الأساسي الجوهري الزاخر بالحياة. عليه أن يبرز طبيعة الشيء الخاصة وما تنطوي عليه من طاقة وزخم. إن على الفنان أن يبرز ما ينبغي أن يكون، أن ينفذ إلى المفهوم كما يقول هيغل ولا يكتفي بالموجود الناجز فقط. وقد كان هيغل يوضح أن الكلي يعبر عن نفسه مباشرة في أفراد معينين ومن خلال عواطفهم الذاتية وسجاياهم الطبيعية. فالكلي والفردي متحدان وهكذا يتمركز محتوى العالم في فرديات الأبطال. وهنا نصل إلى مبدأ وحدة العام والخاص هذه الوحدة التي تتجلى في الجوهري النموذجي (الحاضر أبداً). وخلق النموذجي هو مطلب أساسي في الشخصية الأدبية لدى الواقعيين إذ به تتخذ ميول العصر العامة قالباً فردياً شخصياً. وهيغل يقول من جهة ثانية أن على الفن أن يصور تناقضات العصر والنزاعات الأساسية التي تعج فيه. ويتم تصوير هذه النزاعات والصراع الإنساني الاجتماعي، عند هيغل وكذلك في الطريقة الواقعية عن طريق الأعمال والأحداث الإنسانية لأنها هي التي تنم عن أهداف الإنسان ومقاصده. ويجب أن تتصف الشخصية الأدبية موضوع العرض الفني بالعمق والتماسك والغنى أي يجب أن يتوفر فيها حسب مطلب هيغل، من جهة، الثبات والوضوح والانسجام ومن جهة ثانية الغنى والخصوبة والتنوع. إن الطريقة الواقعية تجد في هذه الأفكار الهيغلية عرضاً قوياً وتبنياً صريحاً لها. ولقد بيَّن هيغل أن مهمة الفنان هي عرض القوى والطاقات الجوهرية للعصر من خلال أحداث ومطامح بعض الأفراد وكذلك من خلال عواطفهم وأهوائهم. والطريقة الواقعية تمثل بالنسبة لهيغل مثلاً أعلى فنياً. وقد قال أحد الباحثين أن هيغل واقعي بالفطرة والولادة إذ ليس عند هيغل مثل أعلى مجرد يحوم فوق مشاكل الإنسان الحقيقية. إن الفن هو من جهة تعبير حسي عن المطلق ومن جهة ثانية تعبير عن غنى الحياة الواقعية وعن الوحدة بين الطبيعة والفكر الإنساني، وفي كلتا الحالتين يرتدي المحتوى الفني الأهمية الأولى الحاسمة ويحقق التقدم على الشكل الفني وفي كلتا الحالتين يكتسب الفن قيمة معرفية لأنه شكل من أشكال معرفة الحقيقة. وقد أشرنا إلى أن محتوى المعرفة الفنية هو قوة واقعية ذات اتجاه ومعنى تاريخيين. والنفوذ إلى هذا المحتوى هو أهم خصائص الطريقة الواقعية. ولهذا ينتمي هيغل إلى المؤسسين النظريين للواقعية. إن الواقعية المعاصرة تجد في العودة إلى هيغل سنداً لها في صراعها مع النزعات الشكلية والتجريدية في الفن الحديث. والواقع أن جمالية هيغل التي تستوعبها الواقعية المعاصرة بما فيها الواقعية الاشتراكية تجد اليوم نقداً واعتراضات من جهات عديدة تنكر قول هيغل بوجود قيمة معرفية معينة للفن. فالفلسفة الوضعية تعلن أنه لا يمكن التثبت إلا من بعض الوقائع والظواهر والمعطيات، ولا نستطيع النفاذ إلى ماهيتها ومعناها العام. والفلسفة الحدسية اللاعقلية (شبونهور حتى الوجودية) تنتقد هيغل لأنه جعل الفن شكلاً من أشكال المعرفة فقط ولم يرفع المعرفة الفنية وبالأصح الحدس الفني إلى بديل للفكر النظري ولم يقم بالإعلاء من شأن الفن إعلاء يؤذن بإفلاس العقل والتفكير المنطقي ويكرس هذا الإفلاس. ففي الفلسفة اللاعقلية ينبغي أن يعارض الفن العلم وأن يتحول إلى المجال الوحيد للمعرفة الأصلية ولبلوغ المطلق. فالفنان يقدم عبر إشراقة داخلية صوفية مضمون الواقع الحقيقي العميق. ولهذا كان التفكير العقلي المنطقي ضاراً بالفنان ومبعداً إياه عن مصادر إلهامه. ويمكننا أن نعتبر محاولات روجيه غارودي في تأويل الفن المعاصر تعزيزاً واستمراراً للتيارات المعارضة للهيغلية. فغارودي يذهب بعيداً جداً في تأكيد أهمية الشكل وحقوق الفنان وحريته المطلقة في الخلق الفني دون مراعاة لحقيقة الحياة ولقوى المضمون الواقعية ومغزاه التاريخي. إن الفن عنده لا يعيد توليد الواقع ولا يترجمه فنياً ولا يكتشف حركة موضوعية تتفتح فيه عن آفاق المستقبل، والفن ليس انعكاساً لمضمون واقعي، بل عمل مبدع يكشف لا عن الحقيقة الموضوعية للحياة بل عن نشاط الفنان الخلاق الذاتي الذي ينشئ واقعاً فنياً أغنى وأروع من الحياة ويصنع مشاريع حيوات فنية أخرى. وبكلمة وجيزة فإن الفن ليس ـ كما يقول هيغل ـ معرفة للعالم وللروح بل تعبير ذاتي عن الفنان. وعلى هذا الأساس تنتفي لدى غارودي تلك المظاهر التي يعتبرها هيغل انحطاطاً فنياً في ظل التقسيم الرأسمالي المتطور للعمل. بل إن غارودي يرى في ما يراه هيغل انحطاطاً شكلياً وابتعاداً عن تيار الحياة العميق، يرى فيه خلق الفنان الذاتي والمثل الأعلى المعاصر للفن.‏
7 ـ الفن والمضمون التاريخي والاجتماعي:‏
لقد رأينا أن الفن هو التصوير الحسي للروح، للفكرة المطلقة. فالفكرة هنا متحققة في الواقع ومندمجة معه في وحدة مباشرة. ومضمون الروح يغتني من رحلة التاريخ الإنساني المعقدة. ولا شك أن الحل المثالي لعملية التطور الموضوعية قد وجد تعبيراً عنه في الفكرة. لكن هذا لم يلغ أبداً الحقائق الواقعية للحياة الإنسانية بل إن هيغل برغم تصوره المثالي والغائي قد نظر بعينين صافيتين ومفتوحتين إلى العلاقات الواقعية الموضوعية. وهيغل يشير إلى أن الروح يتصل بأعمق مصالح الإنسان. وهو يقيم الصلة بين العنصر الجمالي وتطور المجتمع ككل يطور ذاته بذاته. إن الفن ليس سوى جانب في عملية التطور التاريخية الشاملة هذه العملية التي تمثل الروح أصدق تمثيل بل إن هذه العملية هي ما يمكن ببساطة أن نفهمه من مجال الروح عند هيغل. أن الفنان هو ابن عصره والمجتمع شرط أساسي في ازدهار الفن أو انحطاطه. لقد طالب هيغل بالربط بين الفن وأعم مسائل النظرة إلى العالم ومصالح العصر والشعوب والأخلاق. ولقد قال إن الشعوب قد أودعت في الفن أسمى معانيها. فالتاريخ الاجتماعي هو الذي يحدد ملامح الفن. وقد لا نوافق هيغل دائماً على قوله أن ثمة عصراً يلائم ازدهار الفن وعصراً لا يلائمه، إلا أن الحقيقة التي أكدها هيغل من خلال ذلك هي أن انهيار الفن هو في آخر تحليل ثمرة انهيار المجتمع. وهذه الحقيقة تبقى صحيحة بالرغم من أن بعض عباقرة الفن قد ظهروا في عصور تفكك اجتماعي. إن أهمية هذه النظرة الهيغلية تكمن في أنها لا تفصل تطور الفن عن تطور المجتمع وتمثل بالتالي رداً على آراء شائعة الآن تجادل في أمر وجود صلة قوية بين الفن والتطور التاريخي، وإن كان من الخطأ أيضاً عدم الانتباه إلى الاستقلالية النسبية للتطور الفني. ولا نوافق هيغل على رأيه بأن لكل شعب دوراً خاصاً في العملية التاريخية. إلا أن وجود علاقة بين التطور الفني وبعض الخصائص والمميزات القومية أمر صحيح. وهذا الأمر ينسحب على كل جوانب الحياة الثقافية ومجال الحضارة الروحية. إننا نستطيع أن نفهم عقلية شعب على نحو جيد بالتعرف على فنه الذي تجد فيه هذه العقلية أو هذه النفسية تعبيرها الواضح. ولهذا يصح أيضاً أن نتحدث عن الإطار أو الشكل القومي للثقافة. ولعل من أكبر الجوانب السلبية في تطور الفن ابتعاده عن عقلية الشعب وتقاليده وأصوله ومنجزاته ومناخه الروحي. إن الفن جزء لا يتجزأ من العملية التاريخية الاجتماعية في كليتها العينية الملموسة. وعلى ضوء ذلك لا يكون الفن كتعبير عن الروح تعبيراً عما يتجاوز هذه العملية التاريخية الاجتماعية. إن علم الجمال الهيغلي قد ارتبط بفكرة التحول الاجتماعي القادر على تجديد العالم وذلك بمنحه الإنسانية مرة ثانية الأمل بالشباب والحيوية والطاقة الحاشدة لكل القوى الاجتماعية الإيجابية. إن رؤية الصلة بين الأنواع الفنية والمراحل التاريخية واعتبار تبدل الأنواع والأساليب عملية منطقية ترتكز إلى مبدأ أساسي وهو خضوع تطور الأشكال الفنية للمحتوى الموضوعي وللتطور التاريخي للمجتمع، إن كل هذه الأفكار الجمالية العميقة يعود الفضل في اكتشافها وعرضها إلى هيغل. وهيغل يرى فوق ذلك في تناقضات العصر ومختلف أوضاع العالم في عصور معينة أساس النزاعات والشخصيات الفنية. وعلى هذا الأساس يستنتج أن المجتمع البرجوازي معاد للفن والجمال.‏
8 ـ عداء البرجوازية للجمال والفن:‏
لم يفصل هيغل النشاط الجمالي عن الممارسة العملية بل أكد كما رأينا على أهمية العمل في فهم الجمالي كما أدرك أبعاداً أساسية من العلاقة بين النشاط الفني وخصائص المجتمع الرأسمالي. وقد استنتج عن طريق المقارنة بين النشاط الفني والإنتاج المادي أن العالم البرجوازي معاد للجمال والإبداع الفني، وتحدث عن افتقار هذا العالم إلى الشاعرية، عن نثر عالم البرجوازية. إن العالم البرجوازي هو عالم العمل المستعبد حيث تتعزز تبعية الإنساني للإنتاج وفقدانه للحرية وحيث يقضي تقسيم العمل والمكننة على تفتح شخصيته وروح المبادرة لديه. ففي عالم تقسيم العمل ينصرف الفرد إلى تنفيذ حركات قليلة لا تمثل سوى جزء يسير جداً من عملية العمل الواسعة فتضمن إمكانيته ومواهبه ويصبح نشاطه ملحقاً بأهداف غريبة عنه. إن استلاب الإنسان الكلي في المجتمع الحديث يحطم أساس التطور الحر للشخصية وللخلق الفني الأصيل وللجمال والشعر. أما الكمال الذاتي والانسجام اللذان عرفتهما الحضارة اليونانية فقد ذهبا إلى غير رجعة. والفن يجنح في العالم البرجوازي أكثر فأكثر إلى الانحطاط وهذا الأمر لا يقتصر على اجترار الكلاسيكية اجتراراً أكاديمياً فارغاً ومتكلفاً بل يتعداه إلى النزعة الذاتية والشكلية حيث يعمد المرء إلى عرض الواقع في فرديته وجزئيته العرضية وحيث يصبح وصف الحياة اليومية السطحية هدفاً للفن. ومن الواضح أن مثل هذا الفن يشيح بنظره عن المشاكل الكبرى للعصر والحياة.‏
وفي هذا العالم البرجوازي القائم على التقسيم المتزايد للعمل والمعادي للفن يتفكك الاتحاد بين الناس وتنفصم عرى الوحدة التي كانت قائمة بين الإنسان والطبيعية. والناس كأفراد يتثبتون من عدم انسجامهم مع المجتمع إذ أن المجتمع قد تحول إلى قوى غريبة متناقضة مع مصالحهم الحقيقية. لقد فقد العمل المنتج طابعه الشخصي الحر وكذلك تتصف علاقات الإنسان الحقوقية والسياسية بالتجريد والتوسط وانعدام الحرية، ذلك أن الصلة المباشرة بالمجتمع قد انقطعت والفرد قد أصبح كياناً مجرداً حقوقياً. وإذا كانت العلاقات الإنسانية كلها قد أصبحت لا شخصية فالمادة الحياتية التي تلائم الفن تضمحل وتحل محلها أمائر الإنهاك والقسم والسطحية والعقم. وهذه كلها تشير إلى انعدام الشاعرية وانعدام العذوبة في العالم، وإلى تحطيم الإنسان أمام نثر الحياة البرجوازية، وهذا التحطيم الذي يعاني منه الإنسان يرتبط عند هيغل بسيطرة الملكية الخاصة. ومع ذلك فإن هيغل لا يرى في طريق الحرية والتحرر في إزالة الملكية الخاصة بل في الاستغراق الذاتي، في حرية الذات الداخلية، في انتصار الروح على الطبيعية. والواقع أن الفن إذ يجعل من الحياة الداخلية الخاصة المستقلة موضوعة يقطع صلته بالشيء الحسي الموضوعي ويقضي بذلك على ذاته كفن. وهذا ينسجم تماماً مع تصور هيغل الفلسفي للفن كمرحلة في تطور الروح المطلق. إن هيغل يتحدث عن معاداة البرجوازية للفن وعن القضاء على الفن كشكل من أشكال المعرفة مفسراً من جهة سيطرة النزعة الذاتية والاستغراق الذاتي بعلاقات العصر الراهنة المتناقضة ومفسحاً من جهة أخرى المجال لتحرر الروح المطلق من العالم الحسي، ولحلول الفلسفة محل الفن كتعبير أرقى يصل فيه الروح المطلق إلى الوعي الذاتي التام. ولكن هنا بالذات في إحلال الفلسفة محل الفن يظهر التناقض الشديد بين التحليل التاريخي الجدلي وبين الصفة المثالية والتصوفية ـ الغائية لمنظومته الفلسفية. إن هيغل يتخلى عن التحليل التاريخي إذ يجعل من تناقضات المجتمع الرأسمالي ومن عدائه للجمال وللفن شرطاً لتقدم الروح أو كما يقول أحد الكتاب مأساة للروح الخالدة. وهكذا لا تعود جدلية التناقضات الاجتماعية قوى محركة في طريق تجاوز الملكية الخاصة وقوة تاريخية في إطار تاريخي بل يتحول نثر العالم البرجوازي إلى حقيقة مطلقة مستقلة عن التاريخ والعلاقات الواقعية.‏
لقد قابل هيغل انحطاط الفن الحالي بازدهار فن الحالة البطولية في الديمقراطية اليونانية القديمة حيث تحقق المثل الأعلى الجمالي. أنذاك كانت علاقة الفرد بمحيطه ووسطه مباشرة شفافة. وكان العمل ذا طابع شخصي تشيع فيه رنة الفرح. آنذاك لم يكن تقسيم العمل قد ذهب بعداً بعيداً. فالناس الأحرار أو الأبطال أنفسهم هم الذين يصنعون بأيديهم أدواتهم ووسائل حياتهم وتسليتهم. إن خصائص أسلوب الإنتاج عند الأقدمين يتفق مع الطابع الشخصي للإنتاج ومع الحرية السياسية اليونانية ولقد كانت حياة اليونانيين تتصف بانسجام الفرد مع الأفراد الآخرين وبتكامل نشاط الفرد الحر مع المجتمع والدولة. وكانت هذه العوامل كلها وراء ازدهار الفن قديماً. ولم تكن الملحمة النوع الأدبي الذي ساد آنذاك فحسب بل إن الحياة نفسها كانت أيضاً ذات أبعاد بطولية ملحمية. لقد كان ذلك العصر عصر نشاط وفعالية ذاتية قوية للشعوب الحرة، وهنا يتأكد لصورة خاصة المثل الأعلى الجمالي القائم على الوحدة المنسجمة بين الإنسان والطبيعة ويتأكد أن تجاوز هذه الوحدة يتم على صعيدين الأول هو حركة تناقضات المجتمع والثاني هو حركة الروح. ولذلك يبدو أن تجاوز الوحدة مع الطبيعة كاستغراق ذاتي وتحرر روحي يتفق مع الروح المحافظة ومع التكيف مع عالم الملكية الخاصة والرأسمالية، أن الفن يقضي على ذاته.‏
وهذه الواقعية التاريخية تتصف في الوقت ذاته بالسلبية والإيجابية. إنها سلبية لأنها تشير إلى عبودية الإنسان لعلاقات الإنتاج الرأسمالي ولنثر الحياة البرجوازية وهي إيجابية لأنها تشير إلى تحرر روحي وإلى أعلى درجة في الوعي الذاتي. وأمام هذا التناقض الحي يبقى هيغل يقظ الفكر ومفتوح العينين. وينبغي هنا أن نضيف أن فكرة هيغل عن عداء الواقع البرجوازي للفن والجمال لا تتفق مع التفسير الحديث الذي يربط انسداد أفق الفن بانهيار كل الثقافة الإنسانية والحضارة البشرية. إن هذا التفسير يعكس إلى حد بعيد انحطاط ثقافة البرجوازية المتأخرة. وسنرى أن هيغل لم يعتبر الافتقار إلى الشاعرية والنثر في الصلات البرجوازية حقيقة قائمة فوق الزمن. إن فكرة هيغل عن نثر الحياة البرجوازية وعدائها للفن والجمال قد استبقت آفاق تطور الفن في القرن التاسع عشر. إلا أن هيغل قد أضاف من جهة أخرى أن الفن سينبعث في أشكال جديدة ولا سيما في الرواية، ملحمة العصر البرجوازي.‏
9 ـ خلاصة وخاتمة:‏
لقد اعتبر هيغل الفن وبالتالي الفعالية الجمالية مرحلة دنيا في المعرفة النظرية التي تبلغ في الفلسفة، حيث يكون المطلق لدى ذاته، أرقة درجاتها. إن الفن هو التصوير الحسي للمطلق أو للروح؟ وهذا التمييز بين الفن والفلسفة يصدر ـ طبعاً ـ عن اعتبارات فلسفية.‏
ولنطرح الآن السؤال الذي طالما لمسناه في العرض السابق: هل يلتقي الفن مع الدين والفلسفة في المحتوى على هذا السؤال أن أشمل حقائق الروح لا تنفصل عن جملة علاقات الإنسان الموضوعية في هذا العالم وبالدرجة الأولى السياسية الموضوعية والاجتماعية والحقوقية والأخلاقية. إن الفنان هو ابن عصره ومجتمعه لأن الفن جانب في عملية التطور التاريخية، أما موضوع الفن أو محتواه فإنه رغم التقائه مع المحتوى المعرفي للدين والفلسفة يتجاوز العلائم المشتركة معهما. لقد بيَّن هيغل أن ثمة درجة معينة للحقيقة للوجود الإنساني نستجيب للنشاط الفني وأن ثمة تمايزاً نسبياً بين موضوع المعرفة وموضوع العرض الفني، فإلى جانب موضوع المعرفة ينصرف الفن إلى عرض الغنى الكلي لأشكال الطبيعية وصورها: فثمة إذن محتوى فني خاص متميز. وهيغل يقول أن الفن يكشف سيطرة القوى العامة في التاريخ وأن العواطف والانفعالات هي لحمية العملية التاريخية. ومن هنا يمكننا التمييز بين محتوى فكري معرفي ومحتوى انفعالي للفن. ومجال الفن الخاص هو الانفعالات والعواطف التي تعبر عن القوى السائدة في التاريخ. وفي مجالات عديدة لا يعتبر هيغل الفن حلقة دنيا للمعرفة إزاء العلم كحلقة عليا، بل يعتبر الفن والعلم وظيفتين مختلفتين نوعياً في المعرفة ووظيفتين ضروريتين لا تنوب الواحدة منهما عن الأخرى. ولقد رأينا في ما سبق أن الجمالي مرتبط بالعمل، إنه صنع إنساني وحصيلة فعالية الإنسان الواقعية وهو رؤية الأشياء كأثر للإبداع الإنساني كتعبير عن الإنسان. ومن خصائص الوعي الجمالي أو بالأحرى النشاط الفني أنه لا يستهلك الشيء بل يجعل الطاقة الإنسانية تتموضع في استقلال وحرية كغاية في ذاتها. وهنا تطرح مسألة التوفيق بين الفن كغاية في ذاته وبين الفن كلحظة عبور لتجلي الروح. فكيف يمكن على ضوء ما تقدم أن تكون حقيقة الفن في الدين والفلسفة؟ إن محاولة الإجابة على هذا السؤال تضعنا أمام التناقض الجدلي الذي يتغلغل في تحليلات هيغل وآرائه الجمالية، أن القيمة الفنية المعرفية مستمدة عند هيغل من قيمة المحتوى كمعنى تاريخي وكقوة واقعية أي أنها مستمدة من علاقات الإنسان الاجتماعية وتناقضاتها ولكن حركة هذه العلاقات وهذه القوة الواقعية التاريخية تخط أيضاً مسار الروح الذي سيتجاوز الفن في النهاية. لكن بصرف النظر عن هذه الناحية فإن تحليل هيغل الجمالي يتسم بنزعة واقعية وفهم تاريخي. إن المثل الأعلى الجمالي عنده هو إشراقة شكل الحياة الأفضل في هذا العالم في الواقع التاريخي حيث يكون غنى الحياة أقرب ما يكون إلى التحقق والتفتح. ولقد تحقق هذا المثل الأعلى في الحضارة اليونانية إلا أن غنى الحياة الواقعية يجد في كل عصر إمكانية معينة إقامة وحدة الطبيعة والفكر الإنساني. ولقد صاغ هيغل بعض مبادئ الطريقة الواقعية وأكد أن مهمة الفنان هي عرض القوى والطاقات الجوهرية للعصر من خلال أحداث ومطامح بعض الأفراد ومن خلال عواطفهم وأهوائهم.‏
كل هذه النتائج التي توصل إليها هيغل في تحليله تؤكد على كون الفن تعبيراً عن غنى الحياة الواقعية وعن الوحدة بين الإنسان والطبيعية وهي نتائج لا تتعارض مع كون الفن تعبيراً عن الروح المطلق. إلا أن هيغل في تحليله لبعض الخصائص الفنية وفي أحكامه الملموسة المحددة قد توقف عند وحدة الطبيعة والإنسان دون أن يعير اهتماماً لكون الفن حلقة دنيا في تطور الروح المطلق. ولابد من أجل فهم جمالية هيغل من الإقرار بوجود هذا التناقض الحي الذي يمكن عرضه كما يلي:‏
1ـ إن هيغل يجعل الفن في منظومته الفلسفية تعبيراً عن الروح ويضيف إلى ذلك أن تطور الروح الحالي وتساميه يفضي إلى زوال الفن. فنثر الحياة البرجوازية يجد حقيقته في تطور الروح اللاحق، في الفلسفة.‏
2ـ يضع هيغل في تحليلاته التفصيلية وخاصة في كتابه علم الجمال نصب عينيه حقيقة كون الفن تعبيراً عن وحدة الطبيعية والإنسان. وفي هذه النظرية يغدو نثر الحياة البرجوازية تحطيماً للانسجام والجمال وافتقاراً للانسجام اليوناني الذي لن يعود.‏
وهيغل مع تأكيده أن الفن مرحلة في تطور الروح وأن الفن سيزول مفسحاً المجال لتسام أرقى للروح، لم يذهب إلى النهاية مع رأيه القائل باضمحلال الفن فهو حين عرض للرواية التي تمثل ملحمة عصر البرجوازية والتي تطمح أن تكون لها أبعاد ملحمية تراجع جزئياً عن القول باضمحلال الفن. وكذلك تراجع حين أخذ يؤكد على أهمية التعارض بين نثر العلاقات البرجوازية وشاعرية القلب الإنساني وأهمية النزاع بين نظام الأشياء المتحجر المعادي للجمال والشخصية الثائرة على هذا النظام. إن هذه النزاعات هي موضوع صالح لفن معاصر وإنساني تتجلى فيه عظمة الإنسان وغنى العلاقات الإنسانية وشاعرية المطامح الإنسانية. أن هيغل يحدد بوضوح معالم الرومانسية ولم يوضح كيف سيكون انبعاث الفن على أساس جديد إلا أنه تحدث عن مرحلة جديد للفن الرومانسي أو عن مرحلة جديدة تتجاوز الفن الرومانسي وهي مرحلة الفن الحر. إن الفن الحر غير محدود في محتواه وهو يجعل الإنساني محور اهتمامه. فالمضمون المطلق لفن العصر الحاضر هو العنصر الإنساني وجملة العلاقات الإنسانية. والرواية، لأنها تتناول الإنسان كإنسان في حياته الخاصة وتعني بتصوير ووصف الحياة الإنسانية، تحتل مكاناً هاماً في الفن الحر. إن تطور الفن الحر الإنساني يتناقض مع غائية هيغل المثالية التي تفضي إلى القول الجازم باضمحلال الفن.‏
والواقع أن الفن في كتاب “علم الجمال” لهيغل كان أكثر من لحظة عبور إلى مرحلة أرقى لتجلي الروح. ويعتبر أحد علماء الجمال المعاصرين كتاب علم الجمال، هو أسهل كتب هيغل وأمتعها، ثقباً هوائياً في منظومته الفلسفية. فهيغل في علم الجمال أكثر واقعية وإنسانية وأقرب إلى الأرض والواقع والطبيعة منه في منظومته الفلسفية. إن الفن الذي يوحد بين الطبيعة المتناهية والفكر اللامتناهي أو يتوسط بين الواقع الحسي والفكر الخالص، إن هذه اللحظة المتوسطة تكتسب في علم جماله أهمية خاصة بذاتها، وبقدر ما تصبح هذه اللحظة المتوسطة موضع اهتمام تبتعد النتائج الفلسفية عن التدخل في التحليل الملموس وننسى إلى حين أن الفن حلقة في تطور الروح. أن هيغل يتوجه هنا بتحليله إلى الواقع وإلى الجمال الطبيعي وإلى غنى الحياة الإنسانية. وفي هذا التحليل يغدو الفن بالدرجة الأولى تعبيراً عن الجانب الحسي الطبيعي النابض بالحياة والتوثب. إن علم الجمال يمثل بالنسبة للتجريد المنطقي الخالص عودة إلى الأشكال الحسية للعالم العيني الملموس، للطبيعة والإنسان، هذه الأشكال التي تعرض رمزياً في صيغة تطور المقولات، إنها عودة إلى أمنا الأرض حيث تقوم وحدة عليا بين الإنسان والطبيعة. إن الفكرة المطلقة تقود كما يقول هيغل إلى ذاتها في مجرى التاريخ المليء بالتناقضات، عبر تطور الإنسانية. والطبيعية. إن الفكرة المطلقة تعود كما يقول هيغل إلى ذاتها وحدة الروح والطبيعة أو يقوم فيها التطابق بين الطبيعة والتاريخ وبين التطور العام للأشكال المجردة للحضارات الإنسانية والنشاط الذاتي العيني للفرد. وفي هذه اللحظات يتحقق انسجام الإرادة الإنسانية مع اللعب الحر للطاقات البشرية وانسجام الضرورة مع الحرية. إن مهمة فلسفة هيغل تتلخص في الوصل بين الفكرة المطلقة المجردة والروح المطلق. وهيغل يكشف في معالجته للحلقة المتوسطة بين الفكرة والروح، وهي الطبيعة والحياة الإنسانية، يكشف عن إحساس واقعي حاد واهتمام كبير وحار بالحياة. وما يهم هيغل هنا ليس الصفة المثالية المجردة لأشكال الفكر العامة بل صورة الحياة المليئة بالمعزى أو الصورة التي تتحقق وفقها الحياة الواقعية والعالم الحقيقي. ففي فلسفة الفن يجري الانتقال من منطق الفكرة إلى منطق الحياة في أعلى مستوياتها حيث تقوم الوحدة العضوية بين الطبيعة والروح.‏
لقد أخضع هيغل في فلسفته الفن والخلق الفني للمعرفة النظرية والعلم، إلا أنه لم يقض بذلك على مجرى الحياة الحر والمشاعر المباشرة. إن الجميل في الطبيعية هو ما يذكر بالإنسان وما يحدثنا عن الحياة. وإذ ينظر هيغل إلى الجميل كتعبير عن الحياة يضعف ـ دون أن يزيل ـ اللحظة التأملية المجردة التي تتغلغل في نظامه الفلسفي حيث يكمن الجمال في اكتمال تفتح الفكرة. إن علم الجمال هو منطق الأشكال الراقية لتجلي الحياة وهيغل يؤكد هنا على اللاتناهي الفعلي والخصوبة اللامتناهية للطبيعة. فالطبيعة ليست كما في منظومته متناهية بل تنطوي على غنى لا متناه. إن الجميل الذي كان في المنظومة تعبيراً مرحلياً عن التفتح العام للفكرة يغدو في التطور الفعلي مليئاً بالواقعية والغنى المشخص للواقع الطبيعي والتاريخي. وهذا الفهم الواقعي والتاريخي للغنى المشخص في الواقع الطبيعي والتاريخي هو الذي يمنح علم جمال هيغل أهميته الراهنة وقيمته الباقية.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى