القصائد التالية مترجمة عن كتاب بورخيس (الهاسيدور) والتي يترجمها بعضهم الصانع بينما المعروف أن الكلمة أكثر تعقيدا من الاختصار إلى هذه الكلمة. طاب لي سابقا أن أترجمها الى الصنّاجة وتبريري في ذلك أنه يقصد هوميروس وما زلت عند هذا الرأي ولو كانت لنا حرية أكبر لوجدنا أن كلمة (الأسطة) العامية كانت الأقرب الى العنوان الأصل.
وكتاب الهاسيدور لعله من بواكير قصيدة النثر في الاسبانية يهديه بورخيس الى شخصية أدبية قادت حركة التجديد في الأدب الإسباني. أهدى بورخيس كتابه الى ليوبولدو لوغونَس وتخيل لو أنه التقى لوغونوس ليسلمه نسخة من هذا الكتاب كما يقول في المقدمة التي كتبها عام١٩٦٠:
(تجرني هذه الأفكار الى باب مكتبك. أدخل ونتبادل بضعة كلمات تقليدية ولكنها حميمية ثم أعطيك نسخة من هذه المجموعة. أعتقد أني على صواب يا لوغونس حين أقول أنك لم تمقتني بل أمتعك أن تجد بعض كتاباتي مما ينال رضاك. لم يحدث شيء من هذا قط ولكنك هذه المرة تقّلب الصفحات وتقرأ سطراً من هنا وسطراً من هناك بشيء من الرضا لأنك تجد صوتك أنت فيها، لأنك وعلى الأرجح لاتهتم بالوزن قدر اهتمامك بموسيقى الكلمات.
بهذا يذوب حلمي ويتلاشى كما تختلط المياه بالمياه. المكتبة الهائلة التي تحوطني في شارع مكسيكو وليس في روديغريه پينا وأنت يا لوغونس أنهيت حياتك عام ١٩٣٨. قادني الغرور والنوستالجيا الى فبركة هذا المشهد المستحيل. فليكن إذن. أقول لنفسي، لأني سأموت قريبا أيضاً، سيختلط زمنك بزمني والتراتب الزمني سيضيع في مجرّة الرموز هذه وبطريقة ما سيكون من المقبول القول بأني أخذت بالفعل نسخة من هذه المجموعة إليك ,انك استلمتها مني.)
نمور حلم
عندما كنت طفلا عبدثُ النمورَ مخلصاً. لا ليست نمور نهر پارانا الصُفْر ولا نمور غابات الأمازون بل النمر الآسيوي ذو الخطوط والذي لا يمكن اصطياده إلا من قبل رجال مسلحين من على دروع محمولة على ظهور الفيلة. كنت أقف طويلاً أمام أحد أقفاصها في حديقة الحيوانات وكنت أثمّن الموسوعات الهائلة وكتب التاريخ الطبيعي بقدر روعة صور النمور فيها. ما زال بإمكاني استحضار نابض بالحياة لتلك الصور؛ أنا الذي أشقى باستذكار ملامح وجه بشري أو ابتسامة امرأة. ولّت طفولتي وخبا شغفي بالنمور ولكنها ما زالت تتقافز في أحلامي.
في اللاوعي، ذلكم البعد الفوضوي، يتواصل حضورها بالطريقة التالية: يعكّرني هذا الحلم أو ذاك فأدرك فجأة أني أحلم. الحلم ممارسة لإرادتي. وبما أن إرادتي لا تُحد، أقرر أن أحتلم نمراً. بعجز بيّن لا يتمكن حلمي من اختلاق الكائن المبتغى. يظهر نمرٌ بطريقة ما، لكنه نمر ركيك كما دمية محشوّة، ناقص الشكل أو صغير الحجم أو وجيز الحضور، أو على شكل كلب أو ربما عصفور.
وردة صفراء
لم يمت جامباتيستا مارينو في ذلك الأصيل ولا في الذي تلاه، هو الذي أطلق عليه الناطقون باسم الشهرة (إذا استعرنا تعبيرا محبباً إليه): هوميروس المعاصر أو دانتي الجديد.
الحدث الصامت غير القابل للتبديل والذي يجري الآن كان آخر شيء يحدث في حياته. متوّجا بالمجد وطول الحياة كان الرجل يُحتضر على سرير إسباني فخم ذي أعمدة مقوَّسة. من السهل تخيّل الشرفة الهائلة على بعد خطوات منه قبالة الشمس المائلة إلى الغروب، تحتها منحوتات مرمرية وأشجار غار وحديقة تتكرَّر أروقتها في رقعة مستطيلة. امرأة ما وضعت وردة صفراء في مزهرية. تمتم الرجل لنفسه بسطرين لا مناص عنهما واللذين بديا له في تلك اللحظة – والحق يقال- مملين قليلا:
بنفسج الحديقة وزينة المروج
أمحاح الربيع الصُفْر وعين نيسان
في تلك اللحظة تجلّت الرؤيا. رأى مارينو الوردة وكما لا بد أن يكون آدم قد رآها في الفردوس لأول مرة، فأحس بأنها موجودة ليس في الكلام ولكن في زمنها اللانهائي وأدرك أننا نعبّر ونومئ إلى الأشياء لكننا لا نمنحها قدرة التعبير وأن تلك المجلدات الضخمة التي تلقي بظل ذهبي في زاوية غرفته لم تكن مرايا العالم كما توّهم غرورُه بل هي أشياء أخرى تمت إضافتها الى العالم.
جاء هذا الكشف لمارينو مساء موته وكما جاء على الأرجح لهوميروس ودانتي.
حكاية سرفانتس ودون كيخوته
بَرِمٌ بوطنه إسبانيا، يبحثُ جنديٌ عجوز من جيش الملك عن سلوى في جغرافيات أرسطو الشاسعة وفي أودية القمر حيث يرقد الزمن الذي تهدره الأحلام وكذلك في التمثال الذهبي لمحمد الذي سرقه مونتالبان .
بسخرية مهذبة من نفسه ابتكرَ رجلاً خَرِفاً أربكته قراءة قصص الخيال فجال قدما للبحث عن ملاحم الفرسان وفتنة السحر في أماكن عادية بأسماء من قبيل التبوسو ومنوتيل.
مهزوما بالواقع وبوطنه إسبانيا، مات دون كيخوته في قريته الأم حوالي ١٦١٤ ولم يعش بعده سرفانتس إلا لفترة وجيزة. كانت القصة بالنسبة للحالم وللمحلوم به قصة اصطدام عالمين متنافرين؛ عالم الفروسية الخيالي والعالم العادي اليومي للقرن السابع عشر. لم يكن لأحدهما أن يتخيّل انهيار ذلك التنافر العظيم ولا أن يتخيّل أن لامانشا ومونتيل والهيئات الطرية للفرسان ما كانت لتعود أكثر واقعية من مغامرات السندباد وجغرافيات أرسطو. ذلك لأن الخرافة مبتدأ الأدب ونهايته أيضا.
الفردوس – الحادي والثلاثين -١٠٨
يخبرنا ديودوروس الصقلي بقصة إلهٍ قُطِعَتْ أوصاله وبُعْثِرتْ. مَنْ منا لم يشعر وهو يتجول عند الغسق أو يستذكر يوما من الماضي بأن شيئاً ما ذا أهمية قصوى ضاع منه الى الأبد؟
لقد فقد البشر وجها، وجها لا يستعاد. في لحظة ما تمنّى الجميع لو أنه الحاج الذي انصاغ خياله في السماوات العلى تحت علامة الوردة، لو أنه هو الذي يشاهد”خرقة ڤيرونيكا” فيهمس محبا (يا عيسى المسيح يا إلهي، الإله الحق، هذا ما كان عليه وجهك إذن!).
ثمة تمثال على الطريق وشاهدة تقول هذا هو البورتريت الأصلي حقا لوجه يسوع جيان القدسي. لو كنا نعرف بالفعل ما كانت عليه ملامح الوجه الحقيقي لأمسكنا بزمام الحكاية ولعرفنا إن كان وجه ابن النجار هو وجه ابن الله أيضا.
رآه بولس كضياء ساطع أطاح به أرضا ورآه يوحنا كما شمس تسطع بكل قوتها ورأته القديسة تيريزا الأفيلاوية مرارا مغسولا بنور الطمأنينة لكنها مع ذلك لم تتمكن من التعرف الى لون عينيه.
لقد ضاعت هذه الملامح منّا الى الأبد وكما تضيع أشكال الكاليدوسكوب المتغيرة أبداً، أو يضيع رقم سحري مكون من الأرقام العادية نفسها فنراه ولا نعرف أننا رأيناه. ربما كان وجه يهودي يعبر رصيف المحطة شبيها بوجه يسوع، واليدان اللتان تعدان النقود في شباك التذاكر ربما كانتا طبق اليدين التي سمّرها الجنود يوما على الصليب.
ربما لاحت ملامح الوجه المصلوب في كل المرايا. ربما مات الوجه وتبدد من أجل أن يكون الله في كل البشر.
من ذا يدري. ربما نراه الليلة في متاهات النوم ولا نذكر شيئا منه في الصباح.