وُلد ديميتري شوستاكوفيتش (Dmitri Shostakovich) في سانت بطرسبرغ – روسيا، في 26 سبتمبر، 1906، وتوفي في موسكو، في الثامن من أغسطس عام 1975، يمكنك الاستماع لموسيقى ديميتري شوستاكوفيتش بينما تقرأ قصته في امبراطورية الرعب.
كتبت ليلى عبد الله
أن تقرأ سيرة الموسيقي الروسي العظيم في زمن السوفييت ” ديمتري شوستاكوفيتش” التي نشرتها دار المتوسط وأعدها لها سولومون فولكوف الشغوف بموسيقى هذا العبقري وصديقه أيضا رغم فارق السن الكبير بينهما وترجمه محكمة من محمد حنانا . أن تتسلل في سيرته وأنت تشاهد بصريًّا أداءه الموسيقي المذهل للسيمفونية الثانية الذي رقص على أنغامها كل من الممثلين ” كيرا نايتلي ” بدور آنا كارنينا والممثل ” أرون جنسون” بدور البطل بدور فرونسكاي . الفيلم الذي اقتبس من رواية تولستوي الشهيرة ” آنا كارنينا”. المعزوفة الشهيرة نفسها جسدت رقصات في عديد من الأفلام والمسرحيات التي وظفت الموسيقا في نصوصها الدرامية. تتواصل القراءة له وأنت تُمتع أذنيك بسماع أوبرا “الأنف” مبنية على قصة غوغول الذي خرج معظم كتاب الروس من معطفه كما صرح العملاق الروسي دوستويفسكي بنفسه. أو موسيقا فيلم ” بابل الجديدة”، وموسيقا مسرحية ” بقة الفراش” وبقية سيمفونياته الآسرة التي مثلت على خشبة المسرح وأخرى ظهرت في أفلام خلدت في التاريخ صيته كموسيقي عالمي له طابعه الفريد.
ديمتري شوستاكوفيتش ولد وسط التناقضات في 25 أيلول عام 1906م في بطرسبورغ عاصمة روسيا الإمبراطورية التي كانت لم تزل ترجع صدى الارتعاشات الثورية لعام 1905م حيث النزاع بين الحكام والشعب لم يتوقف أبدا. العام الذي حمل العديد من الذكريات والخيالات الكابوسية، ترعرع في أسرة كانت تطرح حوادث هذه الثورة مثل بقية العائلات الروسية التي توقفت عن الايمان بالقيصر الذي كان سفاحًا للدماء، حيث عربات محملة بجثامين الأطفال، الجنود الذين كانوا يطلقون النار على أطفال كانوا يراقبونهم بنشوة الفضول من على أغصان الأشجار، الأطفال أنفسهم كانوا يسقطون كالعصافير الضاحكة إذ كانوا قد قتلوا على حين غرة فلم يسنح لهم الوقت ليشعروا بالرعب؛ لذا كانوا يموتون والبشاشة تملأ وجوههم الغضة بالبراءة!
لقد نشأ شوستاكوفيتش على ذاكرة سياسية، ذاكرة مزدحمة بالطغاة وبأفعالهم الدنيئة في حق الشعوب والأطفال لاسيما الضعاف منهم، لقد ولد ثائرًا منذ طفولته ومسؤولاً كذلك عن توفير لقمة العيش لأختيه بعد أن توفى والدهم بمرض ذات الرئة في الوقت الذي شاع فيه الجوع وأغلقت المعامل وتوقفت وسائط النقل، لقد كان كل شيء قاسيًّا ومرًّا على شاب فتي مثله، وفوق ذلك عليل الصحة، وجد في تأليف الموسيقا نوعًا من المقاومة، لكنه كان يصطدم بواقع لم يكن يختلف كثيرًا عن وقائع ثورة 1905م من حيث القبضة العسكرية والعنف.
كان تلميذًا نجيبًا في كل شيء لاسيما في تعلم الموسيقا. عمل عازفًا للبيانو في مسرح ” البكرة اللامعة” لصاحبه ” فولينسكي” الذي كان يمعن في استغلاله شر استغلال فلم يكن يدفع له أجرته مقابل عزفه بل من وقاحته يتبجح في مواجهته عندما يطالب الأخير بأجرته كحق من حقوقه، فيصدمه بسؤال وهو يحدق فيه بقذارة كما لو أنه آثم: أيها الشاب، هل تحب الفن العظيم السامي الخالد؟ فكان شوستاكوفيتش يجيبه بنعم . فيرد عليه بوقاحة: أيها الشاب، إن كنت تحب الفن، فكيف تستطيع أن تتحدث معي الآن حول ربح قذر؟
فولينسكي الذي كان يرفض أن يدفع له أجره حين كان حيًّا من سخرة القدر أن توجه له دعوة بعد سنوات عديدة ليحيي ذكرى هذا الرجل الجشع بعد موته!
وجد هذا الموسيقي – الذي صار شهيرًا – نفسه في زمن كان كل شيء فيه خاضعًا لسلطة الدولة، بل لسلطة القائد الوحيد الذي هو القانون، ولكي يكون المرء مفضلاً وليعيش بسلام؛ ينبغي عليه أن يدخل في جهاز الدولة وينفذ ما يكلف بمهمات وفق ما يرى القائد.
هذا القائد كان ” ستالين” الطاغية الذي كان يصر على حضور المسرحيات التي تعرض، وعلى الاستماع للموسيقا التي تؤلف إن كان تشكل خطرًا عليه وعلى مركزه العسكري كان يأمر بقطع رأس مؤلفها. فكلمة ستالين كانت قانونًا، فهو القائد والمعلم ولا يحتاج إلى إصدار أمر. كانت المسألة التي تشغل الفنان والمبدع وقتذاك إلى أي حد أو إلى أي درجة يحب القائد عملك؟ كان هذا شاغلهم، بدا الجميع خائفًا بل مرعوبًا؛ لأنه ملاحق وإبداعه محل تهديد من قبل طاغية لا يفهم في الموسيقا ولا الإبداع، بل ترعبه فكرة أن تشكّل الموسيقا تهديدًا لسلطته. لقد كانت حتى مسرحيات شكسبير ممنوعة رغم أن العالم الآخر كان يحتفي بها غير أن في السوفييت كان بعضها يعرض تحت رقابة شديدة أما ” هاملت” و” الملك لير” فقد منعا لسنوات من العرض على المسرح السوفييتي. كثير من الفنانين أضحوا ضحايا لنظام استبدادي، لقد دفعوا ثمن إبداعهم وعدم خضوعهم .
ولقد تحدث شوستاكوفيتش مطولاً عن هذا الأمر، عن ستالين . عن القائد الذي يتدخل في كل شيء ويقمع كل شيء وضربه مثالاً لكل الطغاة في العالم” يحب الطغاة أن يقدموا أنفسهم كرعاة للفنون. تلك حقيقة معروفة. لكن الطغاة لا يفهمون شيئا في الفن. لماذا؟ لأن الطغيان هو انحراف. والطاغية منحرف. يبحث الطاغية، لعدة أسباب، عن القوة، يدوس الجثث. القوة تغري . تفتته فرصة سحق الناس والسخرية بهم”.
تأثر شوستاكوفيتش الشاب الغضّ بقواعد ميرخولد الفنية والنقدية كمخرج مسرحي له مكانته في الأوساط السوفيتية وقتذاك قبل أن يقع في براثن السلطة وقبل أن تصير شقته مرتعًا للرعب في جانب من ذاكرته حيث قتلت زوجته الجميلة المتأنقة المكابرة بوحشية بعد أن أختفى زوجها الشهير الذي كان يحيط نفسه بأشياء ثمينة وبأشياء جميلة أيضا كزوجته الفاتنة. والاختفاء في زمن السوفييت كان يعني الاعتقال، فالناس كانوا في تلك الأيام يختفون ببساطة من دون أي كلمة رسمية، كان مصيرهم يظل مجهولاً. يتم تصفيتهم في أقبيتهم المظلمة حيث تم اخفاؤهم دون أن يجرأ أحد على الاعتراض، أو السؤال عنهم!
ميرخولد الذي أخرج معظم مسرحيات غوغول، وكان شوستاكوفيتش عازفًا للبيانو في مسرحياته. وتأثر بقواعد الإبداعية في عوالم الفن، القاعدة الأولى تمثلت في أن يخلق الفنان كل جديد، أن يصدم جمهوره في كل مرة بعمل مبتكر ومختلف. والقاعدة الثانية من درس ميرخولد أن تجعل عملك الأفضل أو أن تجعله على طريقتك الخاصة، بمعنى على المبدع أن يبتعد عن التقليد وعن تكرار الآخرين في أعماله.
والقاعدة الثالثة كانت تمس الجانب النقدي وكان ميرخولد يعلنها صريحًا في كل مرة: ” إذا أرضى نتاجك الجميع، عندئذ اعتبر ذلك فشلا كليا. ومن ناحية ثانية، إذا انتقد كل شخص عملك عندئذ يمكن أن يكون عملك شيء جدير بالاهتمام. يأتي النجاح الحقيقي حين يجادلك الناس حول عملك، حين يكون نصف الجمهور مبتهجا، والنصف الآخر جاهزا لتمزيقك”.
ببساطة كان المبدع مقموعًا بعدة أساليب ومسميات أيضا، فقد شاع في زمن شوستاكوفيتش ورفاقه المبدعين مصطلحات تتناسب وعصر الرعب كمصطلح ” شقة مشاع”، بمعنى أن المبدع ليس من حقه أن يكون مستقلاً في بناء مستقل لوحده فهذه الحياة البرجوازية التافهة ليست من حقه، بل تدينه، وينبغي عليه أن يعيش في انسجام تام مع غيره وأن لا يقفل على نفسه في حصون مقفلة باسم الإبداع، وباعتراف شوستاكوفيتش في مذكراته” يمكنك قتل الكائن البشري من خلال أشياء بسيطة، بأسلوب الحياة، بالشقة المشاع” أي بمعنى انتهاكه وتدميره من خلال التدخل في خصوصياته. وكان انتظار الإعدام الثيمة التي ظلت تلاحقه كمبدع طوال حياته. ومصطلح ” أرخبيل غولاغ” وهو عبارة عن شبكة من السجون ومعتقلات التعذيب في الاتحاد السوفييتي سابقا، واشتهرت هذه العبارة بعد رواية التي ألفها الكاتب سولجنيتسين بالاسم نفسه. لقد كان المبدع أي كان مجال إبداعه متأهبًا للقبض عليه في أي لحظة؛ لذا كان يحتفظ بحقيبة صغيرة تحتوي حاجاته الضرورية وهو ينتظر في الظلام أمر اعتقاله من القائد.
في الوقت نفسه كان هناك مبدعون خاضعون، نوع من الفنانين الذين باعوا أنفسهم للسلطات والذي سبق وأطلق عليهم المسرحي والناقد الألماني الشهير بريخت بالمثقف التوي، أي المثقف الذي يبيع آراءه للناس. كانت هذه الظاهرة أيضا متفشية في السوفييت في زمن ستالين، وقد ضرب مثالاً للموسيقي ” ماياكوفسكي” كان أنموذجًا للكاتب الذي يعمل خادمًا للسلطات. وقد خدم ستالين بإخلاص . أضاف ثرثرته لتمجيد صورة القائد والمعلم الخالدة. وقد أسهب شوستاكوفيتش الحديث عن صفاته:” ماياكوفسكي يجسد كل الصفات التي أمقتها: الزيف، حب إشهار الذات، الشهوة للحياة المرفهة، والأهم هو احتقاره للضعيف، وخنوعه أمام القوى. كانت القوة هي القانون الأخلاقي الأعظم”.
ويبدو جليًّا أن شوستاكوفيتش كان قارئًا جيّدًا للأدب الروسي ومتأثرًا بنصوص معظم كتابه الذين برزوا في تلك الفترة، فالعلاقة ما بين الأدب والموسيقى تكاد تكون وثيقة وكلاهما يكمل الآخر ويضيف له جمالية خلاقة. وقد خصّ ” تشيخوف ” بحديث مهيب في مذكراته ” في الحقيقة، أنا مولع بتشيخوف، إنه واحد من كتابي المفضلين وقد أعدت قراءة ليس قصصه ومسرحياته بل مذكراته ورسائله أيضا”. كان تشيخوف تحديدًا كاتبًا واقعيًّا، وقد نقد تفاصيل حياة الروسيين وحياتهم بواقعية حكائية محكمة وجريئة أيضا. شغفه بنيكولاي غوغول لا يقل عن نظيره تشيخوف، فلكليهما التأثير الأعظم على حسّه الموسيقي كمؤلف.
في نهاية مذكراته يصف شوستاكوفيتش حياته التي كانت مفعمة بالأسى والحزن فلقد كان إنسانًا بائسًا، عليلاً منذ طفولته، ونشأ في زمن ستالين حيث الرقابة والقبضة العسكرية والرؤية الأحادية، كان الجميع بائسًا حتى رفاقه من المسرحيين والموسيقيين والمبدعين. شهد بعضهم نهاية مأساوية ومروعة، ومات آخرون نتيجة معاناة رهيبة. وكم تمنى أن يمسح ذاكرته عن تلك الفترة السوداء، غير أنه في وقت ما تراجع عن قراره بجسارة، وقرر أن يتذكر كل شيء بل ويدونه على هيئة مذكرات تبقى للتاريخ، للشباب من بعده، ليمضوا في حياة أكثر صلابة . ولتكون هذه المذكرات التي تناولت في صفحات وفصول مطولة سير الآخرين وعرضت معاناتهم كمبدعين ومؤلفين موسيقيين. كما كتب في بداية مذكراته معترفًا :” هذه ليست ترجمة حياتي. هذه مذكرات حول آخرين. الآخرون سيكتبون عنا. ومن الطبيعي أنهم سيكذبون بوقاحة. لكن ذلك شأنهم” .
ديمتري شوستاكوفيتش في مذكراته يتحسر على كثير من المبدعين الحقيقيين طوت سيرتهم بموتهم ناهيك عن موسيقاه التي كانت محظورة، والشبان الذين كانوا مولعين بالموسيقا يدرسون مؤلفاته بالكتمان وبسرية. لقد أتخذ من تأليف الموسيقا أداة مقاومة . مقاومة ضد القائد الظالم وضد القائد الذي جعل نفسه القانون حيث يحاكم الناس العزل ويسفك دماؤهم و يخضع حتى الموسيقا لقواعده المجحفة!
لذا كان هذا الهاجس يكاد يشغل ذهنه طوال كتابته لهذه الذكريات، هذا التوثيق الذي جاء نوعًا من التخليد لرفاقه الذين رحلوا ولمشواره الموسيقي أيضا . وحقق مساعيه في ذلك بجدارة، فها هي مؤلفاته الموسيقية توظف في أهم الأفلام والمسرحيات، وهي في متناول سمع أي محب للموسيقا في زمن اليوتيوب. هذه السيرة التوثيقية مفعمة بالأسى جديرة بالقراءة وتكاد تماثل في تفاصيلها حيوات كثير من المبدعين تم قمعهم والتضييق على إبداعهم في إمبراطوريات الرعب، حيث يفنى الطغاة ويخلّد المبدعون!
__________
* نشر في مجلة الجوبة