لو أمعن المرء النظر في أعمال إزرا باوند (1885-1972) لوجد أن تطور مفهوم الصورة كان عماداً أساسياً في فلسفته، فالصورة التي استخدمها باوند Image مختلفة عن التشبيه Simile أو المجاز Metaphor المستخدمين بكثرة في الشعر. ومن المعروف أن الصورة الشعرية استُخدمت أيضاً كمحسّن بديعي قبل حركة باوند التصويرية Imagism بزمن بعيد، فسواء كانت الصورة بصرية أو سمعية أو حركية أو غيرها، فهي شائعة في الأدب لحث القارئ على تخيّل الأشكال والألوان والأصوات والحركات من خلال اللغة. ومع ذلك، أحدثت الحركة التصويرية ثورةً في الشعر الغربي، حتى صار باوند يلقّب بأبي الشعر الحداثي. فما الذي أضافهُ باوند لترتقي الصورة من مُحسّن بديعي إلى مدرسة شعرية؟
عمل باوند -أو كما أطلق عليه تي أس إليوت “الصانع الأمهر”- على تطوير مفهوم الصورة الشعرية وتأسيس حركته التصويرية متأثراً بمصادر شتى، فقد آمن بأن الشعر لا ينعزل بأي حال عن الفنون والعلوم والثقافات الأخرى. تأثر باوند بالنحت والرسم والموسيقا، وكذلك بالشعر الإغريقي القديم والرمزية الفرنسية والهايكو الياباني والرموز أو الحروف الصينية. فاستلهم مثلاً من الهايكو والشعر الإغريقي الاقتصاد في اللغة وتكثيف المعنى، وتلك من أهم المبادئ التي دعت إليها التصويرية. فَشِعر الهايكو، على سبيل المثال، يختزل المعنى بثلاثة أسطر شعرية مكثفة، إضافة إلى العنوان الذي يكون عادةً اسم أحد فصول السنة. كذلك كتبت سافو Sappho (630-570 ق.م) أشعاراً قصيرة من بينها قصيدة “حب” التي تتألف من سطرين فقط، وربما تكون هي من ألهمت باوند لكتابة قصيدته الشهيرة ذات السطرين “في محطة المترو” والتي كانت حينذاك أقصر قصيدة في الأدب الإنجليزي. وتالياً قصيدة سافو التي أرى فيها تشابهاً واضحاً وأسلوب باوند:
لقد حرر الحب أطرافي وجعلني أرتجف،
وحشٌ حلوُ-مريرُ يشظّي كياني.[1]هنا مثلاً توازي سافو الحب والوحش بسطرين دون استخدام أداة وصل بين طرفي التشبيه، وهذا أيضاً ما دعا إليه باوند لجعل الصورة الشعرية أسمى من كونها محسناً بديعياً أو تشبيهاً فحسب. فيقول في قصيدته “في محطة المترو”:
أطياف هذه الوجوه في الزحام؛
بَتَلاتٌ على غصنٍ رطب أسود.
لقد لاقت هذه القصيدة الموجزة والمكثفة استحساناً كبيراُ من النقاد منذ كتابتها إلى اليوم، فلا زالت الأسئلة حول علامات الترقيم، وتساوي السطرين الشعريين اللذين يبدوان و كأنهما معادلة رياضية، والاقتصاد بالكلمات، واستخدام الأسماء دون الأفعال في القصيدة، محور اهتمام الباحثين. وكانت قصة كتابة القصيدة، والتي نشرها باوند في كتابه (مذكرات غودييه برزسكا/ Gaudier-Brzeska: A Memoir) تحت العنوان الفرعي “الدوامة Vorticism”، جزءاً من فهم القصيدة التي لم يُرد باوند أن يحجّمها بالإسهاب الذي يوجه القارئ لمعنىً واحد محدد. القصة بإيجاز أنّه حين نزل باوند من المترو في باريس، شاهد وجوهاً مختلفة، ولم يجد لغةً تصف روعة المشهد. لم يكن باوند يبحث عن كلمات بل عن معادلة أو نمط يوازي اللوحة البديعة. وعبّر باوند هنا عن رغبته في أن يكون رساماً أو أن ينقل المشهد للمتلقي عن طريق الموسيقا أو النحت، ولكنّه تعجّب: لم لا يكون للشعر وقعاً كوقع الفنون تلك! فقرر أن يصور المشهد بصورة واحدة مركّبة، وكتب في البداية قصيدةً من ثلاثين سطراً، ثمّ أخذ يحذف السطور الزائدة، حتى كان الشكل الأخير للقصيدة بعد سنة؛ قصيدة تشبه الهايكو، مؤلفة من سطرين فقط.( ص. 86-89.)[2] إنّه فن الحذف الذي أتقنه باوند والذي أجراه – كما هو معروف – أيضا على قصيدة إليوت الشهيرة “الأرض اليباب ” بحذفه عدداً من سطورها.
قد لا تخلو مختارات شعرية في الشعر الحديث من قصيدة المترو، لإن باوند استطاع أن يختزل الكثير من مبادئ التصويرية التي شرحها في كتبه النقدية ورسائله، ومن هذه المبادئ:
رسم الشيء كما أراه.
الجمال.
التحرر من التلقين المباشر.
من المحمود تكرار ما كتبه آخرون فقط في حال تفوَّقَ الشاعرُ عليهم أو تقديم ما كتبوه بإيجاز يفوق ما يقدمه الشاعر. (ص.6)[3]ليس من المستهجن إذن أن نشأت جمعية إزرا باوند Ezra Pound Society [4] للاعتناء بإرثه الغزير، فهي تنظم مؤتمراً مختصاُ به كل عامين منذ عام (1978) حتى يومنا هذا، يتم فيه تكريس الأبحاث للحديث عن المزيد من منجز باوند، وفي كل مرة يأتي الباحثون بما يضيف للبحث العلمي.
ولفهم التصويرية أكثر، أردت أيضاً في هذا المقال أن ألقي الضوء على قصيدة أخرى كتبها باوند بذات الطريقة التصويرية، ولكنها لم تأخذ حظ قصيدة المترو، وهي قصيدة “نيسان”. هذه هي القصيدة:
راوَدتني ثلاثُ أرواحٍ
و سَحَبتني
حيثُ أغصانُ الزيتونِ
تمتدُّ عاريةً على الأرض:
أشلاءٌ شاحبةٌ تحت سديمٍ لامع.
قد تبدو القصيدة مجرّدَ جزئيات متنافرةٍ للقارئ للوهلة الأولى. فالغموض الذي يكتنفها لا يُرضي فضول القارئ الّذي يود لو توصِله تلك السطور القليلة إلى معنىً واضح. ولكن لا عجب، فهذه هي الصورة التي أراد باوند بعبقريته الشعرية أن تختزل أسطراً عديدة من السرد والتلقين لإتاحة الخيال للقارئ.
لأول وهلة، يبدو العنوان “نيسان” غير منسجم مع الجفاف في سطور القصيدة، فنيسان عادةً ما يلقي في النفس أملاً و حياةً، ويحفّز في الذهن صورة الحدائق اليانعة والشمس البهيّة. ولكن في القصيدة، حتى أشجار الزيتون دائمة الخضرة تبدو عاريةً ومُهملةً على الأرض، وتلك هي مفاجأة القارئ الأولى. هنا يبدو تأثر باوند جلياً بالهايكو من خلال اختيار اسم الشهر (الذي يجعلنا نستذكر فصل الربيع على الفور) عنواناً للقصيدة. وقد يكون باوند من خلال قصيدته هذه هو من ألهم تي أس إليوت لافتتاحية “الأرض اليباب” والتي بيبدأها إليوت بقوله أن “نيسان هو أقسى الشهور،” وهي صورة مخالِفة للصورة المألوفة لدى القارئ.
نلاحظ في هذه القصيدة قلة الأفعال، فهناك ثلاثة أفعال فقط “تراودني، سحبتني ، تمتد”، لأن باوند يريد أن يخلق صورة شعرية لا أن يسرُد أحداثاً. فباوند يُعرّف الصورة، التي يعتبرها كل القصيدة لا مجرّد إضافة تجميلية عليها، أنها “تركيبة ذهنية و عاطفية معقّدة في لحظة زمنية” (ص.4)[5]، فالأرواح في السطر الثاني لا توافق شكلاً محدداً في أذهان كل القرّاء، فمنهم من يراها رمزاً لشخص أو فكرة، ومنهم من يتصوّرها أشخاصاً حقيقيين، أو غير ذلك، لذا تتعدد أوجه التحليل و لا يُفرض على القارئ تفسيراً واحداً. وهذا ما أثبته علم النفس بالفعل، فعند النظر على سبيل المثال إلى الرسومات ذات الخدع البصرية، والتي تدل على أن التباين في الحكم على الصورة هو فعل ذهني.[6]
أما السطر الأخير الذي هو سرّ القصيدة، فهو الشق الثاني من المعادلة التي تفصلها نقطتان رأسيتان ( : ) ما قبلهما مساوٍ لما بعدهما. ويجدر القول هنا بأنه في النسخة الأولى من قصيدة “المترو” كانت النقطتان الرأسيتان تفصلان بين السطرين، ولكن باوند فيما بعد استبدل بالنقطتين الفاصلة المنقوطة، ربما ليعطي انطباعاُ بأن السطر الثاني يحمل ذات الصورة بكلمات مختلفة. وبكل الأحوال لا يفصل السطرين بنقطة أو فاصلة، لأنهما غير منفصلين عن بعضهما ولا مكملين لبعضهما، بل متساويين. وكأن باوند يقول أن الأرواح التي راودته و سحبته إلى أغصان الزيتون العارية هي صورة مساويةٌ للأشلاء الشاحبة تحت السديمٍ اللامع. ولا توجد علاقةٌ مباشرة بين الطرفين كما جرت العادة الشعرية في التشبيه مثلاً، فهي علاقة رياضية تشبه المعادلة الجبرية لا الحسابية (س=ص) كما وصفها باوند حين تحدث عن قصيدة “المترو”، وهذا يُفسّر كونها علاقةً ذهنية و عاطفية على القارئ أن يدركها في لحظة من الزمن، كما يَرِدُ في تعريف الصورة.
وبرغم جهود باوند في تشكيل المدرسة التصويرية مع مجموعة من الشعراء، إلا أنه قد ارتأى عام 1914 وضع التصويرية جانباً والتحوّل إلى حركة الدوامة Vorticism ، وهي حركةٌ كانت قد تأسست قبل انضمام باوند لها، إذ أنها نشأت على يد الرسام والكاتب ويندهام لويس Wyndham Lewis وآخرون، وكان من روادها النحات الفرنسي الشهير أونري غودييه برزسكا Henri Gaudier-Brzeska والذي رثاه باوند في أناشيده The Cantos بعد مقتله في الحرب العالمية الأولى -وكان عمره ثلاثة و عشرين عاماً- على الطريقة التصويرية، مختزلاً المأساة بسطرين عبر فيهما باوند عن ألمه وحسرته على فقدان صديقه:
قتلوه
و قتلوا قدْراً كبيراً مِن فن النحت.
وقد عزا باوند ذاك الانتقال من التصويرية إلى سوء فهم الشعراء للأخيرة، فكتابة الصورة المتميزة بالسهل الممتنع، جعل البعض يخلط بين البساطة والسطحية، وهذا ما رأى فيه باوند تقليلاً من شأن الصورة. ومع ذلك فانتقال باوند إلى الدوامة لا يعد رفضاً للتصويرية بقدر ما هو امتدادٌ لها، فالحركتان تتقاطعان مع إضافة ميزة الحركة للدوامة. وهذا ما يوضحه الناقد تيموثي ماتيرار Timothy Materer بأن شاعر الدوامة يُلصِق مجموعة من الصور تدور حول صورة رئيسية واحدة، ففي الصورة، كما في الدوامة، طاقة نمطية.[7] وهذه الفلسفة هي ما تُتَوجها ملحمة باوند الأخيرة (الأناشيد The Cantos) التي لم يكن باوند قد انتهى من كتابتها حين وافته المنية عام 1972. جسدت أناشيد باوند ما لم تكف له طاقة الدوامة أو تكثيف الصورية كالمواضيع الاقتصادية والسياسية، وبهذا كانت الأناشيد امتداداً أوسع لأفق الدوامة والتصويرية معاً، فهي تجمع بين التكثيف والطاقة في آن. وهذا ما جعل النقاد يختلفون حول اعتبار المائة وعشرين نشيداً قصيدةً واحدة أم عدة قصائد، ولكنني، وبناءً على فلسفة امتزاج التصويرية والدوامة، أصنفها كقصيدة واحدة تمتاز بالتجريبية: فهي مركبة من مجموعة صور معقّدة ومتلاصقة juxtaposed ومتنوّعة بالشكل والأسلوب.
في ضوء ما تقدم، يمكننا إدراك استراتيجية باوند في كتابة الصورة، وما يميزها عن الصورة الفنية النمطية. فالصورة عند باوند تكعيبية، أي أنها أقرب إلى النحت الذي يفتح للرائي مدارك مختلفة كل ما نظر إلى إحدى زواياه. وهذا يعني أنه ليس من السهل على الكاتب خلق تلك “التركيبة المعقدة” التي تلتقط لحظة مناسبة وتنشئ منها قصيدة. فلا عجب إذن أن قال باوند: “من الأفضل تقديم صورة واحدة خلال عمر الشاعر، من أن يُنتج أعمالاً غزيرة.” (ص. 4).[8]
******
[1] “Love has unbound my limbs and set me shaking,/ A monster bitter-sweet and my unmaking”(Higham, T. F. and C. M. Bowra (eds.) (1938), The Oxford Book of Greek Verse in Translation, Oxford: Clarendon Press., p:211).
[2] Pound, Ezra. (1970), Gaudier-Brzeska: A Memoir, New York: New Directions.[3] Pound, Ezra. (1971), Selected Letters of Ezra Pound 1907-1941, D. D. Paige (ed.), New York: New Directions.[4] http://ezrapoundsociety.org/[5] Pound, Ezra. (1954), Literary Essays of Ezra Pound, T. S. Eliot (ed.), London: Faber and Faber.[6] من الأمثلة المشهورة على الخداع البصيري صورة “الأرنب والبطة” والتي أصدرتها مجلة الأرنب والبطة من اصدار مجلة “Fliegende Blätter” في العدد 23 من عام 1892[7] Materer, Timothy (1979), Vortex: Pound, Eliot, and Lewis, London: Cornell UP.[8] Pound, Ezra. (1954), Literary Essays of Ezra Pound, T. S. Eliot (ed.), London: Faber and Faber.