محمود درويش: كزهر اللوز أو أبعد

أشخاص:
بلدان:

‏”أحسنُ الكلامِ ما… قامت ‏ْ
صورتهُ بينَ نَظمٍ كأنه نثر، ونثرٍ‏
‏ كأنه نظم…”‏

أبو حيَّان التوحيدي ‏
الإمتاع ُوالمؤانسةْ
‏[الليلة الخامسة والعشرون] ‏

I


أَنتَ

فكِّر بغيركَ

وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيرك َ
‏ [لا تنسَ قوتَ الحمامْ]‏

وأنت تخوضُ حروبكَ، فكِّر بغيرك َ
‏ [لا تنس مَنْ يطلبون السلامْ]‏

وأنت تسدِّد فاتورةَ الماء، فكِّر بغيرك َ
‏ [من يرضَعُون الغمامْ]‏

وأنت تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيرك َ
‏ [لا تنس شعب الخيامْ] ‏

وأنت تنام وتحْصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ ‏
‏ [ثَمَّةَ مَن لم يجد حيّزاً للمنام] ‏

وأنت تحرِّر نفسك بالاستعارات، فكِّر بغيرك ‏
‏ [من فقدوا حقَّهم في الكلامْ]‏

وأنت تفكِّر بالآخرين البعيدين، فكٍّر بنفسك ‏
‏ [قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ]‏

الآن… في المنفى

الآنَ، في المنفى … نعمْ في البيتِ، ‏
في السِّتين من عُمرٍ سريعٍ ‏
يُوقدون الشَّمع لكْ

فافرَحْ، بأقصى ما استطعتَ من الهدوء، ‏
لأنََّ موتاً طائشاً ضلََّ الطريقَ إليك ‏
منْ فرطِ الزحام … وأجَّلك ْ

قمرٌ فضوليٌّ على الأطلال، ‏
يضحك كالغبيّ ‏
فلا تصدِّق أنه يدنو لكي يستقبلَك ْ
هوَ، في وظيفته القديمةِ، مثل آذارَ ‏
الجديدِ … أعادَ للأشجار أسماءَ الحنين ‏
وأهملكْ

فلتحتفلْ مع أصدقائكَ بانكسار الكأس.‏
في الستين لن تجدَ الغدَ الباقي‏
لتحملهُ علي كتفِ النشيد… ويحملَكْ

قُل ْللحياةِ، كما يليقُ بشاعرٍ متمرِّسٍ:‏
سيري ببطء كالإناث الواثقات بسحرهنَّ
وكيدهنَّ. لكلِّ واحدةٍ نداءٌ ما خفيٌّ :‏
هَيتَ لك / ما أجملكْ!‏

سيري ببطءٍ، يا حياةُ، لكي أَراك ‏ِ
بكامل النقصَان حولي. كم نسيتكِ في ‏
خضمِّكِ باحثاً عني وعنكِ. وكلما أدركتُ ‏
سراً منك قلتِ بقسوةٍ : ما أجهلَكْ! ‏

قلْ للغياب: نقصْتَني ‏
وأنا حضرتُ … لأكملَكْ!‏

حينَ تطيل التأمُّلَ

حينَ تطيلُ التأملَ في وردةٍ‏
جرَحَتْ حائطاً، وتقول لنفسكَ:‏
لي أملٌ في الشفاء من الرملِ /‏
‏ يخضرُّ قلبُكَ…‏

حين ترافقُ أُنثى إلى السِّيرك ‏
ذاتَ نهارٍ جميلٍ كأيقونةٍ … ‏
وتحلُّ كضيفٍ على رقصةِ الخيلِ /‏
‏ يحمرُّ قلبُكَ…‏

حين تعُدُّ النجومَ وتخطئُ بعد‏
الثلاثةَ عشرَ، وتنعس كالطفلِ
في زُرقة الليلِ /‏
‏ يبيضُّ قلبُكَ…‏

حين تسيرُ ولا تجد الحلمَ‏
يمشي أمامك كالظلّ / ‏
‏ يصفرُّ قلبُكَ…‏

إن مشيت على شارعٍ

إن مشيتَ علي شارعٍ لا يؤدِّي إلي هاوية ْ
قلْ لمن يجمعون القمامةَ: شكراً!‏

إن رجعتَ إلى البيت، حيّاً، كما ترجع القافية ْ
بلا خللٍ، قل لنفسك: شكراً!‏

إن توقَّعتَ شيئاً وخانك حدْسُك، فاذهبْ غداً‏
لترى أين كنتَ وقلْ للفراشة: شكراً!‏

إن صرختَ بكلِّ قواك، وردَّ عليك الصدى ‏
‏((من هناك؟)) فقل للهُويّة: شكراً!‏

إن نظرتَ إلى وردةٍ دون أن توجعك ْ‏
وفرحتَ بها، قل لقلبك: شكراً!‏

إن نهضت صباحاً، ولم تجد الآخرين معكْ‏
يفركون جفونكَ، قل للبصيرة: شكراً!‏

إن تذكَّرتَ حرفاً من اسمكَ واسم بلادك َ‏
كنْ ولداً طيباً!‏
ليقول لك الربُّ: شكراً! ‏

مقهىً، وأنت مع الجريدة

مقهىً، وأنت مع الجريدةِ جالس ٌ
لا، لستَ وحدك. نصفُ كأسكَ فارغٌ ‏
والشمسُ تملأ نصفها الثاني …‏

ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين ‏
ولا تُرى [إحدى صفات الغيب تلك :‏
ترى ولكن لا تُرى]‏
كم أنت حرٌّ أيها المنسيُّ في المقهى!‏
فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،
لا أحدٌ يحملقُ في حضوركَ أو غيابكَ،
أو يدقِّق في ضبابك إن نظرتَ
إلى فتاة وانكسرت أمامها..‏
كم أنت حرٌّ في إدارة شأنك الشخصي ِّ
في هذا الزحام بلا رقيب ٍمنكَ أو ‏
من قارئ! ‏
فاصنع بنفسكَ ما تشاء، إخلع ْ
قميصك أو حذاءك إن أردتَ، فأنت ‏
منسيٌّ وحرٌّ في خيالك، ليس لاسمكَ ‏
أو لوجهكَ ههنا عملٌ ضروريٌ. تكون ‏
كما تكون … فلا صديقَ ولا عدو َّ‏
يراقب هنا ذكرياتكَ /‏
فالتمس ْعذرا ًَلمن تركتك في المقهى ‏
لأنك لم تلاحظ قَصَّة الشَّعرِ الجديدةَ‏
والفراشاتِ التي رقصت علي غمَّازتيها /‏
والتمس عذراً لمن طلب اغتيالكَ، ‏
ذات يومٍ، لا لشيءٍ… بل لأنك لم ‏
تمتْ يوم ارتطمتَ بنجمة.. وكتبتَ ‏
أولى الأغنيات بحبرها…‏

مقهىً، وأنت مع الجريدة جالسٌ
في الركن منسيّاً، فلا أحد يهين
مزاجكَ الصافي،‏
ولا أحدٌ يفكرُ باغتيالكْ‏
كم انت منسيٌّ وحُرٌّ في خيالك!‏

II

هوَ

هو، لا غيره‏

هوَ، لا غيره، من ترجَّل عن نجمة ٍ
لم تصبهُ بأيّ أذى.‏
قال: أسطورتي لن تعيش طويلاً ‏
ولا صورتي في مخيّلة الناس / ‏
فلتمتحنِّي الحقيقة ُ
قلت له: إن ظهرتَ انكسرتَ، فلا تنكسر ْ
قال لي حُزْنُهُ النَّبٌَّويُّ: إلي أين أذهبُ؟ ‏
قلت إلى نجمةٍ غير مرئية ٍ‏
أو إلى الكهف/ ‏
قال يحاصرني واقعٌ لا أجيد قراءته ‏
قلت دوّن إذنْ، ذكرياتكَ عن نجمة بعُدتْ‏
وغدٍ يتلكأ، واسألْ خيالك : هل ‏
كان يعلم أنَّ طريقكَ هذا طويل؟ ‏
فقال: ولكنني لا أجيدُ الكتابةَ يا صاحبي!‏
فسألت: كذبت علينا إذاً؟ ‏
فأجاب: على الحلم أن يرشد الحالمين ‏
كما الوحيُ / ‏
ثم تنهَّد: خذْ بيدي أيها المستحيل! ‏
وغاب كما تتمنَّى الأساطير / ‏
لمْ ينتصر ليموت، ولم ينكسرْ ليعيش ‏
فخذْ بيدينا معاً، أيها المستحيل !‏

لم ينتظر أحداً

لم ينتظرأحداً،
ولم يشعر بنقص في الوجودِ،
أمامه نهرٌ رماديٌّ كمعطفه،‏
ونورُ الشمس يملأ قلبهُ بالصحوِ‏
والأشجارُ عاليةٌ /‏

ولم يشعر بنقصٍ في المكانِ،
المقعدُ الخشبيُّ، قهوتهُ، وكأس الماءِ
والغرباءُ، والأشياءُ في المقهى‏
كما هيَ،
والجرائدُ ذاتها: أخبار أمسِ، وعالم ٌ
يطفو على القتلى كعادتهِ /‏

ولم يشعرْ بحاجتهِ إلى أملٍ ليؤنسهُ‏
كأن يخضوضَ المجهولُ في الصحراءِ‏
أو يشتاقَ ذئبٌ ما إلى جيتارةٍ،
لم ينتظر شيئاً، ولا حتى مفاجأةً،
فلن يقوى على التكرارِ… أعرفُ
آخر المشوار منذ الخطوة الأولى -‏
يقول لنفسه – لم أبتعدْ عن عالمٍ،‏
لم أقتربْ من عالمٍ‏

لم ينتظرْ أحداً.. ولم يشعرْ بنقصٍ
في مشاعره. فما زال الخريفُ مضيفهُ الملكيَّ،
يغريهِ بموسيقى تعيدُ إليه عصر النهضةِ ‏
الذهبيَّ … والشِّعر المُقفى بالكواكبِ والمدى

لم ينتظر أحداً أمامَ النَّهر /‏

في اللا إنتظار أُصاهر الدوريَّ ‏
في اللا إنتظار أكون نهراً – قال – ‏
لا أقسو على نفسي، ولا
أقسو على أحدٍ،
وأنجو من سؤالٍ فادحٍ :‏

ماذا تريد ‏
ماذا تريد؟

برتقاليّة

برتقاليةً، تدخلُ الشمس في البحرِ / ‏
والبرتقالةُ قنديلُ ماءٍ على شجرٍ باردٍ‏

برتقاليةً، تلدُ الشَّمسُ طفلَ الغروبِ الإلهيَّ /‏
والبرتقالةُ، إحدى وصيفاتها، تتأمَّل مجهولها

برتقاليةً، تسكب ُالشَّمس سائلها في فم ِالبحرِ/‏
والبرتقالة ُخائفة ٌمن فمٍ جائعٍ
برتقاليةً، تدخل الشمسُ في دورة الأبديةِ/‏
والبرتقالةُ تحظى بتمجيد قاتلها:‏

‏ تلك فاكهةٌ مثل حبة شمسٍ‏
‏ تقَشَّرُ باليد والفم، مبحوحةُ الطعمِ
‏ ثرثارة َالعطرِ سكرى بسائلها…‏
‏ لونها لا شبيه له غيرها،
‏ لونها صفة الشمس في نومها
‏ لونها طعمها: حامضٌ سكريٌّ،
‏ غنيٌّ بعافية ِالضوء والفيتامين ‏C‏..‏

وليس على الشِّعر من حرجٍ إنْ‏
تلعثم في سردهِ، وانتبهْ
إلى خللٍ رائعٍ في الشَّبهْ!‏

هنالك عُرْس

هنالك عرسٌ علي بعدِ بيتين منا، ‏
فلا تغلقوا البابَ… لا تحجبوا نزوةَ ‏
الفرح الشاذِّ عنا. فإن ذبُلت وردة ٌ
لا يحسُّ الربيع بواجبه في البكاء .‏
وإن صمتَ العندليبُ المريضُ أعارَ الكناري َّ‏
حصَّتهُ في الغناء. وإن وقعت نجمة ٌ
لا تصابُ السماء بسوء…‏
هنالك عرسٌ،
فلا تغلقوا البابَ في وجهِ هذا الهواء ‏
المضمَّخ بالزنجبيل وخوخ العروس التي ‏
تنضجُ الآن [تبكي وتضحك كالماء. ‏
لا جرحَ في الماء. لا أثرٌ لدم ٍ‏
سال في الليل] ‏
قيل: قويٌّ هو الحبُّ كالموت! ‏
قلت: ولكن شهوتنا للحياة ،
ولو خذلتنا البراهينُ، أقوى من ‏
الحبّ والموتِ/ ‏
فلنُنْهِ طقسَ جنازتنا كي نشارك َ‏
جيراننا في الغناء ‏
الحياة بديهيةٌ .. وحقيقيةٌ كالهباء!‏

فراغ ٌفسيحْ

فراغ ٌفسيح. نحاس. عصافيرُ حنطيَّةُ
اللون. صفصافةٌ. كسلٌ. أفقٌ مهملٌ ‏
كالحكايا الكبيرة. أرضٌ مجعَّدةُ الوجه.‏
صيفٌ كثير التثاؤب كالكلب في ظل ِّ‏
زيتونةٍ يابسٍ. عَرَقٌ في الحجارة.‏
شمسٌ عمودية. لا حياةَ ولا موت‏
حول المكان. جفافٌ كرائحة الضوء في ‏
القمح. لا ماء في البئر والقلب.‏
لا حُبَّ في عمل الحُبّ… كالواجب الوطنيّ
هو الحُبُّ. صحراء غير سياحية، غيرَ
مرئيَّةٍ خلف هذا الجفاف. جفافٌ
كحرية السجناء بتنظيف أعلامهم من ‏
برازُ الطيور، جفافٌ كحقّ النساء‏
بطاعة أزواجهنَّ وهجر المضاجع. لا
عشب أخضر، لا عشب أصفر. لا ‏
لون في مرضِ الَّلون. كل ُّالجهات ِ‏
رماديةٌ
‏ لا إنتظار إذاً
‏ للبرابرة القادمين إلينا
‏ غداة احتفالاتنا بالوطنْ! ‏

III

أنا

ها هي الكلمات

ها هي الكلماتُ ترفرفُ في البال /‏
في البال أرضٌ سماويةُ الاسم تحملها الكلماتُ.‏
ولا يحلم الميِّتون كثيراَ، وإن حلموا ‏
لا يصدِّقُ أحلامهم ْأحدٌ…‏
هاي هي الكلماتُ ترفرف في جسدي نحلةً‏
نحلةً … لو كتبتُ على الأزرقِِ الأزرقَ‏
اخضرّت الأغنياتُ وعادت إليّ الحياةُ.‏
وبالكلمات وجدت الطريق إلى الاسم
أقصرَ… لا يفرح الشعراء كثيراً، وإن
فرحوا لن يصدِّقهم أحدٌ..‏
قلت: ما زلت حياً لأني أرى الكلمات
ترفرفُ في البال /‏
في البال أغنيةٌ تتأرجح بين الحضور‏ِ
وبين الغياب، ولا تفتح البابَ إلا
لكي توصدَ الباب .. أغنيةٌ عن
حياة ِالضباب، ولكنها لا تطيع ُسوى ما
‏ نسيتُ من الكلمات!‏

لوصفِ زهر الَّلوز

ولوصف ِزهر الَّلوز، لا موسوعةُ الأزهارِ
تسعفني، ولا القاموسُ يسعفني…‏
سيخطفني الكلامُ إلى أحابيلِ البلاغةِِ /‏
والبلاغةُ تجرحُ المعنى وتمدح جرحهُ،
كمذكَّرٍ يملي على الأنثى مشاعرَها / ‏
فكيف يشعُّ زهر الَّلوز في لغتي أنا
وأنا الصدى؟
وهو الشَّفيفُ كضحكةٍ مائيةٍ نبتت‏
على الأغصان من خَفَر الندى…‏
وهو الخفيفُ كجملةٍ بيضاءَ موسيقيةٍ…‏
وهو الضعيف كلمح خاطرةٍ
تُطلُّ على أصابعنا‏
ونكتبها سُدى…‏
وهو الكثيف كبيتِ شعرٍ لا يدوَّنُ
بالحروف / ‏

لوصف زهر الَّلوز تلزمني زيارات ٌإلى
اللاوعي تُرشدني إلى أسماءَ عاطفة ٍ
معلقةٍ على الأشجار. ما اسمهْ؟ ‏
ما اسم هذا الشيء في شعريِّة اللاشيء ؟ ‏
يلزمني اختراقُ الجاذبيةِ والكلام،‏
لكي أحِسَّ بخفَّة الكلمات حين تصير ‏
طيفاً هامساً، فأكونها وتكونني‏
شفّافَةً بيضاءَ / ‏
لا وطنٌ ولا منفى هيَ الكلماتُ،
بل ولعُ البياض بوصف زهر اللوز /‏
لا ثلجٌ ولا قُطنٌ / فما هوَ في ‏
تعاليهِ على الأشياء والأسماءِ
لو نجح المؤلِّف في كتابة مقطعٍ
في وصف زهر الَّلوز، لانحسر الضبابُ ‏
عن التلال، وقال شعبٌ كاملٌ:‏
هذا هُوَ / ‏
هذا كلامُ نشيدنا الوطنّي!‏

في البيت أجلس

في البيت أجلس، لا حزيناً لا سعيداً ‏
لا أنا، أو لا أحد ْ

صحفٌ مبعثرةٌ. ووردُ المزهريةِ لا يذكرني‏
بمن قطفتهُ لي. فاليوم عُطلتنا عَن الذكرى،
وعطلة كلِّ شيء… إنه يوم الأحد ْ

يوم نرتبُ فيه مطبخنا وغرفةَ نومنا،‏
كلٌّ على حدةٍ. ونسمع نشرةَ الأخبار‏
هادئةً، فلا حربٌ تشنُّ على بلد ْ‏

ألامبراطورُ السَّعيدُ يُداعبُ اليومَ الكلابَ،
ويشرب الشمبانيا في ملتقى نهدين من
عاجٍ… ويسبحُ في الزبدْ‏

ألامبراطور الوحيدُ اليوم في قيلولةٍ،
مثلي ومثلك، لا يفكِّر بالقيامة .. فهيَ ‏
مُلكُ يمينهِ، هي و الحقيقةُ والأبدْ!‏

كسلٌ خفيفُ الوزن يطهو قهوتي ‏
والهالُ يصهلُ في الهواء وفي الجسدْ‏

وكأنني وحدي. أنا هو أو أنا الثاني ‏
رآني واطمأنَّ َعلى نهاري وابتعدْ

يوم ُالأحد ‏
هو أول الأيام في التوراة، لكنَّ
الزَّمان يغير العاداتِ: إذ يرتاح ‏
ربُّ الحرب في يوم الأحدْ

في البيت أجلس، لا سعيداً لا حزيناً
بين بين. ولا أبالي إن علمْت بأنني ‏
حقاً أنا … أو لا أحدْ!‏

أحب ُّالخريف َوظلَّ المعاني ‏

أحبُّ الخريفَ وظلِّ المعاني، ويعجبني‏
في الخريف غموضٌ خفيفٌ شفيفُ المناديل،‏
كالشعر غِبَّ ولادته إذ “يَزِغلِلُهُ”‏
وهَجُ الَّليل أو عتمةُ الضوء. يحبو
ولا يجد الاسم للشيء /‏

يعجبني مطرٌ خَفِرٌ لا يبلِّل إلاَّ ‏
البعيداتِ
‏[في مثل هذا الخريف تقاطعَ موكب عرسٍ‏
لنا مع إحدى الجنازات، فاحتفل الحيُّ ‏
بالميتِ والميتُ بالحيِّ]‏

يعجبني أن أرى ملكاً ينحني لاستعادةِ
لؤلؤة َالتَّاج من سمكٍ في البحيرة ِ/‏

تعجبني في الخريف ِمشاعيةُ الَّلون، لا‏
عرشَ للذهبِ المتواضع في ورقِ الشَّجر‏
المتواضعِ، مثل المساواة في ظمأ الحبِّ / ‏

يعجبني أنه هُدنة ٌبين جَيشينِ ينتظران‏
المباراة ما بين شاعرتينِ تحبَّان فصل الخريف،‏
وتختلفان على وجه الاستعارةْ

ويعجبني في الخريف التواطؤْ بين‏
الرُؤى والعبارةْ!‏

وأما الرَّبيع ‏

وأما الربيعُ، فما يكتب الشُّعراءُ السكارى
إذ أفلحوا في التقاط الزمان ِالسَّريع
بصنَّارة الكلمات… وعادوا إلى صحوهِم سالِمين.‏

قليلٌ من البرد في جَمرَةِ الجُلنار
يُخفِّف من لسعة النار في الاستعارة
‏[لو كنتُ أقربَ منكِ إليَّ ‏
لقبَّلتُ نفسي]‏

قليلٌ من اللون في زهرةِ اللوز يحمي
السَّماوات من حجَّة الوثنيِّ الاخيرةِ‏
‏[مهما اختلفنا سندركُ أن السعادةَ‏
ممكنة مثل هزَّة أرضٍ]‏

قليلٌ من الرَّقص في مهرجان الزََّّواج الإباحيّ
بين النباتات سوف ينشِّط دورتنا الدَّموية
‏[لاتعرف البذرةُ الموتَ
مهما ابتعدنا]‏

ولا تخجل الأبديةُ من أحدٍ ‏
حينَ تمنحُ عانتَها للجميع
هنا… في الرَّبيع السَّريع ‏

كنت أحبّ الشتاء

كنت في ما مضى أنحني للشِّتاء احتراماً ، ‏
وأصغي إلى جسدي. مطرٌ مطر كرسالة
حب تسيلُ إباحيَّةً من مُجون السماء.‏
شتاءٌ. نداءٌ. صدى جائع لاحتضان النساء.‏
هواءٌ يُرَى من بعيد على فرس تحمل
الغيم… بيضاءَ بيضاءَ. كنت أُحبُّ
الشتاء، وأمشي إلى موعدي فرحاً
مرحاً في الفضاء المبلَّل بالماء. كانت
فتاتي تنشِّفُ شعري القصير بشعر طويل
ترعرعَ في القمح والكستناء. ولا تكتفي
بالغناء: أنا والشتاء نحبُّكََ، فابقَ
إذا معنا! وتدفىءُ صدري على
شادنيْ ظبيةٍ ساخنيَن. وكنت أُحبُّ
الشتاء، وأسمعه قطرة قطرة. ‏
مطر، مطر كنداءٍ يُزفَُّ إلى العاشق:‏
أُهطلْ على جسدي! … لم يكن في ‏
الشتاء بكاء يدلُّ على آخر العمر.‏
كان البدايةَ، كان الرجاءَ. فماذا
سأفعل، والعمرُ يسقط كالشَّعر،
ماذا سأفعل هذا الشتاء؟

كما لو فرحتُ

كما لو فرحتُ: رجعت. ضغطتُ على
جرس الباب أكثرَ من مرةٍ، وانتظرتُ…‏
لعّلي تأخرتُ. لا أحدٌ يفتح الباب، لا
نأمةٌ في الممرِّ.‏
تذكرتُ أن مفاتيح بيتي معي، فاعتذرتُ
لنفسي: نسيتُك فادخلْ
دخلنا … أنا الضيف في منزلي والمضيف.‏
نظرتُ إلى كل محتويات الفراغ، فلم أرَ‏
لي أثراً، ربما … ربما لم أكن ههنا. لم ‏
أَجد شبهاً في المرايا. ففكرتُ: أين‏
أنا، وصرخت لأوقظ نفسي من الهذيان،
فلم أستطع… وانكسرتُ كصوتٍ تدحرجَ
فوق البلاط. وقلت: لماذا رجعت إذاً؟
واعتذرتُ لنفسي: نسيتُك فاخرجْ!‏
فلم أستطعْ. ومشيت إلى غرفة ِالنَّوم،
فاندفع الحلم نحوي وعانقني سائلاً:‏
هل تغيرتَ؟ قلت تغيرتُ، فالموتُ ‏
في البيت أفضلُ من دهسِ سيَّارةٍ‏
في الطريق إلى ساحة خالية !‏

فرحاً بشيء ما

فرحاً بشيٍ ما خفيٍّ، كنتُ أحتضن‎
الصباح بقُوّة الإنشاد، أمشي واثقاً‎
بخطايَ،‎ ‎أمشي واثقاً برؤايَ. وَحيٌ ما‎
يناديني: تعال! كأنَّه إيماءةٌ سحريةٌ،‎
وكأنه‎ ‎حلمٌ ترَّجل كي يدربني على أسراره،‎
فأكون سيِّدَ نجمتي في الليل‎… ‎معتمداً‎
على لغتي. أنا حُلمي أنا. أنا أمُّ أمي‎
في الرؤى، وأبو أبي، وابني‎ ‎أنا‎.
فرحاً بشيٍ ما خفيٍّ، كان يحملني‎
على آلاته الوتريةِ الإنشادُ‎. ‎يصقلني‎
ويصقلني كماسِ أميرة ٍشرقية‎ٍ
ما لم يُغَنَّ الآن‎
في هذا الصباح‎
فلن‎ ‎يُغَنّى‎
أعطنا، يا حُبُّ، فيضكَ كُلَّه لنخوض‏‎
حرب العاطفيّين الشريفة،‎ ‎فالمناخُ ملائمٌ،‎
والشمس تشحذ في الصباح سلاحنا،‎
يا حُبّ! لا هدفٌ لنا إلا‎ ‎الهزيمة في‎
حروبك… فانتصر أنت انتصر، واسمع‎
مديحك من ضحاياكَ: انتصر‎! ‎سَلِمَتْ‎
يداكَ! وَعُدْ إلينا خاسرين… وسالماً‎!
فرحاً بشيٍ ما خفيٍّ، كنت‎ ‎أمشي‎
حالماً بقصيدةٍ زرقاء من سطرين، من‏‎
سطرين… عن فرح خفيف‎ ‎الوزن،‎
مرئيٍ وسرّيّ معاً‎
مَنْ لا يحبَّ الآن،‎
في هذا الصباح،‎
فلن‎ ‎يُحبّ‎!‎

لا أعرف الشخص الغريب

لا أعرف الشَّخصَ الغريب ولا مآثرهُ…‏
رأيتُ جنازةً فمشيت خلف النعش،‏
مثل الآخرين مطأطىء الرأس احتراماً. لم
أجد سبباً لأسأل: من هو الشخصُ الغريبُ؟
وأين عاش، وكيف مات [فإن أسباب
الوفاة كثيرةٌ من بينها وجع الحياة].‏
سألتُ نفسي: هل يرانا أم يرى
عدماً ويأسفُ للنهاية؟ كنت أعلم أنه‏
لن يفتح النعشَ المُغطى بالبنفسج كي‏
يُودعنا ويشكرنا ويهمسَ بالحقيقة‏
‏[ما الحقيقة؟]. ربما هو مثلنا في هذه
الساعات يطوي ظلَّهُ. لكنه هوَ وحده‏
الشخصُ الذي لم يبكِ في هذا الصباح،
ولم يرَ الموت المحلقَ فوقنا كالصقر…‏
‏[فالأحياء هم أبناء عمِّ الموت، والموتى ‏
نيام هادئون وهادئون وهادئون] ولم ‏
أجد سبباً لأسأل: من هو الشَّخص
الغريب وما اسمه؟ [لا برق
يلمع في اسمه] والسائرون وراءه‏
عشرون شخصاً ما عداي [أنا سواي]‏
وتُهتُ في قلبي على باب الكنيسة:‏
ربما هو كاتبٌ أو عاملٌ أو لاجئٌ
أو سارقٌ، أو قاتلٌ… لا فرق،
فالموتى سواسيةٌ أمام الموت.. لا يتكلمون
وربما لا يحلمون…‏
وقد تكون جنازةُ الشخص الغريب جنازتي
لكنَّ أمراً ما إلهياً يؤجلها
لأسباب عديدةْ
من بينها: خطأ ٌكبيرٌ في القصيدةْ!‏

IV

هي

الجميلاتُ هنَّ الجميلاتُ

الجميلات هنَّ الجميلاتُ ‏

‏ [نقشُ الكمنجاتِ في الخاصرةْ]‏

الجميلات هنَّ الضعيفاتُ ‏

‏ [عرشٌ طفيفٌ بلا ذاكرةْ]‏

الجميلات هنَّ القوياتُ ‏

‏ [يأسٌ يضيء ولا يحترقْ] ‏

الجميلات هنَّ الأميرات ُ

‏ [ربَّاتُ وحيٍِ قلقْ]‏

الجميلات هنَّ القريباتُ ‏

‏ [جاراتُ قوس قزحْ] ‏

الجميلات هنَّ البعيداتُ ‏

‏ [مثل أغاني الفرح] ‏

الجميلات هنَّ الفقيراتُ ‏

‏ [كالوردِ في ساحةِ المعركةْ] ‏

الجميلاتُ هنَّ الوحيداتُ

( ‎مثل الوصيفات في حضرة الملكةْ‎)

الجميلات هنَّ الطويلاتُ ‏

‏ [خالاتِ نخل السماءْ] ‏

الجميلات هنَّ القصيراتُ ‏

‏ [يُشرَبْنَ في كأس ماءْ] ‏

الجميلات هنَّ الكبيراتُ ‏

‏ [مانجو مقشرةٌ ونبيذٌ معتقْ]‏

الجميلات هنَّ الصغيراتُ ‏

‏ [وَعْدُ غدٍ وبراعمُ زنبقْ] ‏

الجميلاتُ، كلّْ الجميلات، أنتِ

‏ إذا ما اجتمعنَ ليخترن َلي أنبلَ القاتلات !‏

كمقهى صغير هو الحبّ

كمقهى صغير على شارع الغرباء – ‏
هو الحُبُّ… يفتح أبوابه للجميع.‏
كمقهى يزيد وينقُصُ وفق المناخ:‏
إذا هطل المطرُ ازداد رُوَّاده،
وإذا اعتدل الجوُّ قلُّوا ومَلُّوا…‏
أنا ههنا – يا غريبةُ – في الركن أجلس‏
‏[ما لون عينيكِ؟ ما اسمك؟ كيف
أناديك حين تمرين بي، وأنا جالس ‏
في انتظاركِ؟]‏
مقهى صغيٌر هو الحبُّ. أطلب كأسَيْ
نبيذٍ وأشرب نخبي ونخبك. أحمل
قُبعتين وشمسيةً. إنها تمطر الآن.‏

تمطر أكثر من أي يوم، ولا تدخلين.‏
أقول لنفسي أخيراً: لعلَّ التي كنت
انتظرُ انتظرتني.. أو انتظرت رجلاً
آخرَ – انتظرتنا ولم تتعرف عليه / عليَّ،
وكانت تقول: أنا ههنا في انتظارك.‏
‏[ما لون عينيكَ؟ أي نبيذٍ تحبُّ؟
وما اسمُكَ؟ كيف أناديكَ حين
تمرُّ أمامي]‏
‏ كمقهى صغيرٍ هو الحُبّ…‏

يد تنشر الصحو ‏

يدٌ تنشرُ الصَّحوَ أبيضَ، تسهرُ،
تنهى وتأمرُ، تنأى وتدنو، وتقسو
وتحنو. يدٌ تكسر اللازورد بإيماءةٍ،‏
وترقِّص خيلاً على النَّهوند. يدٌ تتعالى.‏
تثرثرُ حين يجفُّ الكلامُ. يدٌ تسكبُ‏
البرق في قدح الشاي، تحلبُ ثديَ‏
السحابة، تستدرج الناي ((أنت صدايَ)).‏
يدٌ تتذكرُ ما سوف يحدث عما قليل.‏
يدٌ تتلألأ في أنجمٍ خمسةٍ… تحرم
الليلَ من حقه في النعاس. يد تعصرُ
المفردات فترشح ماءً. يد تتحدث عن
هجرة الطير منها إليها. يدٌ ترفع‏
المعنويات في الكلمات، يدٌ تأمر‏
الجيش بالنوم في الثكنات. يدٌ تتحرشُ
بالموج في جسدي. يدها همسة ٌتلمسُ
الأوجَ: خذني… هنا الآن … خذني !‏
قال لها: ليتني كنت أصغر

قال لها: ليتني كنتُ أصغرَ…‏
قالت له: سوف أكبر ليلاً كرائحة ‏
الياسمينة في الصيفِ
ثم أضافت: وأنت ستصغر حين
تنام، فكلَّ النيام صغارٌ، وأا أنا ‏
فسأسهر حتى الصباح ليسودَّ ما تحت
عينيَّ. خيطان من تعبٍ متقنٍ يكفيان‏
لأبدوَ أكبرَ. أعصر ليمونةً فوق‏
بطني لأخفي!طعم الحليب ورائحة القطنِ.‏
أفرك نهديَّ بالملح والزنجبيل فينفر نهدايَ
أكثر /‏
قال لها: ليس في القلب متسعٌ
للحديقة يا بنت… لا وقت في جسدي
لغدٍ… فاكبري بهدوءٍ وبطءٍ
فقالت له: لا نصيحةَ في الحب. خذني
لأكبرَ! خذي لتصغرَ
قال لها: عندما تكبرين غداً ستقولين:‏
يا ليتني كُنتُ أصغرَ
قالت له: شهوتي مثل فاكهةٍ لا
تؤجَّلُ… لا وقت في جسدي لانتظار
غدي!‏

لا أنام لأحلم

لا أنامُ لأحلم – قالت لهُ‏
بل أنام لأنساكَ. ما أطيب النوم وحدي
بلا صخبٍ في الحرير، ابتعدْ لأراكَ‏
وحيداً هناك، تفكِّر بي حين أنساكَ / ‏
لا شيئ يوجعني في غيابكَ
لا الليل يخمش صدري ولا شفتاكَ …‏
أنام على جسدي كاملاً كاملا
لا شريك له،
لا يداك تشقَّان ثوبي، ولا قدماكَ
تدقّان قلبي كبندقةٍ عندما تغلق الباب / ‏
لا شيء ينقصني في غيابك:‏
نهدايَ لي. سُرَّتي. نَمَشي. شامتي،
ويدايَ وساقايَ لي. كُلُّ ما فيَّ لي
ولك الصُّورُ المشتهاةُ، فخذها
لتؤنس منفاكَ، وارفع رؤاك كنخبٍ
أخير. وقل إن أردت: هواكِ هلاك.‏

وأمَّا أنا، فسأصغي إلى جسدي ‏
بهدوء الطبيبة: لاشيء، لاشيء
يُوجعني في الغياب سوى عُزلةِ الكون! ‏

نسيَت غيمةً في السرير

نسيَتْ غيمةٌ في السرير. على عجلٍ
ودَّعتني وقالت: سأنساك. لكنها
نسيتْ غيمة في السرير. فغطيتُها بالحرير ِ
وقلتُ لها: لا تطيري ولا تتبعيها.‏
ستأتي إليكِ.‏
‏[ وكانت عصافيرُ زرقاءُ، حمراءُ،
صفراءُ ترتشف الماء من غيمةٍ ‏
تتباطأ حين تطل على كتفيها ]‏
ستُدركُ حين تعود إلى بيتها، دون‏
حاشيةٍ من عصافيرَ، أنَّ المناخ تغيّر
في ساحل الكتفين، وأن السحاب تبخر/‏
عندئذٍ تتذكرُ ما نسيت: غيمةً في ‏
سريري، فترجع كي تستعيد تقاليدها
الملكية في غيمة …‏
فشمَتُّ بها وابتسمتُ.‏
وحين دخلتُ سريري لأرقد في
الاستعارة بَلَّلني الماء

هي / هو ‏

هِيَ: هل عرفتَ الحبَّ يوماً؟‏
هُوَ: عندما يأتي الشتاء يمسُّني
شغفٌ بشيء غائب، أضفي عليه
الاسمَ، أيَّ اسمٍ، أَنسى…‏

هي: ماالذي تنساه؟ قُلْ!‏
هو: رعشة الحُمَّى، وما أهذي به
تحت الشراشف حين أشهق: دَثِّريني ‏
دثِّريني!‏

هي: ليس حُباً ما تقول
هو: ليس حباً ما أَقول

هي: هل شعرتَ برغبة في أن تعيش
الموت في حضن إمرأةْ؟

هو: كلما اكتمل الغيابُ حضرتُ…‏
وانكسر البعيد، فعانق الموتُ الحياةَ
وعانَقَتهُ… كعاشقين

هي: ثم ماذا؟
هو: ثم ماذا؟

هي: واتحَّدتَ بها، فلم تعرف يديها‏
من يديك وأنتما تتبخَّران كغيمةٍ زرقاءَ
لا تَتَبيَّنان أأنتما جسدان… أم طيفان
أم؟
هو: من هي الأنثى – مجازُ الأرض‏
فينا؟ مّن هو الذَّكرُ – السماء؟‏

هي: هكذا ابتدأ أغاني الحبّ. أنت إذن
عرفتَ الحب يوماً!‏
هو: كلما اكتمل الحضورُ ودُجِّن المجهول…‏
غبتُ

هي: إنه فصل الشتاء، ورُبَّما
أصبحتُ ماضيكَ المفضَّل في الشتاء
هو: ربما… فإلى اللقاء
هي: ربما.. فإلى اللقاء! ‏

هي لا تحبك أنت

هي لا تحبُّكَ أنت َ‏
يعجبها مجازكَ ‏
أنتَ شاعرها
وهذا كلُّ ما في الأمرِ / ‏

يعجبها اندفاعُ النهرِ في الإيقاعِ‏
كن نهراً لتعجبها!‏
ويعجبها جِماعُ البرق والأصوات‏
قافيةً…‏
تُسيلُ لعابَ نهديها‏
على حرفٍ
فكن ألفاً … لتعجبها!‏
ويعجبها ارتفاع ُالشيء ‏
من شيء إلى ضوء ‏
ومن ضوءٍ إلى جرْسٍ
ومن جرسٍ إلى حِسٍّ
فكن إحدى عواطفها …لتعجبها
ويعجبها صراع ُ مسائها مع صدرها:‏
‏[عذَّبتني يا حبُّ‏
يا نهراً يصبُّ مجونهُ الوحشيِّ‏
خارج غرفتي…‏
يا حُبُّ! إن لم تُدمِني شبقاً
قتلتك]‏
كنْ ملاكاً، لا ليعجبها مجازك ‏
بل لتقتلك انتقاماً من أنوثتها
ومن شَرَك المجاز … لعلها ‏
صارت تحبكَ أنتَ مذْ أدخلتها‏
في اللازورد، وصرت أنت سواك
في أعلى أعاليها هناك…‏
هناك صار الأمر ملتبساً
على الأبراج
بين الحوت والعذراء… ‏

لم تأتِ

لم تأتِ. قلتُ: ولنْ .. إذاً
سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي
وغيابها:‏
أطفات نار شموعها،
أشعلت نور الكهرباء،
شربتُ كأس نبيذها وكسرتهُ،‏
أبدلتُ موسيقى الكمنجات السريعة
بالأغاني الفارسية.‏
قلت: لن تأتي. سأنضو ربطةَ
العنق الأنيقة [هكذا أرتاح أكثر]‏
أرتدي بيجامة زرقاء. أمشي حافياً
لو شئتُ. أجلس بارتخاء القرفصاءِ
على أريكتها، فأنساها
وأنسى كل أشياء الغياب / ‏
أعدتُ ما أعددتُ من أدوات حفلتنا
إلى أدراجها. وفتحتُ كلَّ نوافذي وستائري.‏
لاسرَّ في جسدي أمام الليل إلاّ‏
ما انتظرتُ وما خسرتُ…‏
سخرتُ من هَوَسي بتنظيف الهواء لأجلها
‏[عطرته برذاذ ماء الورد والليمون]‏
لن تأتي … سأنقل نبتة الأوركيدِ
من جهة اليمين إلى اليسار لكي أعاقبها
على نسيانها…‏
غطيتُ مرآةَ الجدار بمعطفٍ كي لا أرى‏
إشعاع صورتها … فأندم / ‏
قلتُ: أنسى ما اقتبستُ لها
من الغزل القديم، لأنها لا تستحقُّ
قصيدةً حتى لو مسروقةً…‏
ونسيتُها، وأكلتُ وجبتي السريعةَ واقفاً‏
وقرأتُ فصلاً من كتاب مدرسيّ
عن كواكبنا البعيدةْ
وكتبتُ، كي أنسى إساءتها، قصيدة
هذي القصيدةْ!‏

وأنتِ معي

وأنتِ معي، لا أقول: هنا الآن
نحن معاً. بل أقول: أَنا، أنتِ،
والأبديةُ نسبح في لا مكان
هواءٌ وماءٌ. نفكُّ الرموز. نُسَمِّي،
نُسَمِّى ،ولا نتكلم إلا لنعلم كم
نحن نحن… وننسى الزمانْ
ولا أتذكرُ في أيِّ أرضٍ وُلدتِ،‏
ولا أتذكر من أيّ أرض بُعثتُ.‏
هواءٌ وماء، ونحن على نجمة طائرانْ.‏
وأنتِ معي يَعرَق الصمتُ، يغرورقُ
الصحوُ بالغيم، والماءُ يبكي ويبكي الهواء،
على نفسه كلما اتَّحد الجسدانْ
ولا حُبَّ في الحبِّ،
لكنه شَبَقُ الروح للطيرانْ

الآن بعدك

الآن بعدَكِ… عند قافيةٍ مناسبةٍ
ومنفى، تُصلح الأشجارُ وقفتها وتضحك.‏
إنه صيف الخريف… كعطلةٍ في غير
موعدها، كثقبٍ في الزمان، وكانقطاعٍ
في نشيدِ
صيف الخريف تلفتُ الأيام صوبَ حديقةٍ
خضراءَ لم تنضج فواكهها، وصوبَ حكايةٍ
لم تكتمل: ما زال فينا نورسان يُحلقان
من البعيد إلى البعيدِ
ألشمسُ تضحكُ في الشوارع، والنساءُ
النازلات من الأَسِرَّة، ضاحكاتٍ ضاحكاتٍ،
يغتسلن بشمسهنَّ الداخلية، عارياتٍ عارياتٍ.‏
إنه صيف الخريف يجيء من وقتٍ إضافيٍّ
جديد.‏
صيف الخريف يشدُّني ويشدُّكِ: انتظرا!‏
لعلَّ نهايةً أُخرى وأجملَ في انتظاركما أمام
محطة المترو. لعلَّ بدايةً دخلت إلى
المقهى ولم تخرج وراءكما. لعل خطابَ
حبّ ما تأخرَ في البريد.‏
آلآن، بعدك… عند قافيةٍ ملائمةٍ‏
ومنفى… تصلحُ الأشجارُ وفقتها وتضحك.‏
أشتهيك وأَشتهيك وأنت تغتسلين،
عن بعدٍ، بشمسك. إنه صيف الخريف
كعطلة في غير موعدها. سنعلم أَنه
فصلٌ يدافع عن ضرورته، وعن حُبّ
خرافيّ… سعيدِ
الشمسُ تضحكُ من حماقتنا وتضحكُ،
لن أعود ولن تعودي!‏

منفى

‏ (1)‏

نهار الثلاثاء والجوُّ صافٍ

نهار الثلاثاء والجوُّ صافٍ، أسيرُ‏
على شارعٍجانبيّ مغطّى بسقف من
الكستناء… أسير خفيفاً خفيفاً كأني
تبخرتُ من جسدي، وكأني على موعد
مع إحدى القصائد. أنظر في ساعتي
شارداً. أتصفحُ أوراق غيم بعيد
تدوِّنُ فيه السماءُ خواطر عليا، أقلِّبُ
أحوال قلبي على شجر الجوز: خالٍ
من الكهرباء ككوخ صغير على شاطئ
البحر. أسرَعَ، أبطأَ، أسرعَ أمشي.‏
أُحدق في اللافتات على الجانبين…‏
ولا أحفظ الكلمات. أدندن لحناً
بطيئا ًكما يفعل العاطلون عن العمل:‏
‏”النهر كالمهر يجري إلى حتفه / البحرِ
والطيرُ تختطف الحبَّ من كتف النهر”.‏
أهجس، أهمس في السر: عِشْ
غدك الآن! مهما حييتَ فلن تبلغ
الغدَ… لا أرض للغد، واحلمْ
ببطء، فمهما حلمت ستدرك أنَّ
الفراشة لم تحترق لتضيئك /‏

أمشي خفيفاً خفيفاً. وأنظر حولي
لعلي أرى شبهاً بين أوصاف نفسي
وصفصاف هذا الفضاء فلا أتبيّن
شيئا يشير إليََّ

‏[ إذا لم يغنِّ الكناريُّ
يا صاحبي لكَ… فاعلمْ
بأنك سجان نفسك،إن
لم يغنّ الكناريُّ]‏

لا أرض ضيقة ًكأصيص الورود
كأرضك أنتَ… ولا أرضَ واسعةً‏
كالكتاب كأرضك أنتَ.. ورؤياك
منفاك في عالم لا هوية للظلّ
فيه، ولا جاذبية / ‏

تمشي كأنك غيرك /‏

لو أستطيع الحديث إلى أحد في
الطريق لقلتُ: خصوصيتي هي ما
لا يدلُّ عليَّ، وما لا يسمى
من الموت حلماً، ولا شيء أكثر / ‏
لو أستطيع الحديث إلى امرأة
في الطريق لقلتُ: خصوصيتي لا
تثير انتباهاً: تكلُّسُ بعض الشرايين
في القدمين، ولا شيء أكثر، فامشي
الهوينى معي مثل مشي السحابة
‏”لا هي ريثٌ… ولا عجل” …‏

لو أستطيع الحديث إلى شبح الموت ‏
خلف سياج الأضاليا لقلتُ: ولدنا
معا توأمين، أخي أنت يا قاتلي،
يا مهندس دربي على هذه الأرض…‏
أمي وأمكَ، فارمِ سلاحكَ / ‏

لو أستطيع الحديث إلى الحبِّ، بعد
الغداء، لقلت له: حين كنا
فتيَّين كنا لهاثَ يدين على زغب‏
المفردات،وإغماءة المفردات على
ركبتين.وكنتَ قليل الصفات،كثيرَ
الحراك، وأوضحَ: فالوجه وجهُ
ملاكٍ يجيء من النوم، والجسم
كبشٌ بقوة حمى. وكنت تُسمَّى ‏
كما أنت “حباً” فيُغمى علينا
ويُغمى على الليل /‏

أمشي خفيفاً، فأكبر عشرَ دقائقَ،
عشرين، ستين… أمشي وتنقص
قيَّ الحياةُ على مهلها كسعالٍ خفيف.‏
أفكر: ماذا لو أني تباطأتُ، ماذا ‏
لو أني توقفتُ؟ هل أوقف الوقت؟
هل أربكك الموت؟ أسخر من فكرتي،
ثم أسأل نفسي: إلى أين تمشين
أيتها المطمئنة مثل النعامة؟ امشي
كأن الحياة تعدِّل نقصانها بعد حين.‏
ولا أتلفت خلفي، فلن أستطيع
الرجوع إلى أي شيء، ولا أستطيع
التماهي

ولو أستطيع الحديث إلى الربِّ قلت:‏
إلهي إلهي! لماذا تخليتَ عني؟
ولست سوى ظلِّ ظلك في الأرض،‏
كيف تخلَّيتَ عني، وأوقعتني في‏
فخاخ السؤال: لماذا خلقت البعوض
إلهي إلهي؟
وأمشي بلا موعدٍ، خالياً من
وعود غدي. أتذكرُ أني نسيتُ،‏
وأنسى كما أتذكرُ:‏

أنسى غراباً على غصن زيتونةٍ
أتذكر يقعةَ زيتٍ على الثوبِ‏

أنسى نداء الغزال إلى زوجهِ
أتذكر خط النمال على الرملِ

أنسى حنيني إلى نجمةٍ وقعتْ من يدي‏
أتذكرُ فروَ الثعالبِ‏

أنسى الطريق القديم إلى بيتنا
أتذكرُ عاطفةً تشبه المندرينةَ‏

أنسى الكلامً الذي قلتهُ‏
أتذكر ما لم أقل بعد

أنسى رواياتِ جدي وسيفاً على حائطٍ‏
أتذكر خوفي من النومِ

أنسى شفاه الفتاة التي امتلأت عنباً
أتذكرُ رائحةَ الخسِّ بين الأصابعِ‏

أنسى البيوت التي دونت سيرتي
أتذكر رقمَ الهويةِ‏
أنسى حوادث كبرى وهزة َأرض مدمرةً
أتذكر تبغ أبي في الخزانة
أنسى دروب الرحيل إلى عدم ناقصٍ
أتذكر ضوء الكواكب في أطلس البدو
أنسى أزيز الرصاص على قرية أقفرت
أتذكر صوت الجداجد في الحرش
أنسى كما أتذكر، أو أتذكر أني نسيت
‏[ ولكنني ‏
أتذكر
هذا النهار،
نهار الثلاثاء
والجو صافٍ ]‏
وأمشي على شارع لا يؤدي إلى
هدف . ربما أرشدتني خطايَ إلى‏
مقعد شاغر في الحديقة، أو
أرشدتني إلى فكرة عن ضياع الحقيقة
بين الجماليّّ والواقعيّ. سأجلس وحدي
كأني على موعد مع إحدى نساء
الخيال. تخيلتُ أني انتظرت طويلاً،
وأني ضجرت من الانتظار، وأني انفجرت:‏
لماذا تأخرتِ؟ تكذب: كان الزحامُ
شديداً على الجسر. فاهدأْ. سأهدأُ
حين تداعب شعري. سأشعر أنَّ
الحديقة غرفتنا والظلال ستائرُ
‏[ إن لم يغن الكناريُّ
يا صاحبي لك… فاعلم
بأنك أفرطتَ في النوم‏
إن لم يغن الكناريُّ ]‏
وتسأل: ماذا تقول؟
أقول لها: لم يغن الكناريُّ لي ‏
هل تذكرتني يا غريبةُ؟ هل أشبه
الشاعر الرعويَّ القديمَ الذي توَّجتهُ
النجوم مليكاً على الليل، ثم تنازل‏
عن عرشه حين أرسلته راعياً
للغيوم؟ تقول: وهل يشبه اليومُ أمسِ،‏
كأنك أنتَ…‏
‏[ هناك، على المقعد الخشبي المقابلِ
بنتٌ يُفتٍّتُها الانتظار
وتبكي،
وتشرب كأس عصير…‏
تُلمّع بلّور قلبي الصغير
وتحمل عني عواطف هذا النهار ]‏
وأسألها: كيف جئتِ؟
تقول: أتيت مصادفةً. كنت أمشي
على شارع لا يؤدي إلى هدفٍ.‏
قلت: أمشي كأني على موعد…‏
ربما أرشدتني خطايَ إلى مقعد شاغر‏
في الحديقة، أو أرشدتني إلى فكرة ‏
عن ضياع الحقيقة بين الخياليِّ والواقعيّ.‏
وهل أنت تذكرني يا غريب؟
وهل أشبه امرأةَ الأمس، تلك الصغيرةَ،
ذات الضفيرةِ، والأغنيات القصيرةِ
عن حبنا بعد نوم طويل
أقول: كأنكِ أنتِ..‏
‏[ هناك فتىً يدخل الآن ‏
باب الحديقة،
يحمل خمساً وعشرين زنبقةً
للفتاة التي انتظرته
ويحمل عني فتوة هذا النهار ]‏
صغير هو القلب… قلبي
كبير هو الحب… حبي
يسافر في الريح، يهبط
يفرط رمانةً، ثم يسقطُ
في تيه عينين لوزيتين
ويصعد من فجر غمَّازتين
وينسى طريق الرجوع إلى بيته واسمه
صغير هو القلب… قلبي
كبير هو الحب /..‏
هل كان الذي كنتهُ – هو؟‏
أم كان ذاك الذي لم أكنه –أنا؟
تقول: لماذا تحكُّ الغيومُ أعالي الشجرْ؟
أقول: لتلتصق الساقُ بالساق‏
تحت رذاذ المطرْ
تقول: لماذا تحملق بي قطة خائفةْ؟
أقول: لكي توقفني العاصفةْ
تقول: لماذا يحنُّ الغريب إلى أمسه
أقول: ليعتمد الشعر فيه على نفسهِ
تقول: لماذا تصير السماء رمادية اللون
عند العشية؟
أقول: لأنك لم تسكبي الماء في المزهريةْ
تقول: لماذا تبالغ في السخريةْ؟
أقول: لكي تأكل الأغنيةْ
قليلا من الخبز ما بين حين وحين
تقول: لماذا نحب، فنمشي على طرقٍ خاليةْ؟
أقول: لنقهر الموت كثيرا بموت أقلّ
وننجو من الهاويةْ
تقول: لماذا حلمتُ بأني رأيت سنونوةً في يدي؟‏
أقول: لأنك في حاجةٍ لأحدْ‏
تقول: لماذا تذكرني بغد لا أراه
معك؟
أقول: لأنك إحدى صفات الأبدْ
تقول: ستمضي إلى نفق الليل وحدك
بعدي
أقول: سأمضي إلى نفق الليل بعدك
وحدي

‏.. وأمشي ثقيلاً ثقيلاً، كأني على موعد
مع إحدى الخسارات. أمشي وبي شاعر
يستعد لراحته الأبدية في ليل لندن.‏
يا صاحبي في الطريق إلى الشام! لم نبلغ
الشام بعد، تمهّل تمهّل، ولا تجعل
الياسمينة ثكلى، ولا تمتحني، بمرثية:‏
كيف أحمل عبء القصيدة
عنك وعني؟
قصيدة ُمن لا يحبونَ وصفَ الضباب‏
قصيدتهُ
معطفُ الغيم فوق الكنيسةِ‏
معطفه
سرّ قلبين يلتجئان إلى بردى‏
سرّهُ
نخلة السومرية، أم الأناشيد
نخلته
ومفاتيحُ قرطبةٍ في جنوب الضباب‏
مفاتيحه
لايذيلُ أشعاره باسمه‏
فالفتاة الصغيرة تعرفهُ
إن أحستْ بوخز الدبابيس‏
والملح في دمها.‏
هو، مثلي، يطارده قلبُهُ
وأنا، مثله، لا أُذيل باسمي الوصية
فالريح تعرف عنوان أهلي الجديد
على سفح هاوية في جنوب البعيد
وداعاً، صديقي، وداعاً وسّلم على الشام/‏
لستُ فتياً لأحمل نفسي
على الكلمات، ولست فتياً
لأكمل هذي القصيدةَ / ‏

أمشي مع الضاد في الليل – ‏
تلك خصوصيتي اللغويةُ – أمشي‏
مع الليل في الضاد كهلاً يحثّ
حصاناً عجوزاً على الطيران إلى برج
إيفل. يا لغتي ساعديني على الاقتباس
لأحتضن الكون. في داخلي شُرفةٌ لا‏
يمرّ ُبها أحدٌ للتحية. في خارجي عالم
لا يردُّ التحية. يا لغتي! هل أكون
أنا ما تكونين؟ أم أنت – يا لغتي – ‏
ما أكون؟ ويا لغتي دربيني على
الاندماج الزفافيّ بين حروف الهجاء‏
وأعضاء جسمي – أكن سيداًلا صدى.‏
دثّريني بصوفك يا لغتي، ساعديني
على الاختلاف لكي أبلغ الائتلاف. لديني
ألدك. أنا ابنك حينا، وحينا أبوك
وأمك. إن كنتِ كنتُ، وإن كنتُ
كنتِ. وسمّي الزمان الجديد بأسمائه
الأجنبية يا لغتي، واستضيفي الغريب
البعيد ونثرَ الحياة البسيط لينضج
شعري. فمن – إن نطقتُ بما ليس ‏
شعراً – سيفهمني؟ من يكلمني‏
عن حنينٍ خفيِّ إلى زمن ضائع إن
نطقتُ بما ليس شعراً؟ ومن – إن‏
نطقت بما ليس شعراً – سيعرف‏
أرض الغريب؟
سجا الليل، واكتمل الليل، فاستيقَظَت
زهرةٌ للتنفس عند سياج الحديقة.‏
قلتُ: سأشهد أني ما زلت حياً،
ولو من بعيد. وأني حلمت بأن الذي
كان يحلم، مثلي، أنا لا سواي…‏
وكان نهاري، نهار الثلاثاء رحباً طويلاً،
وليل وجيزاً كفصلٍ قصيرٍ أُضيف
إلى المسرحية بعد نزول الستارة. لكنني ‏
لن أُسيء إلى أحد…‏
إن أضفتُ: وكان نهاراً جميلاً،
كقصةِ حبٍّ حقيقيةٍ في قطار سريع
‏[إذا لم يغنّ الكناري
يا صاحبي،
لا تلمْ غير نفسك.‏
إن لم يغنِّ الكناريُّ‏
يا صاحبي لكَ
غنِّ له أنت … غَنِّ له]‏

VI‏ منفى

(2)‏

ضباب كثيف علي الجسر ‏
قال لي صاحبي، والضبابُ كثيفٌ‏
علي الجسر:‏
هل يُعْرَف الشيء من ضدِّهِ؟
قلت: في الفجر يتَّضحُ الأمرُ‏
قال: وليس هنالك وقتٌ أَشدّ‏
التباسا ًمن الفجر،
فاترك خيالك للنهر/‏
في زرقة الفجر يعْدَم في
باحة السجن، أو قرب حرش الصنوبر
شابٌ تفاءل بالنصر/‏
في زرقة الفجر ترسم رائحة الخبز
خارطة للحياة ربيعيَّةَ الصيف/‏
في زرقة الفجر يستيقظ الحالمون
خفافاً ويمشون في ماء أَحلامهم‏
مرحين
‏-إلى أَين يأخذنا الفجرُ، والفجر
جِسْرٌ، إلي أَين يأخذنا؟
قال لي صاحبي: لا أريد مكاناً
لأدفَنَ فيه. أريد مكانا لأحيا،
وأَلعنَه إن أردتُ.‏
فقلت له -والمكان يمرّ كإيماءة
بيننا: ما المكان؟
فقال: عثور الحواسِّ على موطئ‏
للبديهة،
ثم تنهد:‏
‏ يا شارعاً ضيقاً كان يحملني‏
‏ في المساء الفسيح إلي بيتها
‏ في ضواحي السكينةْ
‏ أَما زلت تحفظ قلبيَ
‏ عن ظهر قلب،
‏ وتنسي دخان المدينة؟
قلت له: لا تراهن علي الواقعيّ
فلن تجد الشيء حياً كصورته في‏
انتظارك….‏
إنَّ الزمان يدجِّن حتى الجبال
فتصبح أَعلى،وتصبح أوطأ مما عرفت.‏
إلى أين يأخذنا الجسرُ؟
قال: وهل كان هذا الطريقُ
طويلا ًإلى الجسرِ؟
قلت: وهل كان هذا الضبابُ
كثيفاً علي دَرَج الفجرِ؟‏
كم سنة ًكنْتَ تشبهني؟
قال: كم سَنَة كنْتَ أَنتَ أَنا؟
قلت: لا أَتذكَّرُ
قال: ولا أتذكر أني تذكرت
غير الطريق
وغنَّي:‏
‎]‎على الجسر،في بلد آخرٍ
يعلن الساكسفونُ انتهاءََ الشتاء‏
على الجسر يعترف الغرباء
بأخطائهم، عندما لايشاركهم
أَحَدٌ في الغناء‏‎[‎
وقلت له: منذ كم سنة نَسْتَحِثُّ
الحمامة: طيري إلي سدرة المنتهي،
تحت شباكنا، ياحمامة طيري طيري
فقال: كأني نسيت شعوري
وقال: وعما قليل نقلٌِد أَصواتنا
حين كنا صغيرين. نلثغ بالسين واللام.‏
نغفو كزوجي يمام علي كرمة ترتدي
البيت. عما قليل تطلُّ علينا الحياة‏
بديهيَّة. فالجبال علي حالها، خلف
صورتها في مخيلتي. والسماء ُالقديمةُ
صافية اللون والذهن، إن لم
يَخنّي الخيال، تظلّ علي حالها
مثل صورتها في مخيّلتي، والهواء
الشهيّ النقيّ البهيّ يظل ُّعلى
حاله في انتظاري.. يظلّ علي حاله.‏
قلت: ياصاحبي، أَفرَغتني الطريقُ
الطويلة من جسدي. لا أحس بصلصاله.‏
لا أحسّ بأحواله. كلما سرت طرت.‏
خطايَ رؤاي. وأَما ((أنا))ي ،فقد
لَوَّحَتْ من بعيد:‏
‏((إذا كان دربك هذا
طويلاً
فلي عَمَلّ في الأساطير))‏
أَيدٍ إلهيَّة دَرَّبتنا علي حفر أسمائنا‏
في فهارس صفصافة. لم نكنِ واضحين
ولاغامضين. ولكنَّ أسلوبنا في
عبور الشوارع من زمنِ نحو آخرَ
كان يثير التساؤل: مَنْ هؤلاءِ
الذين إذا شاهدوا نخلة وقفوا
صامتين، وخرٌوا علي ظلٌها ساجدين؟
ومن هؤلاء الذين إذا ضحكوا أزعجوا ‏
الآخرين؟
علي الجسر، في بلد آخر، قال لي
يعْرَف الغرباء من النَّظَر المتقطٌِع في الماء،
أو يعْرَفون من الانطواء وتأتأة المشي.‏
فابن البلاد يسير إلي هدف واضحِ
مستقيمَ الخطي. والغريب يدور علي
نفسه حائرا
قال لي: كلّ جسري لقاء… علي
الجسر أدخل في خارجي، وأسلم
قلبي إلي نَحْلَة أو سنونوَّة
قلت: ليس تماما. علي الجسر أمشي
إلي داخلي، وأروٌِض نفسي علي
الانتباه إلي أمرها. كلّ جسري فصام،
فلا أنت أنت كما كنت قبل قليل،
ولا الكائنات هي الذكريات
أنا اثنان في واحد
أم أنا
واحد يتشظي إلي اثنين
ياجسْر يا جسر
أيٌ الشَّتِيتَيْنِ منا أَنا؟
مشينا علي الجسر عشرين عاما
مشينا علي الجسر عشرين مترا
ذهابا إيابا،
وقلت: ولم يبقَ إلا القليل
وقال: ولم يبقَ إلا القليل
وقلنا معا، وعلي حدة، حالمين:‏
سأمشي خفيفا، خطَايَ علي الريحِ
قوس تدغدغ أرضَ الكمان
سأسمع نبض دمي في الحصي
وعروق المكان

سأسند رأسي إلي جذع خَرّوبة،
هي أمٌي، ولو أنْكَرَتْني
سأغفو قليلا، ويحملني طائران صغيران
أعلي وأعلي… إلي نجمة شرٌدَتْني
سأوقظ روحي علي وَجَع سابق
قادم، كالرسالة، من شرفة الذاكرةْ
سأهتف: مازلت حيٌا، لأنيَ‏
أَشعر بالسهم يخترق الخاصرةْ
سأنظر نحو اليمين، إلي جهة الياسمين
هناك تعلَّمْت أول أغاني الجسدْ
سأنظر نحو اليسار، إلي جهة البحر
حيث تعلَّمت صَيْدَ الزَّبَدْ
سأكذب مثل المراهق: هذا الحليب
علي بنطلوني ثمَاَلة حلْمِ تحرَّش بي… وانتهي
سأنكر أني أقلٌِد قيلولة الشاعر
الجاهليٌِ الطويلةَ بين عيون المها
سأشرب من حَنَفيَّة ماء الحديقة حفنةَ
ماء. وأَعطش كالماء شوقا إلي نفسِهِ
سأسأل أوٌل عابر درب: أَشاهدتَ
شخصا علي هيئة الطيف، مثلي، يفتٌِش
عن أَمسِه؟
سأحمل بيتي علي كتفيَّ… وأَمشي
كما تفعل السلحفاة البطيئةْ
سأصطاد نسرا بمكنسة، ثم أسأل:‏
أَين الخطيئة؟
سأبحث في الميثولوجيا وفي الأركيولوجيا
وفي كل جيم عن اسمي القديم
ستنحاز إحدي إِلهات كَنْعَانَ لي، ثمَّ
تحلف بالبرق: هذا هو ابني اليتيم
سأثني علي امرأة أنجبتْ طفلة
في الأنابيب. لكنها لاتمتّ إليها بأيٌِ شَبَهْ
سأبكي علي رجل مات حين انتَبهْ‏

سأخذ سطر المَعَرٌيٌِ ثم أعدٌِله:‏
جَسَدي خرقَة من تراب، فيا خائطَ
الكون خِطْني!‏
سأكتب: يا خالقَ الموت، دعني
قليلا… وشأني!‏

سأوقظ موتايَ: نحن سواسية أيها
النائمون، أما زلتم مثلنا تحلمون
بيوم القيامةْ؟
سأجمع ما بعثرته الرياح من الغَزَل
القرْطبيٌِ، وأكمل طَوْقَ الحمامةْ

سأختار من ذكرياتي الحميماتِ
وَصْفَ الملائم: رائحة الشرشف المتجعٌد
بعد الجِماع كرائحة العشب بعد المطرْ
سأشهد كيف سيخضرّ وجه الحجرْ

سيلسعني وَرْد آذارَ، حيث ولدت
لأوٌل مَرٌةْ
ستحمل بي زهرة الجلَّنار، وأولَد منها
لآخر مَرَّةْ!‏

سأَنأي عن الأمس، حين أعيد
له إرثه: الذاكرةْ
سأدنو من الغد حين أطارد قبَّرة

ماكرةْ
سأعلم أَني تأخَّرْت عن موعدي

وسأعرف أنَّ غدي
مَرَّ، مَرَّ السحابةِ، منذ قليل،
ولم ينتظرني
سأعلم أن السماء ستمطر بعد قليل
عليَّ
وأنٌي
أَسير علي الجسر

هل نطأ الآن أرض الحكاية؟ قد
لاتكون كما نتخيَّل ‘لا هي سَمْن
ولا عَسَل’ والسماء رمادَّية اللون.‏
والفجر مازال أزرقَ ملتبسا. ما

هو الزمن الآن؟ جسر يطول
ويقصر.. فجر يطول ويمكر. ما
الزمن الآن؟

تغفو البلاد القديمة خلف قلاع
سياحيٌة. والزمان يهاجر في نجمة
أَحرقت فارسا عاطفيا. فيا أيها
النائمون علي إبر الذكريات! أَلا
تشعرون بصوت الزلازل في حافر الظبي؟

قلت له: هل أَصابتك حمَّي؟
فتابع كابوسه: أَيها النائمون! ألا
تسمعون هسيس القيامة في حبة
الرمل؟
قلت له: هل تكلمني؟ أم تكلٌِم
نفسك؟
قال: وصلت إلي آخر الحلم…‏
شاهدت نفسي عجوزا هناك،
وشاهدت قلبي يطارد كلبي هناك
وينبح… شاهدت غرفةَ نومي
تقَهْقِه: هل أَنتَ حيٌ؟ تعال
لأحمل عنك الهواء وعكازك الخشبيَّ
المرصَّع بالصدف المغربيٌِ!! فكيف
أعيد البداية، ياصاحبي، من أَنا؟
من أنا دون حلْم ورفقة أنثي؟

فقلت: نزور فتات الحياة، الحياة
كما هي، ولنتدرَّبْ علي حبٌ أشياء
كانت لنا، وعلي حبٌ أشياء ليست
لنا… ولنا إن نظرنا إليها معا من
علي كسقوط الثلوج علي جَبَلي
قد تكون الجبال علي حالها
والحقول علي حالها
والحياة بديهية ومشاعا،
فهل ندخل الآن أرض الحكاية يا
صاحبي؟
قال لي: لا أريد مكانا لأدفن فيه
أريد مكانا لأحيا، وألعنه لو أردت…‏

وحملق في الجسر: هذا هو الباب.‏
باب الحقيقة لانستطيع الدخول ولا
نستطيع الخروج
ولايعْرَف الشيء من شدٌِهِ
أَلممرات مغْلَقَة
والسماء رماديَّة الوجه ضدٌَهِ

ويد الفجر ترفع سروال جنديٌةِ
عاليا عاليا…‏

وبقينا علي الجسر عشرين عاما
أكلنا الطعام المعلٌب عشرين عاما
لبسنا ثياب الفصول،
استمعنا إلي الأغنيات الجديدة،
جَيٌِدةِ الصنع،
من ثكنات الجنود
تزوَّج أولادنا بأميرات منفي
وغيَّرن أسماءهم،
وتركنا مصائرنا لهواة الخسائر
في السينما.‏
وقرأنا علي الرمل آثارنا
لم نكن غامضين ولا واضحين

كصورة فجر كثيرِ التثاؤبِ

قلت: أمازال يجرحك الجرح، يا
صاحبي؟
قال لي: لا أحسّ بشيء
فقد حوَّلت فكرتي جسدي دفترا للبراهين،
لا شيء يثبت أَني أنا
غَيْر موت صريح علي الجسر،
أَرنو إلي وردة في البعيد
فيشتعل الجمر
أرنو إلي مسقط الرأس، خلف البعيد
فيتسع القبر

قلت: تمهل ولاتَمتِ الآن. إنَّ الحياةَ
علي الجسر ممكنة. والمجاز فسيح المدي
هاهنا بَرْزَخ بين دنيا وآخرةِ
بين منفى وأرض مجاورة…‏
قال لي، والصقور تحلق من فوقنا:‏
خذِ اسمي رفيقا وحدٌِثٌه عني
وعش أنت حتي يعود بك الجسر
حيٌا غدا
لاتقل: إنه مات، أو عاش
قرب الحياة سدي!‏
قل: أطلَّ علي نفسه من علي
ورأي نفسه ترتديِ شجرا، واكتفي
بالتحيَّة:‏

إن كان هذا الطريق طويلا
فلي عَمَل في الأساطير

كنت وحيدا علي الجسر، في ذلك ‏
اليوم، بعد اعتكاف المسيح علي
جبل في ضواحي أريحا.. وقبل القيامة.‏
أمشي ولا أستطيع الدخول ولا أستطيع
الخروج… أدور كزهرة عبَّاد شمسِ.‏
وفي الليل يوقظني صوت حارسة الليل
حين تغنٌي لصاحبها:‏

لاتَعِدْني بشيء
ولاتهدِني
وردة من أريحا!‏
VIIمنفى (3) ‏
كوشم يد ‏
في معلقة الشاعر الجاهليّ

أنا هوَ، يمشي أمامي وأتبعهُ
لا أقول له: ههنا، ههنا
كان شيء بسيط لنا:‏
حجرٌ أخضرٌ. شجرٌ. شارعٌ.‏
قمرٌ يافعٌ. واقعٌ لم يعد واقعاً.‏
هو يمشي أمامي
وأمشي على ظله تابعاً…‏
كلما أسرعَ ارتفعَ الظلُّ فوقَ التلال‏
وغطّى صنوبرةً في الجنوب ‏
وصفصافةً في الشمال،‏
ألم نفترق؟ قلتُ، قال: بلى.‏
لك مني رجوعُ الخيال إلى الواقعيّ‏
ولي منك تفاحة الجاذبيةِ
قلت: إلى أين تأخذني؟
قال: صوب البداية، حيث ولدتَ
هنا، أنت واسمك /‏

لو كان لي أن أعيد البداية لاخترتُ
‏ لاسمي حروفاً أقلَّ‏
حروفاً أخفَّ على أذن الأجنبية /‏

آذار شهر العواصف والشبق العاطفيّ.‏
يطلُّ الربيع كخاطرة ٍفي مسامرة اثنين
بين شتاء طويل وصيف طويل. ولا
أتذكر إلا المجاز، فما كدتُ أولدُ
حتى انتبهتُ إلى شبه واضح بين‏
عرفِ الحصان وبين ضفائر أمي‏
‏- دع الاستعارة، وامشِ الهوينى‏
على زغب الأرض – قال، فإن الغروب‏
يعيد الغريب إلى بئره، مثل أغنية
لا تُغنّى، وإن الغروب يهيِّجُ فينا‏
حنيناً إلى شغف غامض‏
‏- ربما … ربما. كل شيء يؤوَّلُ عند‏
الغروب. وقد توقظ الذكريات نداء ‏
شبيهاً بإيماءة الموت عند الغروب،‏
وإيقاع أغنية لا تغنّى إلى أحد

‏[ على شجر السرو
شرق العواطف،
غيمٌ مُذَهَّب ‏
وفي القلب سمراء كالكستناء
وشفافة الظل كالماء تُشربْ
تعال لنلعب
تعالي لنذهب
إلى أي كوكب ]‏

أنا هو، يمشي عليَّ، وأسأله:‏
هل تذكرتَ شيئاً هنا؟‏
خَفِّف الوطء عند التذكُّر،
فالأرض حبلى بنا.‏
قال: إني رأيتُ هنا قمراً ساطعاً‏
ناصح الحزن كالبرتقالة في الليل،
يرشدنا في البراري إلى طرق التيه…‏
لولاه، لم تلتقِ الأمهات بأطفالهنَّ
ولولاه، لم يقرأ السائرون على ‏
الليل أسماءهم فجاة: “لاجئين”‏
ضيوفاً على الريح / ‏

كان جناحي صغيراً على الريح عامئذٍ…‏
كنتُ أحسب أن المكان يعرَّفُ
بالأمهات ورائحة المريميَّة. لا أحدٌ
قال لي إن هذا المكان يسمّى بلاداً،
وإن وراء البلاد حدوداً، وأن وراء
الحدود مكاناً يسمَّى شتاتاً ومنفى‏
لنا. لم أكن بعدُ في حاجة للهويّة.‏
لكنهم… هؤلاء الذين يجيئوننا فوق
دبابة ينقلون المكان على الشاحنات
إلى جهة خاطفةْ

المكان هو العاطفةْ

تلك آثارنا، مثل وشمِ يدٍ في ‏
معلقة الشاعر الجاهليّ، تمر بنا ‏
ونمرُّ بها – قال من كنتهُ يوم لم ‏
أعرف المفرداتِ لأعرف أسماء أشجارنا…‏
وأسمي الطيورَ التي تتجمع فيَّ بأسمائها.‏
لم أكن أحفظ الكلمات لأحمي المكان
من الانتقال إلى اسمٍ غريب يسيِّجه ‏
الأكاليبتوس. واللافتات تقول لنا:‏
لم تكونوا هنا.‏

تهدأ العاصفة ‏
والمكان هو العاطفة
تلك آثارنا – قال من كنتهُ
ههنا يلتقي زمنان ويفترقان، فمن
انت في حضرة “الآن” ؟
قلتُ: أنا أنت لولا دخانُ المصانعِ
قال: ومن أنت في حضرة الأمس؟
قلتُ: أنا نحن لولا تطفُّلُ فعلِ
المضارعِ
قال: ومن أنت في حضرة الغد؟
قلت: قصيدة حب ستكتبها حين
تختار، أنت بنفسك أسطورة الحبِّ /

‏[ حنظية ٌكأغاني الحصاد القديمة
سمراءُ من لسعة الليل
بيضاءُ من فرط ما ضحك الماءُ
حين اقتربتِ من النبع…
عيناكِ لوزيتان
وجرحان من عسلٍ شفتاك
وساقاك برجان من مرمر
ويداك على كتفي طائران
ولي منك روح ترفرف
‏ حول المكان‏‎[‎‏

‏- دع الاستعارة، وامش معي. هل
ترى أثراً للفراشة في الضوء؟
قلتُ: أراك هناك أراك تمرُّ
كخاطرةٍ من خواطر أسلافنا
قال لي: هكذا تستعيد الفراشة ُ
أشغالها الشاعريةَ: أغنيةً لا
يدوِّنها الفلكيون إلا دليلا على ‏
صحة الأبديَّة /

أَمشي الهوينى على نفسي ويتبعني
ظلِّي وأتبعه، لا شيء يرجعني
لا شيء يرجعهُ
كأنني واحدٌ مني يودِّعني
مستعجلاً غدهُ: لا تنتظر أحداً
لا تنتظرني، ولكن لا أودِّعهُ

كأنهُ الشعرُ: فوق التلِّ تخدعني
سحابةٌ غزلت حولي هُويتها
وأورثتني مداراً لا أضيِّعهُ


للمكان روائحه،
للغروب تباريحه،
للغزالة صيادها،
للسلاحف درع الدفاع عن النفس،
للنمل مملكةٌ،
للطيور مواعيدُ،
للخيل أسماؤها،
للسنابل عيدٌ،
وأمَّا النشيد، نشيد الختام السعيد
فليس له شاعرٌ /

في الهزيع الأخير من العمر نُصغي
إلى أي صوت بدون اكتراث،
ويوقظنا وجعٌ في المفاصل من نومنا،
أو بعوضٌ يطنُّ كأستاذ فلسفةٍ…
في الهزيع الأخير، نحسُّ بآلام
ساقين مقطوعتين، كأن الشعور
تأخر. لم ننتبه حين كنا صغاراً
إلى جرحنا الداخليِّ، فقد كان
كالرسم بالزيت ناراً تؤجِّج ألوان
أعلامنا، وتهيّجُ ثور أناشيدنا.
في الهزيع الأخير من العمر لا
يبزغ الفجر إلا لأنَّ ملائكة ًطيبين
يؤدُّون واجبهم صاغرين…

أنا هو، حوذيُّ نفسي
ولا خيل تصهل في لغتي

قال نمشي ولو في الهزيع الأخير
من العمر، نمشي ولو خذلتنا الدروب.
نطير، كما يفعل المتصوف، في الكلمات…
نطير إلى أيِّ أين!

على تلة بارتفاع يدين سماويتين صعدنا.
مشينا على إبر الشَّوك والسنديان،
التحفنا بصوف النبات اليتيم، اتحدنا
بمعجم أسمائنا. هل تحس بوخز الحصى
وبمكر القطا؟ قال لي: لا أحسُّ
‏ بشيء، كأن الشعور رفاهيةٌ. وكأني
هنا صفة من صفات الغياب الكثيرة.
ليست حياتي معي… تركتني كما تترك
المرأةُ الرجل- الشبحَ، انتظرتني
وملَّت من الانتظار، ودلَّت سواي
على كنزها الأنثويِّ /

اذا كان لابدَّ من القمر
فليكن كاملاً كاملاً
لا كقرن ٍمن الموز/

قلت :ستحتاج وقتاً لتعرف نفسك
فاجلس ْعلى برزخ بين بين،
فلا كيف كيف ولا أين أ ين
على صخرتين سماويتين انتظرنا الغروب
الغزاله… عند الغروب يحسّ الغريب
بحاجته لعناق الغريب ،وعند الغروب
يحس الغريبان ان هنالك ، بينهما،
ثالثاً يتدخل في ما يقولان أو لا
يقولان…

قولا وداعاً لما كان
قولا وداعاً لما سيكون
وداعاً لقافيه النون
في اسم المثنّى
وفي بلد الأرجوان!

أقول له:من هو؟
يقول صدى من بعيد: هو الواقعيُّ
هنا. صوتُ أقدارنا هو . سائقُ
جرافةٍ عدَّلت عفويهَ هذا المكان،
وقصَّت جدائلَ زيتوننا لتناسب قصَّة
شعر الجنود ،وتفتح شِعباً لبغلِ
نبي قديم .هو الواقعيُّ مروِّضُ
أسطورة .ثالث الجالسين على صخرتين
سماويتين، ولكنه لا يرانا كما نحن:
شيخاً تأبط طفلا ً،وطفلاً تورط
في حكمة الشيخ /

قلنا:سلام على الإنسِ والجنّ
من حولنا
قال:؛لا افهم الاستعارة
قلنا:لماذا تغلغلت في ما نقول
وفي ما نحس؟
فقال :طريقة ظلكما في ارتداء الحصى
والقطا أفزعتني
سألناه: ممَّ تخاف؟
فقال: من الظلّ… للظل رائحة الثوم
حيناً ورائحةُ الدم حيناً
سألناه: من أين جئت؟
فقال :من اللامكان، فكلُّ مكان
بعيد عن الله أو أرضه هو منفى.
ومن أنتما؟
فقلنا له: نحن أحفاد روح المكان.
ولدنا هنا.. وهنا سوف نحيا إذا
بقى الربُّ حياً.. وكلُّ مكانٍ بعيدٍ
عن الله أو أرضه هو منفى
فقال: طريقة ظلكما في ارتداء المكان
تثير الشكوك
سألناه :فيم تشكّ؟
فقال:بظلٍّ ينازع ظلاً
فقلنا له: ألانَّ المسافة ما بين أمس
وحاضرنا لم تزل خصبهً لثلاثيهِ الوقت؟
قال: قتلكما أمس
قلنا عفا الموت عنا
فصاح: أنا حارس الأبديه
قولا: وداعاً لما سيكون
وما كان
قولا وداعاً لرائحة الثوم
والدم في ظل هذا المكان

ألشيء معنىً هنا ، والشيء يصنعني
ذاتا ًتعيد الى المعنى ملامحه
فكيف أولد من شىء … وأصنعهُ
أمتدُّ في الشجر العالي فيرفعني
إلى السماء ،وأعلو طائراً حذراً
لا شىء يخدعه ،لا شيء يصرعهُ

في كلِّ شيء أرى روحي ويوجعني
ما لا أحسّ به،او لا يحسُّ
بروحي حين توجعهُ

أنا وأنا لا نصدِّق هذا الطريق الترابيَّ ،
لكننا سائران على أثر النمل ‏‎]‎‏ إن القيافة خارطة الحدس‎[‎‏ لا الشمس
غابت تماماً،ولا القمر البرتقاليُّ ضاء

أنا وأنا لا نصدق أنَّ البدايه
تنتظر العائدين إليها ،كأم على
‏ درج البيت. لكننا سائران ولو
خذلتنا السماء
أنا وأنا لا نصدِّق ان الحكايه
عادت بنا شاهدين على ما فعلنا:
نسيتك مثل قميصي المبقَّع بالتوت
حين ركضت ألى غابه وندمت..
وأمَّا أنا فنسيتك حين احتفظت
بريشهِ عنقاء َلي… وندمت

‏-ألا نتصالحُ؟ قلتُ
فقال تريَّث . هناك على بعد مترين
مدرستي ،فتعال نخلِّص حروف الهجاء
من العنكبوت ،ونترك له أحرف العله
الباكيات!
تذكرتها:حائطان قديمان من دون
‏ سقف كحرفين من لغة شوَّهتها الرمالُ
وهزة أرض ٍسدوميهٌ. بقرات ٌسمانٌ
تنام على الأبجديه . كلبٌ يحرُّك ذيل
الرضا والفكاهة .ليلٌ صغيرٌ يرتب
أشياءه لنشاط الثعالب/
قال:الحياه تواصل روتينها بعدنا.
يا لها ! يالها من إباحيه ٍلا تفكر إلا
‏ بإشباع شهوتها
قلت:هل نتصالح كي نتقاسم هذا
الغياب. فنحن هنا وحدنا في القصيدة؟
قال: تريَّث. هناك على حافه التلِّ،
من جهة الشرق، مقبرهُ الأهل. فلنمضِ
قبل هبوط الظلام على المتين
سلامٌ على النائمين
سلامٌ على الحالمين
ببستان فردوسهم آمنين
سلام على الصاعدين خفافاً
على سلَّم الله/

في حضره الموت لا نتشبَّث إلا
بصحَّة أسمائنا…

عبثٌ ماجنٌ. لم نجد حجراً واحداً
يحمل اسم الضحيه ،لا اسمي ولا
اسمك/
‏-من مات منا،سألت أنا أم
أنا؟
قال:لا أعرف الآن
قلت:ألا نتصالح؟
قال:تريث!
فقلت :أتلك هي العودة المشتهاة؟
فقال:وملهاة إحدى إلهاتنا العابثات،
فهل أعجبتك الزياره؟
فقلت:أتلك نهايه منفاك
قال:وتلك بدايه منفاك
قلت: وما الفرق؟
قال: دهاءُ البلاغةِ
قلت :البلاغة ليست ضروريه للخسارةِ
قال : بلى ،فالبلاغة تقنع أرمله ً
بالزواج من السائح الاجنبيِّ، وتحمي
ورود الحديقة من عبثِ الريح
قلت :ألا نتصالح ُ؟
قال:إذا وقَّع الحيُّ والميت، في
جسد واحد،هدنهً
قلت:هذا أنا الميت والحيّ
قال:نسيتك ،من أنت؟
قلت:أنا نسخة عن” أنا ” ك التي انتبهت لكلام
الفراشه لي: يا أخي في الهشاشه…
قال :ولكنها احترقت
قلت:لا تحترق مثلها

والتفتُّ إليه،فلم أره ،فصرخت
بكلِّ قواي:انتظرني! وخذ كل شيء
سوى الاسم /
لم ينتظرني ،وطار .. وأدركني الليل
فاستدرجت صرختي شبحاً عابرًا
قلت :من أنت؟
قال:السلام عليك،قلت :عليك السلام
فمن أنت؟

قال :أنا سائح أجنبي أحب أساطيركم
وأحب الزواج بأرملةٍ من بنات عناة!

VIIIمنفى (4)‏
طباق
‎]‎إلى إدوارد سعيد‎[‎
نيويورك/ نوفمبر/ الشارعُ الْخَامسُ/‏
الشمسُ صَحنٌ من المعدنِ المتطايرِ/‏
قلتُ لنفسي الغريبةَ في الظلِّ:‏
هل هذه بَابلُ، أم سدوم؟

هناكَ، على بابِ هاويةٍ كهربائيةٍ‏
بعلوِّ السماء، التقيتُ بإدواردَ
قبلَ ثلاثينَ عاماً،
وَكانَ الزَّمانُ أقلَّ جموحاً منَ الآن
قالَ كِلانَا:‏
إذا كانَ مَاضيكَ تجربةً
فاجعلِ الغَدَ مَعنىً وَرُؤيا!‏
لنذهبْ،
لنذهبْ إلى غَدِنَا واثقين
بصدقِ الخيالِ، ومُعجزةِ العشبِ /‏

لا أتذكَّرُ أنّا ذهبنا إلى السينما‏
في المساء. ولكنْ سمعتُ هنوداً‏
قُدَامَى يُنادُونَنِي:‏
لا تَثِقْ بالحصانِ ولا بالْحَدَاثَةِ /‏

لا، لا ضَحيَّة تسألُ جَلاَّدَها:‏
هل أنا أنت؟ لو كان سيفيَ
أكبرَ من وَردَتِي، هل ستسألُ
إن كُنتُ أفعلُ مِثلَكْ؟
سؤالٌ كهذا يُثيرُ فُضولَ الرِّوَائِيِّ
فِي مَكتبٍ مِنْ زُجَاجٍ يُطِلُّ على
زنبقٍ في الحديقةِ… حيثُ تكونُ
يدُ الفَرَضِيَّةِ بيضَاءَ مثلَ ضَميرِ
الرِّوَائِيِّ حينَ يُصَفِّي الحسابَ
مَعَ النَّزعَةِ الْبَشَرِيَّةِ: لا غَدَ
فِي الأمس، فَلنتقدَّمْ إذاً !‏

قَد يَكُونُ التَّقَدُّمُ جسرُ الرُّجوعِ
إلى الْبَرْبَرِيَّة… /‏

نيويورك. إدوارد يَصحُو عَلى كَسَلِ
الْفَجرِ. يَعزِفُ لَحنَاً لموتسارت. يَركُضُ
فِي مَلعَبِ التنسِ الْجَامِعِيِّ. يُفَكِّرُ في
هِجرَةِ الطيرِ عَبرَ الْحُدُود وفوقَ الْحَوَاجِزْ.‏
يَقرأ “نيويورك تايمز”. يَكتُبُ تَعلِيقَهُ
الْمُتَوتِّرَ. يَلعنُ مُستَشرِقَاً يُرشدُ الجنرالَ
إلى نُقطَةِ الضعفِ في قَلبِ شَرقِيّة.‏
يستحمُّ. ويَختَارُ بدلَتَهُ بَأناقَةِ دِيكٍ.‏
وَيشربُ قَهوتَهُ بالْحَليبِ. ويصرُخُ
بالفجرِ: هَيَّا، ولا تَتَلَكَّأ /‏

عَلى الريحِ يَمشي. وفي الريحِ
يعرفُ مَن هُوَ. لا سقفَ للريحِ.‏
لا بيتَ للريحِ. والريحُ بوصلةٌ
لشَمالِ الغريب.‏

يقولُ: أنا من هُناكَ. أنا من هُنا
ولستُ هُناكَ، ولستُ هنا
لِيَ اسمانِ يلتقيانِ ويفترقانِ
ولي لُغتانِ، نسيتُ بأيِّهما
كُنتُ أحلمُ،
لِي لُغةٌ إنجليزيةٌ للكتابةِ،
طَيِّعَةُ المفردات،
وَلي لُغةٌ من حِوارِ السماءِ معَ
القدسِ، فِضيَّةُ النبرِ، لَكنها
لا تُطيعُ مُخيلتي !‏

والْهُوِيَّةُ؟ قلتُ
فقالَ: دفاعٌ عن الذاتِ…‏
إنَّ الْهُويَّةَ بنتُ الولادةِ، لكنها
في النهايةِ إبداعُ صاحِبها، لا
ورَاثةَ ماضٍ. أنا الْمُتَعَدِّدُ. في
داخلي خَارِجي الْمُتجدِّدُ.. لكنني
أنتمي لسؤالِ الضحيَّةِ. لو لم
أكن من هُناكَ لَدَرَّبتُ قلبي
على أن يُربي هناكَ غزال الكِنايَةِ.‏
فاحملْ بلادكَ أنَّى ذهبتَ…‏
وُكن نَرجسياً إذا لَزمَ الأمرُ /‏

‏- مَنفىً هوَ العالمُ الخارجيُّ‏
ومَنفىً هوَ العالمُ داخليُّ
فمَنْ أنتَ بينهما؟
‏- لا أُعَرِّفُ نفسي تماماً
لئلاَّ أضيِّعها. وأنا ما أنا
وأنا آخري في ثُنائيةٍ
تتناغمُ بينَ الكلامِ وبينَ الإشارةْ.‏
ولو كنتُ أكتبُ شعراً لقلتُ:‏

أنا اثنانِ في واحدٍ
كَجناحي سُنونوةٍ،
إن تأخرَ فصلُ الربيعِ
اكتفيتُ بحملِ البشارةْ

يُحبُّ بلاداً، ويَرحلُ عنها
‏( هل المستحيلُ بعيدٌ؟)‏
يُحبُّ الرحيلَ إلى أيِّ شئٍ
ففي السفرِ الحرِّ بينَ الثقافاتِ
قد يجدُ الباحثونَ عن الجوهرِ البشريِّ
مقاعدَ كافيةً للجميع.‏
هُنا هامشٌ يتقدَّمُ. أو مَركزٌ يتراجعُ
لا الشرقُ شرقٌ تماماً
ولا الغربُ غربٌ تماماً
لأنَّ الهويَّةَ مفتوحةً للتعدُّدِ
لا قلعةً أو خنادق /‏

كانَ المجازُ ينامُ على ضفةِ النهرِ،
لولا التَلَوُّثُ،
لاحتضنَ الضفَّةَ الثانيةْ
‏- هل كتبتَ الروايةَ؟‏
‏- حاولتُ… حاولتُ أن أستعيدَ بها
صورتي في مرايا النساءِ البعيدات،
لكنهنَّ توغلنَ في ليلهِنَّ الحصين
وقلنَ: لنا عالمٌ مُستقِلٌّ عن النصِّ
لن يكتبَ الرجلُ المرأةَ اللغزَ والْحُلمَ
لن تكتبَ المرأةُ الرجلَ الرمزَ والنجمَ
لا حُبَّ يُشبهُ حباً
ولا ليلَ يُشبهُ ليلاً
دعونا نُعدِّدْ صفاتَ الرجالِ ونضحكْ!‏

‏- وماذا فعلتَ؟‏
‏- ضحكتُ على عبثي‏
‏/ المُفَكِّرُ يكبحُ سردَ الروائيِّ
والفيلسوفُ يُشَرِّحُ وَردَ المُغَنِّي /‏

يُحبُّ بلاداً ويرحلُ عنها:‏
أنا ما أكونُ وما سأكونُ
سأصنعُ نفسي بنفسي
وأختارُ منفايَ
منفايَ خلفيةُ المشهدِ الملحميِّ
أدافعُ عن حاجةِ الشعراءِ
إلى الغدِ والذكرياتِ معاً
وأدافعُ عن شجرٍ ترتديهِ الطيورُ
بلاداً ومنفى
وعن قمرٍ لم يزلْ صالحاً لقصيدةِ حُبٍّ
أدافعُ عن فكرةٍ كسرتها هشاشةُ أصحابها‏
وأدافعُ عن بلدٍ خطفته الأساطيرُ /‏

‏- هل تستطيعُ الرجوعَ إلى أيِّ شئٍ؟‏
‏- أمامي يَجرُّ ورائي ويُسرعُ…‏
لا وقتَ في ساعتي لأخطَّ سطوراً
على الرملِ. لكنني أستطيعُ زيارةَ أمسِ،
كما يفعلُ الغرباءُ،
إذا استمعوا في المساءِ
إلى الشاعرِ الرعويِّ:‏

‏( فتاةٌ على النبعِ تملأ جرَّتها
بحليبِ السحابْ
وتبكي وتضحكُ من نخلةٍ
لسعت قلبها في مهبِّ الغيابْ
هل الحبُّ ما يُوجعُ الماءَ
أم مَرضٌ في الضبابْ.. ؟
إلى آخرِ الأغنية )‏

‏- إذن قد يُصيبكَ داءُ الحنين؟‏
‏- حنينٌ إلى الغدِ.. أبعد أعلى
وأبعد. حُلمي يقودُ خُطايَ. ورؤيايَ
تُجلسُ حُلمي على ركبتيَّ كقطٍّ أليف.‏
هوَ الواقعيُّ الخياليُّ وابن الإرداةِ:‏

في وُسعنا
أن نُغَيِّرَ
حتميةَ الهاويةْ !‏

‏- والحنينُ إلى أمسِ؟‏
‏- عاطفةٌ لا تخصُّ المفكِّرَ إلا‏
ليفهمَ توقَ الغريبِ إلى أدواتِ الغيابْ
وأمَّا أنا فحنيني صَراعٌ على حاضرٍ
يُمسكُ الغدَ من خصيتيه

‏- ألم تتسلَّلْ إلى أمسِ، حينَ ذهبتَ‏
إلى البيتِ، بيتكَ، في حارةِ الطالبيَّة؟
‏- هَيَّأتُ نفسي لأن أتمدَّدَ في‏
تختِ أمي، كما يفعلُ الطفلُ حينَ يخافُ
أباه. وحاولتُ أن أستعيدَ ولادةَ
نفسي، وأن أتتبَّعَ دربَ الحليبِ
على سطحِ بيتي القديم، وحاولتُ أن‏
أتحسَّسَ جلدَ الغيابِ ورائحةَ الصيفِ
من ياسمينِ الحديقة. لكنَّ وحشَ الحقيقةِ
أبعدني عن حنينٍ تلفَّتَ كاللصِ خلفي
‏- وهل خفتَ؟ ماذا أخافكَ؟‏
‏- لا أستطيعُ لقاءَ الخسارةِ وجهاً‏
لوجه. وقفتُ على البابِ كالمتسوِّلِ.‏
هل أطلبُ الإذنَ من غرباءَ ينامونَ فوقَ
سريري أنا.. بزيارةِ نفسي لخمسِ دقائق؟
هل أنحني باحترامٍ لسُكَّانِ حُلمي الطفوليِّ؟
هل يسألونَ: من الزائرُ الأجنبيُّ
الفضوليُّ؟ هل أستطيعُ الكلامَ عن
السلمِ والحربِ بينَ الضحايا وبينَ ضحايا
الضحايا، بلا جُملةٍ اعتراضيَّةٍ؟ هل
يقولونَ لي: لا مكانَ لحُلمينِ في‏
مَخْدَعٍ واحدٍ؟

‏( لا أنا، أو هُوَ
ولكنه قارئٌ يتساءلُ عَمَّا
يقولُ لنا الشعرُ في زمنِ الكَارِثَةْ )‏

دمٌ،
ودَمٌ،
ودَمٌ
في بلادك،

في اسمي وفي اسمكَ، في زهرةِ
اللوزِ، في قشرةِ الموزِ، في لبنِ
الطفلِ، في الضوءِ والظلِّ، في
حبَّةِ القمحِ، في عُلبةِ الملحِ /‏
قَنَّاصةٌ بارعونَ يُصيبونَ أهدافهم
بامتيازٍ
دَماً،
ودَماً،
ودَماً..‏
هذه الأرضُ أصغرُ من دمِ أبنائها
الواقفينَ على عتباتِ القيامةِ مثلَ
القرابين. هل هذه الأرضُ حقاً
مُباركةٌ أم مُعَمَّدةٌ
بدمٍ،
ودَمٍ،
ودَمٍ
لا تُجفِّفه الصلواتُ ولا الرمل.‏
لا عدلَ في صفحاتِ الكتابِ المقدسِ
يكفي لكي يفرحَ الشهداءُ بحريةِ
المشي فوقَ الغمام. دمٌ في النهارِ.‏
دمٌ في الظلامِ. دمٌ في الكلامْ.‏

يقول: القصيدةُ قد تستضيفُ الخسارة
خيطاً من الضوءِ يلمعُ في قلبِ جيتارة.‏
أو مسيحاً على فرسٍ مثخناً بالمجازِ
الجميل. فليسَ الجماليُّ إلا حضورَ‏
الحقيقيِّ في الشكل /‏

في عالمٍ لا سماءَ له، تصبحُ الأرضُ
هاويةً. والقصيدةُ إحدى هباتِ العزاءِ
وإحدى صفاتِ الرياح، شماليةً أو جنوبيةً.‏
لا تصف ما ترى الكاميرا من جُروحك.‏
واصرخ لتسمعَ نفسكَ، واصرخ لتعلمَ
أنكَ ما زلتَ حياً وحيَّا، وأنَّ الحياةَ
على هذه الأرضُ ممكنةٌ. فاخترع أملاً
للكلامِ، ابتكر جهةً أو سراباً
يُطيلُ الرجاء،
وغَنِّ، فإنَّ الجماليَّ حريةٌ /‏
أقولُ: الحياةُ التي لا تُعَرَّفُ إلا
بضدِّ الموتِ… ليست حياة

يقولُ: سنحيا، ولو تركتنا الحياةُ
إلى شأننا. فلنكن سادة الكلماتِ
التي سوفَ تجعلُ قُرَّاءها خالدين –‏
على حدِّ تعبيرِ صاحبكَ الفذ ريتسوس /‏

وقالَ: إذا مِتُّ قبلكَ
أوصيكَ بالمستحيلْ !‏
سألتُ: هل المستحيلُ بعيدٌ؟
فقالَ: على بُعدِ جيلْ
سألتُ: وإن مِتُّ قبلكَ؟
قالَ: أعزِّي جبالَ الجليلْ

واكتب: ” ليسَ الجماليُّ إلا بلوغَ
الملائمِ”. والآنَ، لا تنسَ:‏
إن متُّ قبلكَ أوصيكَ بالمستحيلْ

عندما زُرته في سدومَ الجديدةِ،
في عامِ ألفينِ واثنين، كانَ
يُقاومُ حربَ سدُومَ على أهلِ بابلَ
والسرطانِ معاً،
كانَ كالبطلِ الملحميِّ الأخيرِ
يُدافعُ عن حقِّ طروادةٍ
في اقتسامِ الرواية /‏

نسرٌ يودِّعُ قمَّتَهُ عالياً
عالياً،
فالإقامةُ فوقَ الأولمب
وفوقَ القِمَمْ
قد تُثيرُ السَّأمْ

وَدَاعَاً،
وَدَاعاً لشعرِ الأَلَمْ!‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى