تقديم: عبد القادر الجنابي
ترجمة: سحبان أحمد مروة
“إنّ أكثر الناس تسامحاً لن ينفي حقّ العدالة في قمع الذين يجرؤون على نشر الإلحاد، وأن ينفي حقها حتى في إعدامهم إن لم تتمكن بطريقة أخرى من تخليص المجتمع منهم. إذا كان بإمكان هذه العدالة أن تعاقب من يسيء إلى شخص واحد، فلديها دون شكّ الحق نفسه في معاقبة الذين يسيئون إلى مجتمع بأكمله برفضهم أن ثمّ إله… شخص من هذا النوع يمكن النظر إليه عدوّاً لمجمل الآخرين”
يعطي هذا المقطع الذي كان ديدرو ودالمبير بين موقّعيه فكرةً عمّا كان عليه القرن الثامن عشر، بالرغم من ادعائه التنويري وأفكاره الليبرالية من تزمت في الآراء وتصلب في المعتقدات حتى لدى فلاسفته الأكثر إدعاءً برفض الدين.
ماركيز دو ساد، نموذج الإباحية الشاملة والإلحاد الذي لا رجوع عنه، هو ابن هذا القرن؛ قرن التنوير المتواطئ.
عتّم على أدبه لمدّة قرنين، كان عليه أن ينتظر ظهور السوريالية حتى يزاح عنه الستار فها هي أعماله تذهل أندريه بروتون وغيّوم ابولينير الذي عرّف دو ساد بأنه “أكثر العقول حريّةً على الإطلاق”. على أن الروح الحرّة هذه قضت معظم حياتها في السجن الذي دخلته لأول مرة عام 1763 لتمضي في ظلماته سبعاً وعشرين سنة من الحبس المتقطع، موزّعة على ثلاث أنظمة سياسية واحدى عشر سجناً، انتهت في مصحّ عقلي عند موت الماركيز عام 1814. عالم دو ساد، عالم السجن الذي فضل البقاء فيه على أن يتخلى عن أفكاره ورؤاه. إنه عالم مغلق وصفه بروتون بالحافز الآخر، عند ساد، لفائض الخيال، بعد الحافز الأول؛ العبقرية.
“حوار بين كاهن ومحتضر” نص لم يكتبه دو ساد على شكل مسرح، لكنّه أقرب ما يكون من المسرح. وبالفعل فالكتابة المسرحية عند دو ساد تبرز في نحوها الأمثل عندما لا يكتب المسرح. أتمّ دو ساد هذا النص الفلسفي في تموز (يوليو) 1782 خلال سجنه في فينسين. ولم يظهر له أثر إلا بعد قرن من تاريخه حيث بيع مرات عديدة ووصل أخيراً إلى يد السوريالي موريس هاينه الذي نشره للمرة الأولى عام 1926. وهو يجسد تكثيفاً لفلسفة دو ساد بأسلوبه الشامل الموجه، ويوضح موقف “السادية” إزاء الإجرام والتخريب اللذين تعتبرهما مساهمين ضروريين لتحقيق “الطبيعة” بالاضافة إلى قوى الخلق ويوضح النص ارتباط هذه القيم “السادية” المباشر بالالحاد وبنوع هذا الأخير منها. ويتضح فيه الفرق في نقد الدين ما بين دو ساد ونقّاد عصره وذلك في نفيه الجذري لوجود الله ورفضه “لطيبة الطبيعة”: فها هو يسأل وكأنه ضمير الحياة الفعلية: «أنت يا مَن خلقت، فيما يُزعم، كلّ ما هو موجودٌ في هذا الكون؛ أنت يا مَن أجهلُ عنه كلَّ شيء؛ أنت يا مَن لا أعرفه إلاّ بالخبر وبما قاله لي عنك ناسٌ يخطئون كلّ يوم؛ أيّها الكائن العجيب الغريب الذي يسمّي الله، أُعلن بصريح العبارة وعلى رؤوس الأشهاد أنّ ليس لي فيك أدنى اعتقاد لسببٍ لا يضاهيه سببٌ هو أنّي لا أجد ما يقنعني بوجود مُحالٍ لا يبين عنه أيُّ شيء في الدنيا». وربّ سائل يسأل ما القيمة من شتم الله بعد تيقننا من عدم وجوده؟ «إن عبارات التجديف، يجيب دو ساد، ضرورة جوهرية تمدّ يد العون للمخيلة؛ هذه القوّة التي يُشك بها إلى أبعد الحدود الدعاة والاقتصاديون والاديولجيون وكلّ من يسعى إلى عرقلة النشاط الحرّ للفكر والمشاعر الجنسية. المخيلة هي التي تكشف لنا عن حدود الامكانيات وتغذي الرغبات بالأمل في اشباعها. إنّ سعادة الانسان كلّها تكمن في مخيلته ولا يمكنه تهنئة نفسه ما لم يلبّ سائر نزواتها. والتجديف هو الأداة الأولى»