الطُحلب “ال” طُحلبٌ غنيٌّ عن التعريف , يحب الأكسجين لذا يتنفس الكثير منه , انبثق من امه الطبيعة على حافة نهر النيل , خرج من بطن الصخرة ليبحث عن شىء ما لا يدري ما هو بعد , يعرف “ال” كيف يعوم في النهر ويتذوق العذوبة , يعرف ايضاً كيف يتعايش مع الجفاف الكليّ في شهور وسنوات وألفيات الجفاف , عمره طويل مثل صبره وطعمه عشبيٌّ ومالحٌ للغاية , عندما لاحظ زيادة اللون الأخضر القادم من انابيب صرف مصنع قريب من مسكنه الآمن أخذ يفكر “لمَ لا اتبع ذلك اللون , إنه يشبهني كثيراً حتى ولو لم يكن يتحدث معي او يعرفي , حتى ولو لم يجىء ليسهر معي في الليالي القمرية فهو لازال يحب الماء والهواء مثلي” , هكذا اخذ يفكر “ال” كل يوم ولكنه لم يتحرك من مكانه غير عندما بدأت جرافات البلديّة بمهامها في نقل الصخور من ضاحية لضاحية كما جرت العادة , قرر الطحلب “ال” الشجاع اخيراً الذهاب إلى الأنابيب العملاقة اللامعة التي تطرد الكيماويات خضراء اللون للخارج .
“ال” كائن برمائي منطقي , على الفور تعرف بذكائه الخارق ان الكيمياء الحية تختلف بالكلية عن الكيمياء غير الحية , قرر هنا تتبع مسار هذه الكيماويات الغامضة إلى منبعها , اخذ يغطس تحت الموج الهادىء ويصعد برأسه مغازلاً الرياح والطيور المشردة الفقيرة والصيادين الذين لا يكترثون له (حيث انهم لا يمكنهم حتى التعرف على ماهيته ولو رأوه) حتى دخل للمصنع عبر انبوب الصرف.
أخذ “ال” يتفرس وجوه العاملين بالمصنع , هذا عامل متعب , وهذا موظف متعب اقل قليلا , اما هذا المدير الذي يعلو وجهه تكشيرة كوزمولوجية لا يبدو ودوداً مثل الآخرين , قرر ان يغمض “ال” عينيه ويقفز في اول زجاجة مياه يقابلها , الحظ يبدو له هو الحاكم الفعليّ للحياة لذا فينبغي له ان يمتلىء بالتفاؤل ويكون مقداماً كما اعتاد الترديد لنفسه دائماً.
وصل “ال” لمنزل ما , كان امراً جيداً عندما اثار فزع زوجة ذلك الموظف “امين” عندما رأته وافرغت محتويات زجاجة المياه في حوض المطبخ , دائماً الأمهات والزوجات هكذا متوترات وعنيفات من دون سبب لذا فهو يحب عندما يثير هلع إحداهن من وقت لآخر , الهلع سيد وقت اللعب وسيد وقت الجدية ,او هكذا تعلم على الأقل منذ كان صغيراً.
“أمين” هو موظف ليس بالماهر وليس ايضاً بالفاشل , حاز على جائزة الموظف المثالىّ حوالي 3 مرات طوال فترة عمله بالمصنع التي تستمر منذ ثلاثين عاماً متصلة , تنهد عندما ضاعت زجاجة المياه المعدنية في الحوض وقال “يا خسارة” ثم انهمك في شرب تعميرة شاى مع شطيرة جبن أبيض امام مباريات كرة قدم لباقي اليوم , كان هناك كائنين آخرين في المنزل غيرهما يبدو انهما في سن المراهقة او ما شابه.
“ال” لا يحب المطابخ كثيراً , يرى فيهما إنهاكاً ما للروح كأن يسكنهما شبح او شىء مثل هذا , اخذ “ال” يزحف ويُحلِّق ويتشقلب ويسير ويركض ويعوم حتى وصل لبالوعة البانيو , هذا هو المكان المثاليّ له , يمكنه مراقبة كل محيطه جيداً كما يمكنه الاستمتاع بالإستحمام مع كل من يستحم, في احد المساءات الرومانتيكية صاح فجأة “ال” : “اللعنة !!! ما هذا السائل الأبييض اللزج الذي ينزلق ناحيتي” ولكنه لا يلبث إلا ان يحمد الرب فقد كان ذلك فقط بعضاً من الشامبو .
“ال” لم يعتبر ابداً اي غرابة طوال حياته , إعتاد التأقلم مع كل شىء , يشعر دائماً انه الإبن المفضل للطبيعة والمُسيطر عليها , بدأ معها وسيرثها كلها في نهاية الأمر وحتى يحين ذلك فليستمتع ببخار الماء الدافىء وبعضاً من النكات البذيئة ودخان السجائر والإنتظار الصبور للتغيير الحتميّ الذي يأتي عادة بشكل عفويّ لا يحتاج اي تدخل منه , شقة “امين” وعائلته تقع في الدور السادس على اليمين , لذا يتطلب وصول المياء للصنابير موتوراً كهربياً , ولكثرة استعمال ازرار الفتح والغلق من افراد العائلة اضطر “امين” لان يأتي بحارس العقار (الذي يتقن اعمالاً متعددة) ليجعل الموتور يدور بشكل اوتوماتيكي كلما فتح احدهم صنبوراً , مع الوقت صار يعلق في بعض الأحيان وخاصة في الليل ويصدح صوتاً اوتوماتيكياً عميقاً وبعيداً في بئر السلم يصل لمسامع “ال” رخيماً متضخماً تعلوه الأهمية ومن خلال هذا الميكانيزم الذي تطور مصادفة بحتة صار “ال” يعرف كيف يفرق بين الواقع والخيال وبخاصة اثناء الليل والكوابيس التي تنتابه فيه احياناً.
يوماً ما في صيف حار اتت وحدة تدخل سريع من الصراصير عبر بالوعة حوض غسيل الأيدي التي نساها احدهم مفتوحة لسبب غير مفهوم, اخذوا ينظرون يميناً ويساراً قبل ان ينظروا ناحية “ال” الذي كان يغط في نومه داخل بالوعة حوض الإستحمام , يحرك احد تلك الصراصير شاربيه الطويلين الكثيّن الذين اطالهما كأنها إحدى موضات القرن التاسع عشر او ما شابه (ويبدو عليه آثار الفلسفة والوقار والضخامة قليلاً بالمقارنة بزملائه) تلتمع عيناه الخضراوتان وتبدوان في الظلام كشعلة ضئيلة الحجم لا تُرى بالعين المجردة ثم يهمس قائلاً “ارأيتم؟ اخبرتكم ان إتباع حمية غذائية نباتية هي افضل ما يُمكن إتباعه , لن نجوع ابداً بعد اليوم”
173 3 دقائق