أعطه رجلاً وبعضَ الوقتِ فيجعلَ منه جثة،
ثم يرميه على ضفافه
ينفخه بالهواء ثم يرميه
وهو يبقى
وضعت المقاعد حوله لنتمكن من الجلوس
كان المتعبون يأتون بالقرب منه ليدخنوا الغلايين الطويلة
وبُني قصر قبالته
كان المستوحدون والأيتام والعاطلون عن العمل بإرادتهم يقتربون منه وهو لا يفعل شيئاً،
والحزانى يبوحون له بأحزانهم، بعضهم يقول، لو أني غرقت لو كنت جثة، لكنت ربما أكثر سعادة، ويفكرون.
وآخرون كانوا يرمونه بكتل من التراب ليلونوا سطحه.
كان يجعل الأوراق الساقطة تتعفن شيئاً فشيئاً.
لكنه لا يلح في طلب الأوراق التي لا تزال على الشجرة
لم يكن ذا فائدة تذكر بسبب بعده، وتمنوا لو يقربوه من القرية
ولكن من صاحب العربة الذي سيتكفل بالأمر؟
واستمر في بقائه
كان هنا، ولم يذهب لأي إنسان، ولم يحاول إطلاقاً أن يعدو، أو ينفخ، اص، اص.. مثل ماء النهر الذي يتقدم فوق الحصى، ولا يبحث عن أسماك غير التي فيه.
والتعساء الذين ألقوا بأنفسهم فيه يندمون في اللحظة نفسها، ويرتفعون بواسطة الفكر للمرة الأخيرة فوق المياه، ويصلون إلى منازلهم ويجلسون فوق كراسيهم.. زرعت بسببه الصلبان الترابية، خمسة عشر صليبا.
وهو باق
حاول حلزون منذ ولادته أن يدور حوله. وها هو في سن البلوغ يتم دورته مع أفراد عائلته.
وعند احتضاره أورثهم رغبته تلك، لكنهم كانوا ينظرون إلى ورقة خضراء يانعة وهو باق.
تتغذى النباتات منه على هواها منذ ألفي عام بنوع معين من الحشرات التي تركض فوقه.
أبا عن جد دون أن تبتل قوائمها.
يتأمل الطفل المستنقع، يدخل إصبعه في أنفه ويفكر
يحلم بأن المستنقع سوف ينهض، ويرى المستنقع وهو ينهض، ينهض المستنقع ويقول:
“أنا لم أعد ميتا”، ويمضي المستنقع تاركاً حفرته شاسعة وعميقة.
ويمضي على الطرقات، منحنياً مثل رجل ضخم الجثة، وشامخ مثل كاتدرائية، وشفاف على الرغم من بعض النمل الأسود أو البني الذي يلطخه بين حين وآخر ويمضي مجمعاً حوله قطراته التي قطعتها الحجارة الصغيرة، يمضي وهو يصدر ضجة الخرير..
إنه مجرد حلم.
المستنقع هنا في حفرته باق.
في النهار يغدو فم المستنقع على مستوى الأرض بسبب لمعانه.
لكن في المساء.. ذات مساء كان راكب دراجة يتوجه مسرعاً نحو بيته، حيث تنتظره عاداته، فوقع الرجل في فم المستنقع الذي تبلغ مساحته حجم ساحة كبيرة. وفي الغد عثر على السائق ودراجته، لكنهما كانا قد سقطا عميقاً جداً، وما عاد الرجل يحيا حياة إنسان. ولم تعد الدراجة تحيا حياة الدراجات.
وهو باق.
إنه لا يشعر بالمركب، ولا يتعرف على قبطانه من بين كل الرجال،
لأنه يفقد الذكريات، لأن الريح تبعدها سريعا
ولا شك أيضاً أنه يجهل آكلي المستنقعات، الشمس التي تكتشفه ثم تقلصه، الضفدع الذي يأخذ معه فوق جلده قطرات الماء حين يقفز إلى الأرض الصلبة.
لا شك أنه لا يأبه للعصفور الذي حط على صحن أخضر من ورق النيلوفر وبدأ يشربه بجرعات صغيرة، ولا يأبه كذلك للغيم أو لماء المطر الذي يغذيه.
ولا يعبر نفسه بانتباه محاولاً إحصاء أسماك الشبوط أو الغجوم الموجودة فيه.
حتما ليست له روح
أنا والطفل فقط أعطيناه روحا، وهو يجهل هذا الأمر ولا يستفيد منه.
أعطيناه روحا ليغدو جميلا: لقد غدا المستنقع الذي أعرفه جميلا مذ أعطيته روحا ونوايا.
يسعى بكل ثقله إلى الأعماق، ينتظر أن تتعمق حفرته في الليل، بالقرب من مركز جاذبيته المستنقعات جميعاً.
كان يجلس في حفرة وينتظر
يرمونه بالحجارة فيبتلعها
ويبقى كما الليل والنهار
أطول من حياة جاموس
أطول من حياة أرزة
أطول من المزامير التي تنشدها أشجار الأرز المقطوعة
ينتظر دائماً ويتقلص، حتى يغدو في النهاية ظلاً لنفسه.
هنري ميشو (1899-1984)
ترجمة: د. ميساء السيوفي
من ديوان: ( عن بُعد ) صدرَ عام 1997