بعد كتابه المدهش الشهير “تاريخ القراءة”، أصدر الأرجنتيني ألبرتو مانغويل عدداً من الأعمال التي تقتفي أثر ذلك الكتاب، وتحاكي منهجيته الفريدة التي تمزج النقد بالتاريخ بالمتعة، وتسلّح المقاربة التعليمية البارعة بنزعة تذوّق ذاتية صرفة. لقد أصدر، على سبيل الأمثلة: “المكتبة ليلاً”، “ستيفنسون تحت أشجار النخيل”، “صحبة بورخيس”، “وداعاً همنغواي”، “قاموس الأماكن المتخيَّلة”، “بوّابات الفردوس: أنطولوجيا الرواية القصيرة الإيروتيكية”، “مكتبة روبنسون كروزو”…
وفي ربيع 2001 أتيحت لي بهجة الإستماع إليه مباشرة، في المكتبة الأمريكية هنا في باريس، يحاضر عن كتابه الأحدث آنذاك: “قراءة الصورة: تاريخ الحبّ والكراهية”. وهذا عمل يسعى إلى إنصاف الذائقة البصرية للمشاهد العادي الذي يهوى الفنون التشكيلية وأعمال النحت والفوتوغراف والعمارة، ولكنه مضطرّ للخضوع لهذا أو ذاك من أنماط الاستبداد التي تفرضها رطانة النقد ونظريات فلسفة الفنون. والكتاب يتضمن قراءات في عدد من الأعمال، تبدأ من الفنان الإرتيري فيلوكسينوس الذي رسم جدارية للإسكندر الأكبر في العصور الكلاسيكية، وتنتهي عند الفنانة الكندية المعاصرة ماريانا غارتنر، مروراً بأمثال كارباشيو وبيكاسو وجون ميتشل وأليخادينو. وهي قراءات تنقّب عميقاً في باطن الصورة، أو المنحوتة أو النصب التذكاري، لكي تستخلص خطوط الترميز الرئيسية التالية: الصورة بوصفها حكاية، أو غياباً، أو أحجية، أو شاهداً، أو استيعاباً، أو انعكاساً، أو عنفاً، أو تهديماً، أو فلسفة، أو ذاكرة، أو مسرحاً…
ولقد ضجت القاعة بالضحك حين أعاد مانغويل تذكير الحضور بعبارة شهيرة تُنسب إلى فرانك زابا، نجم الـ “روك أند رول” وعازف الغيتار الشهير: “الكتابة عن الموسيقى مثل الرقص على إيقاع فنّ العمارة”! ولكنه تابع يقول إنّ العبارة قد لا تنطبق بالضرورة على الكتابة عن الفنون التشكيلية، غير أنّه ـ واقتبس إذّاك جملة من كتابه ـ “إذا توجّب أن تكون مشاهدة الصورة مكافئة للقراءة، فإنها عندئذ سوف تصبح شكلاً من القراءة هائلاً وإبداعياً، أو قراءة لا تُلزمنا بتحويل الكلمات إلى أصوات ومعنى فحسب، بل بتحويل الصُوَر إلى معنى وحكايات”.
الكتاب الثاني الذي يحلو لي أن أتوقف عنده هنا، لأنه لا يقلّ إدهاشاً وطرافة وجدّة في آن معاً، هو “مفكرة قراءة: تأملات قارىء شغوف حول سنة من الكتب”. وكما قد يوحي العنوان، يدوّن مانغويل وقائع قراءات سنة كاملة، يوماً بيوم تقريباً، وأحياناً وقت الصباح والظهيرة والعشية والليل، ولكن ليس على النحو الطبيعي الذي قد يخطر على بالنا جميعاً، أو لعلّ بعضنا قام ويقوم به بالفعل. إنه لا يدوّن مذكرات حول ما قرأ أو يقرأ، بل حول نمط ـ ولعلّي أقول: حول نسق ـ محدّد فريد واستثنائي من القراءة.
إليكم الحكاية: ذات يوم من عام 2002 كان مانغويل يعيد قراءة واحد من الكتب الكلاسيكية المفضّلة عنده، حين اكتشف أنّ هذا الكتاب يحمل الكثير من المغزى الراهن ليس في الوقائع اليومية التي يعيشها صاحبنا فحسب، بل في الأحداث التي يشهدها البلد الذي يتحدّر منه مؤلف ذلك الكتاب، والعالم على نطاق واسع أيضاً. وهكذا قرّر مانغويل أن يقوم بالتالي: سوف يختار 12 من أمهات الكتب التي يحبها، ولسوف يوزّع كلّ كتاب على شهر، ثم يبدأ ـ أثناء إعادة قراءة الكتاب ـ في تأمّل ورصد وتدوين أية صلات وروابط ودلالات بين مضمون الكتاب (الحكاية والشخصيات والأزمنة والرموز والرسالة العامة…) ومضمون الوقائع الفعلية في العالم الفعلي ذلك الشهر.
الحصيلة مذهلة بالفعل، ليس في جانب تلك المهارة العالية التي تحلى بها مانغويل في الربط بين المتخيَّل والواقعي فحسب، بل أيضاً وأساساً في العبقرية العالية التي تحلى بها أصحاب تلك الكتب وأتاحت لهم اجتراح اعمال خالدة تجد فيها الإنسانية ضالتها أياً كانت الحقبة، وأنى انصرمت الدهور وتبدّلت الأمور. وللوهلة الأولى قد لا تبدو بعض الأعمال التي اختارها مانغويل “خالدة” في رأي الكثيرين، وربما في يقين السواد الأعظم من القرّاء. وقد يبدو بعضها مغموراً أو عادياً أو حتى مجهولاً. غير أنّ بعض اللعبة يكمن هاهنا تحديداً: تلك ذائقة قارىء اسمه ألبرتو مانغويل، وهذه حصيلة قراءته هو ـ وليس سواه البتة ـ لعدد من الأعمال؛ ولكن هذه أيضاً حصيلة الخلود التي تمتّعت وتتمتع بها تلك الأعمال، كما التمسها مانغويل، وكما قد لا يختلف الكثيرون حولها بعد قراءة اليوميات.
اللائحة تتضمن التالي: أدولفو بيوي كاساريس: “اختراع موريل”، حزيران؛ هـ. ج. ولز: “جزيرة الدكتور مورو”، تموز؛ روديارد كبلنغ: “كيم”، آب؛ شاتوبريان: “مذكرات من وراء القبر”، أيلول؛ آرثر كونان دويل: “علامة الأربعة”، تشرين الأوّل؛ غوته: “صلات انتقائية”، تشرين الثاني؛ كنيث غراهام: “الريح في الصفصاف”، كانون الأول؛ سيرفانتس: “دون كيخوتة”، كانون الثاني؛ دينو بوزاتي: “سهب التتار”، شباط؛ ساي شوناغون: “كتاب المخدّة”، آذار؛ مارغريت أتوود: “الطفو”، نيسان؛ ويواكيم ماشادو دو أسيس: “مذكرات براس كوباس بعد وفاته”، أيار.
وقد يقول قائل: ولكن اين ألف ليلة وليلة… أمّ السرد والحكاية؟ أو قد يهتف آخر: أين “الإلياذة” وأين “الأوديسة”؟ وقد يتابع ثالث: بل أين جيمس جويس و”عوليس”؟ ولن نعدم، بالطبع، مَن سيهتف: أين الشعر؟ أين المسرح؟ أين القصة القصيرة؟ هذه أسئلة مشروعة تماماً عند طارحيها، ولكنها بالقدر ذاته نافلة عند مانغويل، أو بالأحرى عند مانغويل في هذه الذائقة القرائية تحديداً. ذلك لا يعني ابداً أنّ كتابه لا يتحدّث عن الشعر، إذْ كيف يعقل لأعمال خالدة في النثر أن لا تحيل إلى الشعر؟ هنالك، طيّ فصول الكتاب وعلى نحو منتثر مبعثر عن سابق قصد، كلام عن والت ويتمان، كيتس، براوننغ، والاس ستيفنز، رامبو، آنا أخماتوفا، هاينة، ريلكة، رامبو، بروتون، بدر شاكر السياب، ومحمود درويش.
في عبارة أخرى، للقرّاء في ما يقرأون شؤون، وهذه بعض أطوار القراءة… وما أدراك ما القراءة!