ياسين عاشور – المالينخولي السّعيد (2) – الوُجُودُ لَعِباً: تأمّلاتُ كائنٍ عابثٍ

مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ – الدّهريون العرب

بعدَ أن أضنتهُ التّجربة الوجوديّة وصار العبثُ بالنسبة إليه مذهبًا راسخًا، ارتأى المالينخولي السّعيد أن يضطلعَ بتدوين تأمّلات تكون بمثابة تأصيلٍ لكيانه. و قد تخيّر الكتابة على نحوٍ شذري/مقطعي بما يتلاءم مع مزاعمه و مصادراته، دون أن يتورّط في التشقيق المنطقي أو البناء النّسقي،  فخارطته الوجوديّة تتشظّى و تتشقّق في انتظار السّقوط الأخير، و كذا نصّهُ.

ورد في لسان العرب أنّه يقال لكل من عَمِلَ عملاً لا يُجْدي عليه نَفْعاً: إِنما أَنتَ لاعِبٌ. يكُونُ الإله بناءً على هذا المعنى اللّغوي لجذر ( ل.ع.ب) أوّل كائنٍ لاعبٍ، باعتباره مُنشِئًا لوجودٍ لا يجدي عليه نفعًا و لا ضرًّا. تفطّن “أبيقور” إلى هذه اللّطيفة حينما أقرّ بأنّ الآلهة كائنات كاملة و مغتبطة و منزّهة عن كلّ ما عداها و مكتفيّة بذاتها ! و إذَا كانت حقًا كذلك، تكونُ آلهة لاعبة/عابثة بإيجادها للموجودات. لكن إذا أردنَا قَلْب المعادلة، و جعلْنَا المخْلوقَ مكانَ الخالقِ، لانْفكَّ اللُّغز و تنزّه الإله عن نقيصة اللّعب : لقدْ اخترعَ الإنسانُ الآلهة لحاجةٍ في نفسهِ، و بذلك ارتكب أوّلَ حماقةٍ فاصلةٍ في تاريخه : حماقةُ المعْنى/الغاية.

إذا كانَ العبثُ نقيصةً بالنسبة إلى الإله، فهو شرفُ الإنسانُ و أعلى تجلّيات وعيِه بذاته/حجمه/منزلته. لقد كانت فتوحات مُبينة تلك الكشوفات المعرفيّة التي خلخلت مسلّمات النوع الإنساني و قضقضت نرجسيّته كوسمولوجيًا و بيولوجيًا و سيكولوجيًا… لقد انبجست من تلك الثورات سرديّةُ الارتياب. و شرع الإنسانُ في إزالة السّحر/الوهم عن نفسه و عن العالم. لكنّهُ أعاد بناء أوهامه في سياقات علمويّة/وضعانيّة/حداثويّة أفضت به إلى الكارثة. و ماذا بعدَ الكارثة ؟ إنّها تباشيرُ فجرٍ جديد !… لقد عمّ الاستياء و الضّجر و الامتعاض و تفشّى اليأس و انتشرت اللّامبالاة و صارت الأرض حوضًا من حياض الجحيم يتقيّأ فيه غريبُ الأزمنة الحديثة… لقدْ وُلِدَ “اللّامنتمي” رسميًا !
وُلد اللّامنتمي بصفة رسميّة إبّان النّصف الأوّل من القرن العشرين، أي إبّان الكوارث الكونيّة المقنّنة و المُوَقّعة. و افتتح بولادته عصر العبث غير الخجول/ العبث الصّارخ، عصر إسدال السّتار عن كلّ التوهّمات الإنسانيّة، عصر تكشّف القُبح سافرًا مُتبرّجًا دون رياء. إنّ اللّامنتمي عينه الإنسان الأخير، دشّن بولادته بداية النّهاية، إنّهُ صوتٌ صارخٌ في البريّة الإنسانيّة، حيثُ الوحشةُ و اصطكاك الأسنان. إنّ عصر اللّامنتمي عينه عصر تجلّي الرّوح الكلّي الحقيقي و انكشافه – لقد خسر هيغل الرّهان -، عصر ظهور الذئب نازعًا عنه ثياب الحمل الطّيب الأخلاقي، لا مطمع بعد في أساطير الخلاص والمخلّصين، ولا إيمان بعد في غائيّة التّاريخ و نبل مقصده، و لا اعتقاد بعد في العناية الإلهيّة.

يقوم الإدراك الإنساني على الفنطاسيا أو التّوهّم، فهو تمثّلي في كنهه. و بالعودة إلى مصنّف شوبنهاور “العالم إرادةً و تمثّلًا” – يُعتبر من روافد المالينخولي السّعيد الكلاسيكيّة – ، نعثر على هذه الفكرة بوضوح : فالإنسان“لا يعرف شمسًا و لا أرضًا، و إنّما يعرف فقط عينًا ترى شمسًا و يدًا تحسّ أرضًا، و أنّ العالم الذي يحيط به إنّما يكون قائمًا هناك بوصفه تمثّلًا فحسب”. تنتفي وفق هذا التقرير أسطورة تطابق المقول بالمعقول بالمحسوس. فالإنسانُ كائنٌ واهمٌ بالضّرورة، لا يرى إلّا ما تسمح له حواسه الخادعة برؤيته و لا يتمثّل إلّا ما يمليه عليه ذهنه المحكوم بإكراهات البيولوجيا ( قد يتسبّب الفصام مثلا -و هو مرض عضوي يصيب الدّماغ – في هلاوس سمعيّة لا وجود لها في العالم الحقيقي ) . يكون التّمثّل إذنْ لعبةً موغلة في الفردانيّة، شكل من العبث بالوجود و تشكيله و قولبته كالطّين الأملس.

يقول المالينخولي السّعيد في إحدى يوميات خيبته : “ماذا أفعل في هذا العالمِ ؟
أستيقظ كلّ يوم على وقع هذا السّؤال المُربكِ. تُعاوِدُني الرّهانات الكانطيّة بخصوص المنزلة و الواجب و الرّجاء و المعرفة.
ماذا يمكنني أن أعرف ؟
يكفي أنّي عرفتُ الخيبةَ تتكرّرُ في التّاريخ و في أنحاء الرّوح.
ماذا يجب عليَّ أن أفعلَ ؟
أنا سليل المنهزمين النّاعقين المبشّرين بخراب العالمِ و بطلانه. من سليمان الحكيم مرورًا بالمعرّي وصولًا إلى إيميل سيوران، أنا تلك البومة الوديعةُ، نذيرُ الشُّؤمٍ علامةُ الحكمةِ.
ما الذي يجوز لي أن آمل ؟
كلُّ تقنيات الرّجاء استنفذت إمكاناتها، أكتفي بترديد تلك الحكمة البوذيّة المحفورة على شاهد قبر نيكوس كازانتازاكيس، ”لا آمُل في شيء، لا أخشى شيئًا، أنا حرٌّ “. ما الإنسان ؟ الإنسانُ كائنٌ مسخٌ، يبدعُ أصفادًا إذا أطلّ الصبحُ ثمّ يحاول الفكاك منها سرًّا إذا وقبَ الغاسقُ، يبذلُ الجهد الجهيد موسمَ الحصاد ثمّ يحرقُ السّنابل ليشرعَ في الحربِ على الفُتاتِ، ضبعٌ يقتات على جيفة بني جنسهِ، ذئبٌ لأخيه، حفّارٌ للقبور الباذخة، طمِعٌ في حياةٍ فوقَ الحياةِ، حقودٌ حسودٌ ميّالٌ إلى الشرِّ نزّاعٌ إلى الأذيّة…
تلكَ طريقتي في تَصْريفِ النّكدِ اليوميِّ، و كلُّ ما أبوحُ بهِ تنويعٌ على هذا القولِ الجللِ : باطِلُ الأَبَاطِيلِ،الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ. ( سليمان الحكيم – سفر الجامعة )”

المصدر: الأوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى