في الثامن من شهر أكتوبر عام 1993 في جزيرة واهيكي في نيوزيلندا، أنهى شاعرٌ موهوبٌ حياةَ زوجتِه بوحشية مستخدماً فأساً، ثم أنهى حياته بالانتحار شنقاً.
كان “قو تشنغ” وزوجته الشاعرة “شِيا يي” قد تقابلا في القطار عام 1979، وتبادلا رسائل قبل زواجهما، كانت الرسائل في متنها بسيطة، إلّا أنها عبّرت عن عواطف جياشة بين الحبيبين، بحيث تجعلنا نتعجب من مصيرهما بالقتل والانتحار.
يُعتبر الشاعر “قو تشنغ” الذي وُلِدَ في الرابع والعشرين من شهر سبتمبر عام 1956 في بكين، من أهم الشعراء الصينيين المعاصرين، ومن جيل الشعراء الذين تأثروا بأساليب الشعر الغربي وشعرائه كبودلير وريلكه وغيرهما، وهو أحد مجموعة الشباب الذين ظهروا في الثمانينات وأطلقوا على أنفسهم اسم “الشعراء الضبابيون” ومثّلهم الشاعر الصيني “بي داو” الذي رُشح لجائزة نوبل للآداب، ومع تأسيس مجلة “اليوم” أُتيحت للشاعر “قو تشنغ” فرصة السفر والتجول في أوروبا ليستقر في النهاية في جزيرة واهيكي في نيوزيلندا عام 1988.
قبل ذلك وفي عام 1969، نُفي والده إلى الريف أثناء الثورة الثقافية لمدة خمس سنوات كنوعٍ من إعادة التأهيل، حيث عاش الشاعر في عالم وتجربة مختلفين، ولعلّ تجربته تلك كانت السبب الذي دفعه إلى كتابة الشّعر، وقد بدأ كتابته في سن السابعة عشرة.
في الثامن من أكتوبر عام 1993 بلغت مأساة الشاعر “قو تشنغ” ذروتها، حين قتل زوجته “شِيَا يي” بفأس، ثم هرع إلى منزل أخته وأخبرها بما اقترفه، وبعدها شنق نفسه على شجرة. أما زوجته فقد وُلِدت عام 1958، وهي من بكين، وكانت محبة للأدب، وتكتب الشعر والنثر.
الزوجان المنتحر والمقتولة، تبادلا قبل زواجهما سبعةَ عشرَ رسالة، ترجمت منها ستَّاً ونشرَها الاتحادُ الثقافي من قبل، وها هي خمسُ رسائل أخرى مترجمة، على أمل ترجمة ونشر الرسائل الباقية، وإن صح التعبير أو التأويل، فإن هذه الرسائل، تحمل نوعاً من استباق المصائر بالحديثِ عنها، حتى أنّ “شِيَا يي” تصف “قو تشنغ” قائلة: إنّك شخصٌ غريب.
الرسالة السابعة: من قو تشنغ إلى شِيَا يي
شِيَا يي
إنك ترينني شخصاً طيباً للغاية، وهذا يسعدني ويقلقني في الوقتِ ذاته، لأنني في الواقع إنسانٌ تافه. أود لو أكون إنساناً طيباً، ذا قيمة، طيباً وذا قيمة، وأقصد بذي قيمة أولاً القيمة الداخلية؛ كتبتُ هكذا في صغري: سأسيرُ صوبَ الشمسِ لأغسلَ روحي، وبالإصرارِ والإرادةِ أطرحُ الظلالَ خلفي. إنّ العيشَ ونحنُ مُحمّلون بالإثمِ أكثر رعباً من الموت، ومن بين الألم، الشك، والذنب، فأكثر ما لا أتحمله هو الذنب. ولأنني خنت ذاتي، فأنا أحتقرُ نفسي، ومهما جنيتِ وحققتِ من مكاسبَ في هذه الحياة، فسيتبعكِ هذا الاحتقارُ إلى نهاية حياتكِ. أعرفُ حقّ المعرفة أنّ ثمة سعادة وحيدة في الدنيا، هي السعادةُ النابعةُ عن راحة الضمير، عن أن تكوني شخصاً طيباً.
ثم إنْ كان المرء مبدعاً، لا بُدّ أن يُعاقب، لأنه يتجاوزَ شرّ الواقع ويَمنحُ ذلك الإيمانَ، إلى العالم، ويُخبرَ الآخرين أن تلك السعادةَ موجودةٌ فقط عند ذاك الشاطئ الذي تحدثتِ عنه، شاطئُ الخلاص، الذي تلمع أرضه بإشراقة، أما هنا فليس ثمة سعادة، لا في المتاجر، ولا السيارات الملونة، ولا منصات العرض الشامخة التابعة للجيش حيث وقف هناك وأدّى حركةً بسيطة، ومُنِح قيمة، وعُوقِب بسبب ذلك.
لا أدري ما ينبغي عليّ فعله، لكني أعلم أنه يجب أن أفعلَ شيئاً، هل ستمدين يدَكِ لي وأبوابُ العالم كلها تُغلَقُ أمامي؟
لا أخافُ العالم، أخافكِ أنتِ، بصيرتي وسيطرتي على نفسي عديمتا الجدوى. لقد كان من الصعبِ إيذاء أخيل بطل الميثولوجيا الإغريقية، لأنّ أمه عند ولادته غمرته من كعبِ قدمِه في ماءِ النهر، فلم يصبح من الهالكين، لكن كعبه كان نقطةَ ضعفه والسبيلَ الوحيدَ إلى تدميره.
قو تشنغ ـ رسالة بدون تاريخ
الرسالة الثامنة: من قو تشنغ إلى شِيَا يي
شِيَا يي
شاهدتُ فيلماً منذ قليل، وفكرتُ بكِ، كلّما أرى شيئاً أفكّرُ بكِ، ثم ما عُدتُ أتحمل، فخرجت واطئاً درجاتِ السلّم الواسعة إلى أن وصلت الجسر، وهتفتُ باسمك، حيث كانت مياه النهر تتدفقُ في العتمةِ الهائلة. وثمة لحظةٌ، لحظةٌ واحدةٌ فقط أحسست نفسي مُثقلاً بالهم، إلّا أن تلك اللحظة رافقتني، وصار صوتُ النهر من بعيد رقيقاً، وأنا أحيا داخل دَفقِه، وأرى يدي تتحركان في العتمةِ وتحجبُ نجوماً، ومصابيحَ، وأناشيدَ حشرات الليل.
أشعرُ بخيبةِ أملٍ شديدة لأني لم أتلقَ خطابكَ اليوم!
قو تشنغ ـ 29 أغسطس 1979
الرسالة التاسعة: من شِيا يي إلى قو تشنغ
قو تشنغ
الخطابُ في الطريق. إن رسائلنا كمثل قطارين، قطار يمضي إلى الشمال، والآخر إلى الجنوب، يقتربان من بعضهما ويزمجران ثم يتجاوز قطارٌ الآخر.
لِمَ تغمر يدَكَ في ماء الليل؟ سيصيبك الإنهاك هكذا، وستتعذب إذا غمرتها أكثر، ثم إن لديكَ الكثيرَ من الأشياء التي تريد فعلها، لقد جئنا إلى هذا العالم، ولم يدم إلّا أكثر من شهرين على تعارفنا، ولا زلت لا تعرفني، ولا تفهم نفسك، كما أنّكَ شخصٌ عصيٌ على الفهم.
كنت أحب شعري الطويلَ في صغري، وأجدله ضفيرةً على الدوام، ولم أكن أود قصّه مجدداً، إلا أنني لم أكن قادرةً على تمشيطِه، وإذ كان على أمي أن تذهبَ إلى عملها يومياً، فلم يكن لديها الوقت الكافي لتضفير شعري الطويلِ بخصلاتِه الناعمة، وصار الأمرُ عبئاً يَثقلُ عليها، إلى أن جاء يومٌ وتجاهلت رفضي، وقصت شعري بكل بساطة. كنت أشبه الصبيان، واقفة هناك في باحة المنزل بنفسٍ مغتمّة، وقلبي مفعمٌ بكراهيةٍ مطلقة للمقص، وكراهيةٍ مطلقةٍ لأمي، ونويت ألَّا أتحدث معها.
أمي جنديةٌ تعمل في مستشفى عسكري، وحينها لم أكن أظن أنّ الجنودَ جميعاً قساةٌ مثلها، لأنَّ والدة يارو “صديقتي في المدرسة الابتدائية” جعلتها تُبقي على ضفيرتِها، ووالدة ليانغ جوان كانت تضحك على الدوام، حتى أنّه يمكنك سماع ضحكاتها من بعيد، كما أنها أعدّت لي أطباق المخلل وجذور نبات الأرز البري من قبل، كنتُ حمقاءَ إلى حد أنني بدأتُ التفكيرَ في تغييرِ أمي، واختيارِ أمٍ من أفضلِ الأمهات، ومضيت أنتقي من أمهات أصدقائي، إلّا أنني لم أحس بالرضا، وكنت قد نسيتُ أمرَ شعَري، إلّا أنّ كرهاً غامضاً كان قائماً لأمي، ولا بد أن أقر أنني لم أجد أماً تحلّ مكانها، لا يمكن لأخرى أن تكون أمي، لأنني ابنتها، هكذا كان، منطقاً في غاية البساطة وبلا أسباب أدركته فيما بعد. ورغم أنني حينذاك فكرتُ في الكثير من الأسباب المضحكة للأمر، إلّا أنّ ذلك لم يكن الجانبَ الوحيدَ في تفكيري، فقد اكتشفت بفضلها شيئاً عن نفسي، أمراً كان مقدراً قبلاً، أدركتُ أن جُلّ ما أريده مطبوعٌ في قلبي، وأنّ كلّ معاناة، ورغبات ومطالب مجردةٍ من ذاتِها هي مساعٍ بلا طائل.
وربما تلك الأنهار والنجوم التي نحسها هي الخطوات التي تأخذنا صوب أنفسنا، فحين تكونُ ذاتَك، ستفهم نفسك، وتفهمني، وتُكملني، وسأكون حينها أنتَ، وسننسى الظلام، ونصعد درجات السلّم، ونقترب من موعدِ لقائنا.
شِيَا يي ـ 2 سبتمبر 1979
الرسالة العاشرة: من قو تشنغ إلى شِيَا يي
شِيَا يي
أستيقظ مع بزوغ الفجر، وحالما أستيقظ أفكّرُ بك، لقد اعتدتُ الأمر. وكنتُ أتحدثُ بصوتٍ خفيضٍ بينما أتخيلُ إجاباتك، لقد كنتِ تجيبينني بالفعل. هل سيصلني خطابُك اليوم؟
أحسّ بالغرابةِ الشديدةِ دائماً حين أكتبُ لكِ. ستراكِ تلك الكلماتُ بعد عدة أيام، ويا لها من كلماتٍ سعيدة، سأكونُ راضياً كلّ الرضا إذا تحولتُ إلى كلمةٍ، حتى لو تحولتُ إلى كلمةٍ مكتوبةٍ على نحو خاطئ.
أريدُ أن أفعلَ شيئاً، أريدُ أن أراكِ، ولن يمنعني المرضُ أو السجنُ أو الموت، أريدُ أن أدفعَ البشرَ بهدوءٍ وأراكِ. إنّ ذاتي الحقيقةَ تُسَرّحُ شَعرَها الآن.
على وشك أن تدق الساعة الثالثة، على وشك أن يصل خطابُك، يراودني إحساسٌ أنه سيصلني خطابٌ منكِ اليوم، سأعرفُ بعد قليل.
إنني أحمقُ للغاية، وليس بمقدوري السيطرة على مشاعري، وأعلم أنني أسيرُ في دربٍ عتيق، لماذا لا أسيرُ في دربٍ آخر غيره؟ دربٌ يتداخلُ ويختفي دائماً.
حاولتُ أن أتخيلكِ في الحقيقة، وأعود إلى الأوقاتِ القصيرةِ التي قضيناها معاً في القطارِ والميدان، كانت أوقاتاً مبهجةً حقاً! أتخيلكِ، ما أن لمحتني، أضاءت حياتي، غدت هادئةً وعظيمة، حين تخيلتكِ تنظرين إليّ بعينيكِ اللتين بلونِ الكهرمان، فاتني الباص، فاتتني عدةُ باصات.
وإذ أسيرُ في هذا الدربِ العتيق، فلدي أمنية، أتمنى أن يمرّ الوقت، يمضي بسرعة، يمضي بسرعة إلى أن يمّحي، لكني خائف، فلم أفعل شيئاً يُذكر حتى الآن، فلم أرتدِ إلّا هذه الثيابَ وذهبت بعينين خاويتين لمقابلتِك. إنّ هاتين العينين عاجزتان عن الرؤية، لا تريا إلّا لوحةً مرسومة.
قو تشنغ ـ 5 سبتمبر 1979
الرسالة الحادية عشرة: من شِيا يي إلى قو تشنغ
قو تشنغ
لَكَم أُحبّ خطاباتك وهيئتك وأنتَ تتحدث، إلّا أنني من فرط ما قرأتُها، أحسست فجأةً أننا لا بد أن نكسر الروتين، لِمَ لا نأخذ استراحة ونفعل شيئاً مختلفاً؟ أفكر متى سأذهب إلى بكين، فإذا ذهبت في الشتاء لا بد أن أتعلم التزلج على الجليد، وأطلب من أختكَ الكبيرة أن تعلمني، هكذا فكرت.
كنت أعيش في تشنغدي في صغري، وهي مدينة لا تبعد كثيراً عن بكين وشتاؤها باردٌ مثلها. كنت أستيقظُ في الصباح الباكر وأغسلُ أسناني خارجاً، وحين عدتُ في إحدى المرات وأمسكتُ بمقبض الباب التصقت يدي بالمقبض، وتملكني ذعرٌ شديد. للأسف لم أكن أجيد التزلج على الجليد آنذاك، ربما لأنني كنتُ لا أزال صغيرة. كان ثمة أرض خالية أمام المنزل تتسع مساحتُها لمائدةٍ وعدة كراسي، فأحطناها بسياجٍ خشبي فصارت كفناءٍ صغير، ثم حددنا الأرضَ لنزرعها، وإذ لم يكن ثمة ما يُزرع في الشتاء، فقد أصبح هذا المكان حلبةَ التزلج الخاصة بي في الهواء الطلق، حيث كنت أحمل عصا السقّا بدلوين وقت المغيب وأصبّ الماءَ فيتجمَّد في لحظات، ثم يتجمّد تماماً طيلةَ الليل وتصبح الأرض مسطحةً تلمع بضياء، وكيفما وطأتها خلال النهار وخلفت آثاراً، يكفي أن تصب الماء ليلاً لتصير مسطحةً ملساءَ من جديد.
لا أجيد التزلج على الجليد رغم أنني أملك زلاجة صغيرة صنعها لي أبي، كنتُ أجلسُ أعلاها وأتزلج في حلبة التزلج الصغيرة. هل رأيتَ حلبةَ تزلجٍ صغيرةٍ كهذه من قبل؟ كان ثمة حلبة صغيرة لكل منزل حيث كنت أسكن. هذا شتائي فيما مضى، أما فيما بعد سأتعلم التزلج على الجليد، وأرتدي حذاء التزلج ذا سكين التزلج الحادة، فلا أحب التزلج بالعجلات.
أود أن أذهب إلى بكين في الشتاء.
ربما بإمكاننا أن نذهب إلى مكانٍ آخر، فإن كانت تلك الحلبة الصغيرة لا تزال موجودة يمكننا أن نذهب، ربما ستجد شياو يي أخرى لم ترها من قبل.
ترجمة: يارا المصري
عن مجلة: رُمان