ياسين عاشور – المالينخولي السّعيد (9) – تلك الصّخرة الّتي لن يرثها أحدٌ من بعدي

أشخاص:
بلدان:

“لماذا خرجْتُ من الرّحمِ، لأرى تعبًا وحُزنًا فتَفْنى بالخزي أيّامي؟” – سفر إرميا

“يومُ المماتِ خيرٌ من يومِ الولادةِ” – سفر الجامعة

“ألهاكُم التّكاثرُ حتّى زُرتُم المَقَابِرَ” – سورة التّكاثر

لا يُعادي المالينخولي السّعيد أمرًا مثلما يُعادي الإنجاب/التّكاثر/التّناسل البشريّ، ولا يخفي اشمئزازه من التّكاثريين ولا استحقاره لكلّ من يدعو إلى الرمي بالمزيد من الحطب/الأطفال في هذه المحرقة/الحياة.  يمثّل الإنجاب في نظر صاحبنا  الجريمة الأصليّة، أمّا بقيّة الجرائم على فظاعتها فلا تزيد عن كونها مجرّد تنويعات على ذلك الأصل. لقد أقرَّ إميل سيوران بأنّ الشيء الوحيد الذي يفتخر به هو أنّه اكتشف في سنّ مبكّرة جدًّا أنّه لا يتعيّن على المرء أن يُنجب، واعتبرَ الآباء كلّهم مجرمين وغير مسؤولين، بل ذهب إلى اعتبار أنّ لقب “والد” هو أبشع الألقاب وأكثرها وحشيّة.

انتهى ألبير كامو في مقاله “أسطورة سيزيف” إلى أنّ الحياة تستحقّ أن تُعاش على عبثيّتها وخلوّها من كلّ معنى، وإلى أنّه يجب علينا أن نتخيّل سيزيف سعيدًا على شقائه الرّتيب وبؤسه الأبديّ، وذلك  -تقريبًا- ما يسعى إليه المالينخولي السّعيد محاولًا جعل تجربته الخاصة محتملةً، لكنّهُ لا يقبل أبدًا أنْ يُوَرِّثَ تلك الصخرة السيزيفيّة أحدًا،  إنّ الحياةَ ميراثٌ ثقيلٌ وليس من الأناقة الوجوديّة أن نفرْضه  على كائنات/مُصادفات منويّة أخرى.

تفتحُ الحياةُ فوهتها مثل بالوعة تستقبلنا ثمّ تُصرّفَنا في ثناياها، لنشرع في الرّكض واللّهاث، نُشبه قوارض المجاري في تيهها بحثًا عن نقطة ضوءٍ، لكنّنا في النّهاية لن نظفر بغير الموت. يُقذفُ بنا إلى هذه المتاهة كي نموت ببطئٍ وسط ضجيج الوعّاظ الّذين يُبشّروننا بأنّ كلّ شيءٍ يحدث لسببٍ مّا، وبأنّ حكمةً مّا تكمنُ خلف كلّ تفصيلٍ، كأنّ هذا الكون يُبالي بنَا أو يقيم لنا حسابًا. لقد خٌيّل إلينا في لحظة مّا أنّ وجودنا على سطح هذا الكوكب أهمّ من وجود حفنة من القراد والبراغيث على ظهر كلب، لقد بالغنا كثيرًا في تقدير أنفسنا، وأظنّ أنّ الوقت قد حان كي نُراجعَ سُوءَ تقديرنَا مُراجعةً جذريّة تكفي لأن نقرّر التوقّف عن إعادة إنتاج نوعنَا، وأن ننصرف عن هذا الكون بكلّ أناقة قبل أن نُلفظَ منهُ بالقوّة.  لن يُشفى الإنسان من إنسانويّته/مركزيّته إلا حين يقوم باختراق وعيه الواهم بنفسه وينسفه كُليًا؛ حين نتساوى أنطولوجيًا بالبقّ والعثّ والبراغيث وحين ندرك أنّ خلوّ الكون من نوعنَا ليس مأساة كوسمولوجيّة، لن ترثينا النجوم ولن تبكينا الكواكب ولن تُعلن المجرّات الحداد علينا.

كلّنا جئنَا من الخطيئة، لا أقصد “الجنس” باعتباره شبقًا/متعةً خالصةً، بل أتحدّث عن مآل تلك المتعة حين تُصيّرُ مسخًا بشريًا جديدًا، نسخة أخرى من فساد الطّبيعة، توقيعًا آخر على سجلّ المعاناة. ما الخطيئة الأصليّة إن لم تكنْ خطيئة الإنجاب؟ لماذا نُصرُّ على تأبيد الشّقاء؟ ألمْ يُلعنْ آدم في سفر التكوين حتّى عُوقبَ بالكدح والتّعب في سبيل العيش حين قيل لهُ “ملعونةٌ الأرض بسببكَ؟ ألمْ يُحكمْ على حوّاء بوظيفة الإنجابِ حكْمًا يوضع في مقام العقاب لا الهديّة حين قيل لها “تكثيرًا أكثّر أتعابَ حبَلكِ، بالوجعِ تلدينَ أولادًا”؟ ألم يُخلقْ “في كبدٍ”  وفق العبارة القرآنيّة؟ ألم يُوصف بأنّهُ ظلومٌ جهولٌ حين تحمّل ما لا طاقة له بتحمّله؟ … ثمّة حُدوسٌ كامنةٌ في السرديّة الإبراهيميّة تُنبئنا بأنّ الحياة نفسها غلطة وخطيئة تحمّلها الإنسان ولا يزال مصرًّا على تحمّلها حتّى تأتيه السّاعة بغتة…

إنّ ما هو كامنٌ عند الإبراهيميين الرسميين، يظهرُ بجلاءٍ في قصصيات الشرق الأقصى وفي تعاليم الغنوصيين، لقد اعتبر بوذَا أنّ جوهر الحياة معاناة، فالولادة في الأدبيات البوذيّة هي منبع الألم الأوّل ومصدر الشّرور جميعها. واتّفقت كثيرٌ من مدارس أهل الغنوص على أنّ هذا العالم لا يمكن أن يكون من فعل إله خيّرٍ، بل هو من صنع/اختلاق قوى شرّيرة، دعا النّبي البابلي ماني إلى تجنّب الإنجاب، معتبرًا ذلك خطوة كبرى نحو الخلاص النهائيّ، واعتبر الانكراتيون (جماعة مسيحيّة غنوصيّة) أنّ وسيلة البشر لقهر الموت هي التوقّف عن الإنجاب. فالتكاثر في نظرهم وسيلة تغذّي الموت بتكثير المواليد الميتين حتمًا.

تُحذّر التعاليم الأبيقوريّة من اللّذّة التي يعقُبها ألم، مثل لذّة الخمر التي قد يعقبها ألم الصداع والغثيان، ما فات أبيقور هو أنّ الجنس أيضًا لذّة قد يعقبها كائنٌ جديدٌ، قربانٌ حيٌّ مجبول من الانتشاء لكنّهُ مُكرّس للألم وللمعاناة، معاناة لا تدوم سويعات قليلة مثل صداع الكحول، بل تدوم حياةً كاملةً، ولا تُؤذي صاحبها فحسبُ، بل تمتدّ إلى الكائنِ الجديد الذي أفرزته تلك العمليّة المتعويّة.

كلّ متعة تُؤدّي إلى إعادة إنتاج الإنسان، لا يُعوّل عليها؛ تُعتبرُ متعة الجنس -من وجهة نظر تطوّريّة- مُكافأة تمنحها إيّانا الطّبيعة حتّى يُحبّب إلينا الإنجاب وبالتّالي نضمن بقاء النّوع واستمراره، لقد تفطّنَ آرثر شوبنهاور إلى هذا الفخّ الطّبيعي الّذي تقعُ فيه الأنواع الحيّة، وأقرّ بأنّ الطّبيعة تضحّي بالفرد في سبيل النّوع، إنّ كلّ ذلك يجري من خلال قوّة “الإرادة” العمياء الّتي تدفعنا إلى التشبّث بالحياة وإلى تمريرها إلى الأجيال اللّاحقة،  لكن وحده النّوع الإنساني قادرٌ على أن يغنمَ متعة الجنس دون أن يُحقّق غرضَ حفظ النّوع من الانقراض، والميزة الوحيدة الّتي يحقّ للإنسان أن يعتدّ بها أمام بقيّة الأنواع هي ميزة الرّفض؛ رفض “الإرادة” وبرنامجها البيولوجي العبثي الّذي لا يفضي إلّا إلى المزيد من شقاء الأحياء.

المصدر: الأوان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى