أن أصطاد الخاطر عند مروره، أدونه وأنساه، أتحول في آخر العمر إلى حصالة مقلوبة، تخيلوا حصالة قماشية مقلوبة، جوربًا مقلوبًا مفرغًا من قدمٍ تنقلت به بلاد الله لخلق الله.
نحن المدانين بالترجمة .. المدينون للترجمة*
في نهاية يوم ترجمة عادي روجع فيه جزء من المسودة الثالثة لترجمة “وزارة السعادة القصوى” لأروندتي روي، حدثَ يومًا أن سألني سائقٌ في شركة “كريم”، لماذا تختلفُ ترجمات النص الواحد من مترجم إلى آخر؟ الحقيقة أنه سويئق، لا يزال في سنته الجامعية الأولى، ولذلك يعمل في كريم إلى أن يبلغ من السن الحد الأدنى الذي تقبل به أوبر. وواضح أنه يدرس لغة في كليته.
قلت: لأنكم تكونون جماعة من الأصدقاء وتسمعون من أحدكم حكاية، فيحكيها كل واحد منكم لآخرين بكلمات تخصه وإن راعيتم الأمانة، بل إن الواحد نفسه يحكي الحكاية في المرة الثانية بكلمات غير التي حكاها بها في المرة الأولى، وإن هذا شأن الترجمة، لا تختلف فقط من مترجم إلى آخر بل لدى المترجم نفسه إن ترجم النص نفسه مرتين.
رضي السائق الصغير بالإجابة، وانتبه ثواني لجي بي إس والطريق ثم سأل سؤاله الثاني، فقلت له: لا أنصحك. الترجمة شاقة ما لم تكن محبا للعزلة، ولا أقول مستعدا للقبول بها، ما لم تكن متقبلا تماما لقضاء ساعات طويلة وحدك، راضيا تمام الرضا بأن يشار غالبا إلى اسمك في مقام النقد والاعتراض والرمي بالخيانة أو الخطأ دون مقام الثناء والمديح والشد على الأيدي. شاقة ما لم تكن مستعدا للرضا بالفتات، والاعتماد على البركة إلى أن تتيسر الوفرة ولا أحسبها تتيسر. وهي شاقة لأن عليك في النهاية أن تسلِّم بأنك تعمل في مجتمع لم يعد يقدِّر الجودة، فأحمد الذي ينتجه غيرك لامبالايا يتساوى بالحاج أحمد الذي تحصل له على تأشيرة السعودية بنور عينيك.
لا أعتقد أنه طرح سؤالا بعد ذلك. وأغلب الظن أنه قضى بقية الطريق يفكر في العميل التالي راجيا أن يأتيه حاملا حلم مهنة أفضل، تحقق له فضلا عن المال الكثير أن يتسلى بالناس ويتنقل بين الأماكن ويحافظ لوقت أطول على قوة بصره.
الترجمة كالزواج، أمارسها ولا أنصح بها. وهي كالزواج: جريمة يرتكبها الفرد في حق نفسه، لكنها جريمة لا صلاح للعالم إلا بها. مؤكد أن كل من يمتهن الترجمة كان ليحسن إلى نفسه لو امتهن مهنة غيرها، ولكن كم كان العالم ليخسر لو بقي أهل كل لغة يلوكون أفكارهم بينهم دون أفكار غيرهم. كم كانت الحضارة لتكتسب شكلا قبيحا، عدائيا، كارها للاختلاف (أعني أكثر قبحا وعدائية وكراهية للاختلاف مما هي عليه الآن) لولا الطابور الخامس النبيل المؤلف منا نحن المترجمين إذ نسرب بين كل لغتين، وكل أمتين، ما يشعر كلا منهما بدينها للأخرى، وما يقيم روابط خفية وعميقة ولا انقطاع لها بين شعوب الأرض المختلفة.
تخيلوا فقط، لوهلة، أي قبور تتحول إليها بيوتكم لو أنها بلا شبابيك.
تخيلوا فقط فقركم إلى الجمال لو أنكم كنتم تنتظرون سنوات إلى أن يكتب أحدكم قصة جميلة، أو قصيدة عميقة، أو رواية تتيح لكم فرارا مؤقتا من العالم ونفاذا دائما إليه.
وتخيلوا، أيضا، إن شئتم، الجحود الذي يعاني منه المترجمون. تخيلوا أن ناشرين يرفضون وضع اسم المترجم على غلاف كتاب هو فعليًّا كاتبه الثاني! تخيلوا أن يكون أجر المؤلف ـ نسبيا ـ أقل أجر يحصل عليه أحد بين جميع المشاركين في نشر كتابه. تخيلوا ألا تكون في مصر بالذات إلا جائزة يتيمة للترجمة. تخيلوا المسؤولين عن النشر ـ إلا قليلين ـ إذ يقبلون أي هزل باعتباره ترجمة وأي صايع باعتباره مترجما.
أو لا تتخيلوا.
فالحقيقة الأكيدة التي لا أستخلص غيرها من سنوات قضيتها في الترجمة، أنه كان يمكن أن يكون الأجر أكبر، والجوائز أكثر، والتقدير أعلى، بدون أن يكون ذلك كله دافعا كافيا لشخص أن يختفي ليظهر الآخرين. الحقيقة الأكيدة التي أستخلصها من تجربتي هي أنني لا أترجم طلبا لشيء إلا النص الذي أترجمه نفسه، أعني فهمه فهما هو الأقرب إلى فهم مؤلفه الأصلي. هذه الرغبة الذاتية تماما في المعرفة والاستمتاع هي الدافع الوحيد إلى الترجمة، وهي المكافأة الوحيدة للترجمة.
لذلك، تخيلوا أو لا تتخيلوا، وامتنُّوا للمترجمين أو لا تمتنُّوا، ثمة فارق طبعا، لكنه، الفارق الطفيف الذي لا يغير مسارا اختار مترجم أو اختارت مترجمة أن تسلكه.
وإذا كان من رسالة لدي في يوم الترجمة، فإني أجعلها رسالة شكر للأساتذة الكبار الذين أمتعتني ترجماتهم وعلمتني، ولا تزال تمتعني وتعلمني، وأجعلها في الوقت نفسه رسالة اعتذار للمترجمين الناشئين الذين يطلبون مني العون فأقدمه كثيرا وأعتذر ـ مرغما ـ عن تقديمه كثيرا.
*كتبت للمشاركة في تحقيق نشره موضع مبتدا في يوم الترجمة العلمي.
المصدر: مدونة المترجم أحمد شافعي.