معرض احذية اللاجئين في بهو البرلمان الأوروبي 2018
عندما نتكلم عن فناني عصر النهضة الأوربية Renaissance فإننا نقصد عملياً صناع النهضة، وأبنائها الفاعلين لا راكبي موجتها، وهذا الطرح حقيقة متطرف في أخلاقياته خفيف في واقعيته، وبالتالي إذا أردنا الحديث عن فناني الربيع العربي (الثورة) وجيلها، فإنه للأسف يظهر السواد الأعظم بمظهر سيء لا يليق بالفن ولا يمت بصلة إلى جمالية الثورة وقيمتها حيثُ يظهر السواد الأعظم بمظهر البراغماتي الوصولي ولو على حساب آلام الآخرين وهو توجه يدعمه اقتصاد السوق.
وعليه، بالطبع لا أقصد هنا سوق الفن بأي حال إذ أن سوق الفن، تجاراً ومقتنيين أعمق، والعلاقات المنظمة لهذا السوق أكثر تعقيداً من أن يراهنوا على موجة استهلاكية وظيفية، بل سوق المال والأعمال العالمية بأغلب أشكالها من الإعلام إلى الأعمال التي اصطلح على تسميتها بالأعمال الإنسانية، والتي تجمع على أن متضرري الحرب سلعة مجدية ومربحة اقتصادياً، وهذا التوجه بالتحديد هو فعل غير جميل – ذو رد فعل غير جميل هو الآخر – والذي يتجلى في حالة السكينة والابتعاد الناتج عن القرف من قبل القلة القليلة من الأخلاقيين الذين يستحقون لقب الفنان وظيفياً وجمالياً.
لوحة جرينيكا للفنان بابلو بيكاسو 1881 1973 رسمت عام 1937
وبالحديث عن الحرب والدعاية من جهة، والفن واحترافيته من جهة آخرى، لا بد من ذكر تجربة أحد عباقرة الفن وأساتذته في القرن الماضي، الإسباني بابلو بيكاسو (1881 – 1973)، ولوحته الشهيرة غرينكا التي رسمها كأكبر عمل له بطلب من مناهضي الحرب الذين أرادوا استغلال شهرة الفنان العالمية وعبقريته الفنية في خدمة مشروعهم الأخلاقي، ورفع سوية الدعاية وصولاً لحالة فنية حقيقة فاعلة ومؤثرة، وهو الرهان الذي قبله الفنان.
واللوحة؛ وإن لم تغير من مجريات الحرب أكثر مما كان بيكاسو نفسه اشتراكياً، والرجل كحالة اجتماعية، وعلى النقيض من نتاجه الفني لا يعتبر شخصاً أخلاقياً. إلا أن اللوحة نفسها تعتبر واحدة من أهم نتاجات القرن الماضي الفنية، وهو بطبيعة الحال عكس الحالة الراهنة لدى فناني الربيع العربي، الذين وللأسف لا يتعدى إنتاجهم في أغلبه حالة إعادة تدوير لمخلفات اللجوء ومأساة ضحايا الحرب بطرق مبتذلة تؤدي إلى تقزيم مأساة وقيمة الإنسان خصوصاً في حالة الصخب والضجيج مما يذكر بمقولة فرانسيس بيكون “عندما تنظر إلى كل تلك الأشياء فإنك لا ترى شيئاً”.
وبالتالي فإن النتيجة هي التصالح مع واقع اعتباره سلعة استهلاكية، والعمل الفني نفسه ليس أكثر من إعلان يحاول توظيف الصدمة أو المشاعر الإنسانية ممثلة بالشفقة في تسويق المنتج ومحاولة إيصاله إلى أكبر شريحة ممكنة بغض النظر عن القيمة الفنية في الطرح أو الأسلوب الدعائي، ولا يتوانى عن استهداف وتضخيم (أنا المستهلك) على حساب (أنا المادة المسوقة).
لوحة خلق آدم أو “خلق الإنسان”. للفنان ميكيلانجيلو بوناروتي 1475 1564 تم رسمها العام 1511 سقف كنيسة سيستين في الفاتيكان
وبالعودة إلى المقاربة الأولى، أي عصر النهضة الأوروبية، وتاريخه الطويل الذي يقدر بأربعة قرون كما يرى أغلب المؤرخين والنقاد الذين يقسمونها إلى عدة أقسام منذ بداية القرن الرابع عشر تقريباً، حيث تم تصميم نمط جديد من الفنون البصرية والأدبية والوظيفية كالهندسة المعمارية في سلسلة متتالية من الطراز القوطي والتحرر، أو الانتقال من الثقافة الكلاسيكية القديمة إلى خلق ثقافي جديد طبعاً بمقاييس تلك الفترة باختصار فترة الانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث.
وقد بلغت هذه الفنون ذروتها فيما اصطلح على تسميته بالنهضة العليا إبان فتح القسطنطينية أو سقوطها حسب وجهة النظر التي يتبناها المرء، أو كما يعرفها بعض النقاد بظاهرة قصيرة اقتصرت أساساً على إيطاليا في بداية القرن الـ16 وهي الفترة التي اتسمت بصراع النفوذ ومحاولات التوحيد بين عائلات إيطاليا ومناطق سيطرتها التي كانت تشكل شبه ممالك، كآل مديتشي عرابي النظام البنكي الجديد وإحدى أغنى عائلات أوروبا وقتها وأكثرها نفوذاً، أسياد فلورنسا مدينة الفنون، والذين اقترن اسمهم ودعمهم بظهور عدد من عباقرة الفنون مثل ليوناردو دافينشي، ومايكل أنجلو، ورافاييل وغيرهم ممن كان لهم دور في مجريات الصراع المفاهيمي المقترن بصراع النفوذ من خلال بعض الأعمال الفنية التي أخذت منزلة كبيرة في تاريخ الفن حتى أنها أصبحت التجسيد الأهم عن النهضة الفنية العليا، والتي أسست لحركات وعصور لاحقة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه عند دراسة تاريخ الفن، ومقارنته بالتاريخ السياسي والاجتماعي نجد جلياً أن التاريخ هو إعادة اجترار لتاريخ الفن، وأن الحركات والمدارس تعتمد في قيمتها على تموضعها التاريخي والحالة هذه لا يعود استهجان الأخلاقيين مستغرباً، إلا أن ذلك الاستهجان لا يبرر بأي شكل حالة السكينة، إذ أن أحلك الأماكن في الجحيم هي لأولئك الذين يحافظون على حيادهم في الأزمات الأخلاقية كما يعتقد دانتي أليغييري.
كتبه: شيروان أسعد