الباشقُ الذي كان ينقضّ على السلاحف (مختارات) – سيف الرحبي


الباشقُ الذي كان ينقضّ على السلاحف

الباشقُ الذي كان ينقضّ على السلاحف
والأسماك في القيعان البحريَّة المثلّمة،
وفي الكهوف والخلجان، أراه الآن
يحوّم مع إناث خيالهِ
في هدوء سماءٍ لم تعد تحلم بالنجوم والمفاجآت.
سماءٌ خَرساء بمجرَّاتها الهَرِمة كأبراجِ مَدينة مَنكوبة
وبرك تتموَّج تحت نعيقِ الغربان ومَفارش
الخريف.
على خَطْمه دمُّ المسافة
الباشقُ، شقيقُ الهجرانِ الذي
كان يَحتوي بمخالب حَنانه الفريسة
ويضمّها كعريس يلتهم بها الفضاء
والليلُ، مكلّلاً بمجدِ اضطرابهِ من فرطِ النشوَّة،
هو الوحيد من غير صِلات تُذكر مع عائلات الجَّوارح،
يحملُ في حناياه مزاجهِ المُتقلّب
ويحمل عروس وحدتهِ كجوهرٍ استرَّده من مغتصبيهِ
الباشق الشريد ، قنفذ المتاهةِ الذي
لا يفصلهُ عن الأبد أرخبيلٌ قَزحيّ
يتنزَّه في مرآة عدمٍ كَاسرٍ، عَدَمٌ
يرتّب المكان والبشر والحيوات
المُسرفة في الغواية.
لا يفصلهُ عن الأبد إلا شُرفات
مُحطَّمة
وكنائس مَضفورة من ضُلوع المَوتى.




محاولات فاشلة

حاولَ أن يعصرَ عظامهُ في قصيدةٍ
حاولَ أن يدفع لياليه المُوحِشة إلى المِقصَلة.
لا يمكنهُ النوم لا يمكنهُ الكتابة
لا يمكنهُ اليَقَظة.
أشباحهُ تتقدَّم إلى الغرفة
وتتمدد على السرير.
صقورٌ تَرعى في عينيه بمسرَّةٍ
قريةٌ بكاملها ترتجفُ في أحشائهِ
وجدَ نفسه جُندياً في حروبٍ لا علاقة له بها
وجدَ نفسه مايسترو لجيشٍ من المُتسكّعين.
وربما لم يجد شيئاً، عدا رماد أيامهِ
المُقبلة
وحين أيقنَ أن لا فائدة
حمل بندقيته
وبرصاصةٍ واحدة ٍ سَقَط الفضاءُ
صريعًا في الغابة.




الغرباء

من أين يأتي هؤلاء الغرباء؟
يَتدفقون من كلِّ الجهات
يقرعون الأرض بأحذيةٍ صَدئة
على أفئدتهم يَربضُ ميراثُ الجَّفاف.
من غير أملٍ
وبكثيرٍ من الوحشة.
الغرباءُ الذين ظنّوا في سالفِ الأزمان
أنَّ لهم مكاناً على هذه الأرض.
لم يعد يَعرفون العالم
لم يعد يَعرفون أنفسهم
إلا كقناعٍ في مرآة.
الغرباءُ الجَميلون.


هذا الوجه أين رأيتُه؟ أين صادفتُه؟

هذا الوجه أين رأيتُه، أين صادفتُه
في مهبِّ أحوالي ومعتركِ مَدائني:
في الحلمِ أو اليقظة، في الشرق أو الغرب
بأيّ ساحةٍ أو مدينةٍ وزقاق.
في الدُّخان المُتصاعد من حَنَاجِر الغَرقَى،
في المتوسّط وبحر إيجة، كازنتزاكي،
يتنزَّه بين عظام الإغريق، في البحر الميت
أو البحر الشمالي حيثُ القراصنة
بلحاهم الصفراء تتطاير في البردِ والضَّباب.
هذا الوجه المَوءود في قعرِ غرائزي
في ظلام ذاكرتي
أعرفه جيدًا، أعرف إيماءاته الرَّشيقة
في الأثير، أعرف خطوته
التي تُخبّئ الكنز، ذهاباً وإياباً
من غير معرفةٍ ولا جَهل، حالة
الخطر، المتدلّية من لهاة
برق الجنوب المشرَّع على النافذة،
يجعلُ ملامحه مُتلعثمةً وخَجِلةً كأنَّما نَزلَ
للحظة من قريتهِ، مخضَّباً بالحنَّاء
وجرسُ الصَّفارِد تحت الصخرة الكبيرة،
التي دُفِنَ تَحتها غزاة لا هَويَّة لهم ولا
أطماع، غزاةُ البراءةِ التي تَنبَلِجُ في فجر
العاشق للمرَّة الأولى والأخيرة.
وجهُ أمي الذي لا أجرؤ على النظَّر إليه
كأنما أهرب من جنتي المستحيلة،
الذابلة حتَّى التَّلاشي، جنةٌ لم تَكن لأحدٍ غَيري قبل أن يتصرَّمَ حبلها.
وجهُ أبي، وجهُ المرأة التي أصبحتْ مجهولةً لا عنوان لها،
وجه الوجوه، أسورة الفَيَضان؛ ليلُ المدينة -الذي ظلامه-
من وجوهٍ تتدفَّق من الجهاتَ كُلّها،
من النوافذ المُضاءةِ والمُغلقَة، من الحدائقِ والخَرائب والحَانَات،
تنخلُ الجسدَ الوحيدَ على الأريكةِ التي
طالها البلى وعبثت بها الرياح
الوجوه حين تنفجر هكذا، دفعةً واحدةً فاتحة جدوَل النَّحيب.


*نص: سيف الرحبي

زر الذهاب إلى الأعلى