بعد النُّطفة
أولَ مرةٍ فرَّطتُ بطفولتي قُربَ بئرٍ تُقبل متناثرةً عليَّ، فيما يليني من أيامٍ، وكأنني لن أقبضَ بعـد النُّطفةِ على أحدٍ، ولن أنطوي بعد الرَّحمِ
على كَونٍ.
هكذا، وبسرعتي انسحبتُ من غشاءِ القابلةِ إلى عراءٍ
لا يجتمع على نَهدٍ
في هواءٍ يلتهبُ بي وحدي
في بريَّةٍ لا يتكلم فيها الماء
أتفردُ بشاعةً عارمةً
وملامحَ أُطلقها من ضيقي فلا تعود …
حتى إن أقفاصاً تصفق ُتوقاً عني
لتطير
فهرولتُ في صخرةِ الجدران الصمَّاء
في صناديق الآبار المهشمةِ
في جفاف الغيومِ الداكنِ
في مزاجِ الأبوابِ
كلُّ مغلقٍ جاءَ ليقفَ أمامي
كلُّ ليلةٍ لالتهامِ الفجرِ
كلُّ طريقٍ من طرقاتي
يمرُّ على مقبرة
… لكنَّ الطرقات مرَّت
وكبرت القُرى تحت عينيّ
والبحر ألقى أنفاسه الأخيرة
على نافذتي
وذهب مع السور.
الصحراء طاردتني
من حانةٍ إلى حانة
خُطواتي واسعة
بلا قرار
أحلم بفمٍ مستطيل
وقلبٍ دائري،
مما جعلني على الطاولات
حافلاً بالآبار،
وعلى البحار كالطيور
أقفز من هذه الموجة
إلى تلك
وأتسلق الهواء
كأنَّني على سدرة الجيران.
دمي يدفنُ الشمس
في الغروب
خلف الجبل،
وأخرج الأمواج الطائشة
من مرآتي بصعوبة
الليل أخي بالرضاعة
والغيمة موعدي مع الصُدف.
لا أحد
لا أحـدَ قـربـي كـي أزورَ حـيـاتَه وأرتـِّق مَـوجَـهُ وأرعى
غيومَه على طاولةٍ تجلسُ عليها رياحُ دمي…
لا أحدَ
لا أحدَ قربي كي أطوفَ أصابعَه
غازياً كثبانَهُ بملقطِ عَينَي
بسكينِ الرّغبةِ
الماءُ على ضوءٍ جافٍّ
البحرُ صحراءُ الداخلِ
وتحت الدمِ يجري الندمُ
وعلى أكتافهِ ذاكرةٌ
من صخورٍ.
من فجر سابق
عطشٌ ناشبٌ بخلجانِ عذوبةٍ
… وقد نمتُ الآن كما لو أنَّني رغبةٌ
من فجرٍ سابقٍ
وأيضاً غيوم دمي
على وديان يديك
تتذوقُ الخطرَ
لم أجد قربَ وجهي
ما تجدهُ العيونُ عادةً
لم أجدِ الرحمةَ
ولم أجدِ الارتواءَ
كلَّ غُروبٍ أجمعُ حُطامَ جبالي
وتأوهاتِ البحرِ
وأقطعُ طريقَ نفسي
حتى الرَّبوةَ في داخلي
ومن هناك أنحني على مرآةِ عطشي
كُلَّ مرة أقبضُ على بَدَدٍ
حتَّى عمَّ
حتَّى عمَّ العَماءُ
عَمَّ…
وانهمرَ.
نص: أحمد راشد ثاني
من ديوان: حافة الغرف