أطراف النَّهار – أمجد ناصر

                
(إلى جميل حتمل)

I

لأنَّني ما نجوتُ من أملٍ حتى وقعتُ في غيره وما بشَّ لي قناعٌ إلاّ واتّخذتُه نجيَّاً، فقد مِتُّ لا كما يموتُ الماشي مرَحَاً بين أقرانه اليقظين
 ولكن كمَنْ ماتَ كثيراً، فلما جاءَ الموتُ ضاحكاً تحت قنزعتهِ الخضراءِ وأسبل عينيَّ على شعاع الوداع الطفيف لم أصَدِّقهُ فقد كنتُ أظنُ الموتَ جَلجلةً،

“صرخةً عظيمةً تودعُ كلَّ ما استسلمنا إليه فاغتنى وهجرنا”
 لا مجردَ غفوةٍ في سريرٍ قاحلٍ،
سريرٍ وحيدٍ
في عَراء البياض.

هناك من يموتُ يأساً وأنا مِتُّ لأنَّ الأملَ
 ظلَّ يحجلُ حولي فالأملُ، صيّادُ النفوسِ الضعيفةِ،
يأخذكَ إلى أصلِ الماءِ ويعيدُكَ ظمآنَ،
يلعبُ بك لَعِبة البيضةِ والحَجر.

لم أكنْ أعرفُ
أنَّ الأملَ
أزهقَ أرواحاً
بهذهِ الكثرة.

متُّ كثيراً وظللْت أُجَرْجِرُ نفسي تحتَ طائلةِ الوعودِ
فكلُّ من يعرفُني يعلمُ كيف يغدو الموتُ حلماً
تزيِّن له أشرسُ الليالي فراشَها
تُبخِّرُ الشراشفَ
تناديه بألطف أسمائه
ولا يأتي.
ليس الموتُ سهلاً حتى نغويه بكأسٍ أو نرمي إليه
قمراً بدَّدَ العُشَّاقُ تحت ضيائه ثروتَهم من الدموع
فمن رأى يديه مثلي يعرفُ كم صعباً أن يعودَ
 الغائبُ إلى كفِّ أمه ليشرَب.
فلا أحدَ يعودُ كما خرج
وليس للماء ذاكرةٌ لتحفظَ أوجهَ الغائبين
ولا أحدَ يموتُ وقتَ يشاء.

لا تصدقوا المنتحرينَ الذين يَرمُون أنفسهم في الأنهار أو من فوق بنايات مأهولة بالنائمين
شيءٌ آخرُ غيرُ طوالعِهم استلَّ شَعْرَتهُ من عجائنِ الليلِ
وأرخى عليهم سُدوله.
فعلتُ كلَّ ما يفعلونَ ولم يضع مَنْ يلهو بالساعات
ويطعمُ العقاربَ سُكَّرَ الغَفلةِ شيئاً في يدي.
 ابتلعتُ مرةً مئةَ حَبةِ مُنوِّمٍ،
 أكلتُ حتى بشمتُ من عنب الأفعى،
طرحتُ طولي كلَّه على سكةِ المترو
وحزّه الهديرُ من الوريد إلى الوريد،
سدَّدتُ قبضتي إلى قلبي المعلقِ بخيطٍ
في فراغِ الجوفِ ورحتُ أشبُّ بكلِّ قواي؛
لكنَّ شيئاً لم يسقطْ من الغصن المنحني على طرف النَّهار،
الأوراقُ وحدُها اصْفرتْ وتحنَّطتْ في خريف الأملِ الطويل.


II

ولما تعبتُ من جَرْجَرةِ نَفْسي بيَنكم نمتُ
 فرأيتُ عابراً مائلاً يشُبهني يغذُ الخطى في أصيلٍ بطيء.
حاولتُ أن أتبينَ وجهَهَ فلم أستطع
فكلما فعلتُ جعلتُ أغوصُ في عهنٍ منفوش؛ سمعتُ همهماتٍ ووقعَ خطى تتراجعُ وغامتِ الدنيا
في وجهي وراحتْ تطفىءُ مشاعلَ فوق قلاعٍ غامضة
وترفعُ دلاءً من آبارٍ غاضت مياهُها؛
أسمعُ صريرَ بكراتٍ
وحبالاً تُسْحَبُ
وطرطقةَ دلاءٍ فارغةٍ
جلبةً
خطى
نداءاتٍ
تتـ
لا
شى.

يبدو أنّني متُّ وإلاّ كيفَ أرى من وراء جفنيَّ المخيطين
 ولا أحرّكُ ساكناً في جبل القطنِ الذي انزلقتُ إليه.
فمي ناشفٌ تماماً وحلقي حِقُّ فلينٍ وما خلتُه صوتي
 كان صدًى يتردَّدُ في مجرى جافٍ
فما حاجتي، على كلِّ حالٍ، للكلامِ في حِمى أبويَّ.

حَسْبي أن أنفضَ يديَّ مما كرهتُ فأفسدَ دمي
أو ممّا
دببتُ
على أربعٍ
كُرمى له.

أنا الآن بلا اسم أنادى به،
تركتُه ينهضُ بعبء نفسه؛
في برزخ الماء والتراب
لا يسألُ الظلُّ
عن أصله.

فليضعْ من يلهو بالساعات ويربّي العقاربَ تحت بروجٍ مشيّدةٍ أكبرَ عقاربِه في جفنةِ العنبِ، فالرِّيحُ تجمَّدتْ في قصبة الناي والريشةُ التي ظلَّتْ تسقطُ من طائر الأجلِ وصلتْ،
 فشكراً لكم إذ أرسلتموني ببزتي المقلّمةِ وقميصي الليلكي
إلى أبويَّ فقد كدتُ من فرط تأثري أن أشدَّ على أيديكم
 لولا أنني لا أعرفُ كيف تكونُ ملامسةُ أيدي الميّتين.

III

عارياً خرجتُ وبأفضلِ كسوةٍ عندي أعود.
أمي الرَّهينةُ نوِلِها تنتظرُ
فالأمهاتُ يحكْنَ انتظاراً لا مثيِل لأقطانه
وأبي، لاعبُ الأكروباتِ الفاشلُ، يؤرْجحُ السرطانَ، برهبةٍ، على أمتن حباله الصوتية.
أيامي نفدت في مدينةٍ يتناسلُ أهلُها
في حاضناتِ البرقِ ويتغذونَ بالوشائع.

جاء مرةً جابٍ
ووجدَ عدَّادَ
الكهرباءِ مفصولاً
ولم يفهمْ
كيف تنبضُ غرفتي
بالفولتات!

أحببتُ وخرجتُ من الجهة الأخرى بأكثرَ من ضلعٍ
 ناقصٍ، فالحبُّ ليس أقصرَ مخلباً من الأمل.

اسألوا قلبي الذي تركتُه
يصخبُ كعبدٍ تحرّرَ من زرد الليلِ
على طريق التي كلّما مزَّقتُ
من أجلها وريداً
أحبَّتْ سواي أكثر.

لم يبق حاجزُ “مترو” لم أقفز عنه
ولا شارع إلاّ تَخزَّنَ في ذاكرةِ قدميَّ،
 كتبتُ قصصاً عن الحبِّ والجنونِ لم تعجبْ أصدقائي المُتَطلِّبين؟
فلم أكن مهتماً بالصنيعِ بل بتصنيفِ مراتبِ الخديعة.

ليس لديَّ ما أفعلُهُ هنا ولا في أي مكانٍ آخرَ
 لذلك أتركُ لكم كتبي وحرائقَ الحصادِ في اللوحات
 المعلقةِ على جدرانِ غرفتي والأيامَ الموعودةَ
التي لم تأتِ فاعطوها لعابرٍ مائلٍ بين ليلتين بلا نجوم.

الخريفُ فصلٌ مثالي لتوديع باريس.

زهرُ النَّردِ يتساقطُ، بغزارةٍ، على مربعات الصّدفة.

السائرونَ نياما يعودونَ إلى مضاجعهم.

الجبابرةُ يتحَرَّرونَ من صريفِ أسنانهم.

شَمسُ المصلِ تغمرُ مستشفى “كوشان”
 وفي الخارج أصدقاءٌ مجازيون يُدخّنونَ في ضجرٍ
 لا تخفيه وجوهُهُم المقطبةُ أو ينكثونَ الأرض برؤوسِ أقدامهم.

هناك ذئابٌ لا تُرى بالعين المجرَّدة
تُقعي صامتةً في العطفات والنواصي
 وهناك من يسمعُ ما لا تسمعون.
غير
أنَّ
الحياةَ
سَرْجَ الأملِ الرَّخوِ على ظهر حصانٍ جامحٍ
تستمرىءُ وعودَها
تأخذُ
وتُعطي
من غلّةِ الريح.


(لندن ـ شتاء عام 1995م)

(*) إشارة: يوظف هذا النص شذرات من ريلكه، دانتي، سفر أيوب.
من ديوان: كلَّما رأى علامة.

زر الذهاب إلى الأعلى