السمكة في الداخل – ندى قطان

أقترحُ عليك الشمس ويومًا من الهواء

السمكة في الداخل

اليوم فقط ناداني رجل عابث قائلاً: “أيتها السمكة!” رسم الرجل بيديه شكلاً ما بدا لي أشبه بجرّة ماء طينية ذابت من فورها قبل أن تقسو في الشمس.

لم أجبه. بل فكرت فوراً أنه لابد بأني ذراعي الممتدتان تجذفان دوماً هنا وهناك قد استحالتا زعانف مفيدة. وأن قدميّ المسطحتان قد أصبحتا ذيلاً رشيق الحركة. ثمة انقلاب موجي داخلي يحرُثُني فأتنفس ، ويُخرجني نحو الشمس الحارة ، ثم يعود بي إلى أعمق نقطة في البحر الأعمق دون أن أغرق.. رحلة تجري بسلاسة ودون مقاومة… كل المخلوقات التي تشبهني تحوّلت في أطرافها بطرائق مختلفة أيضاً ، لكن السباحة في داخلي هي شيء آخر يطرقُ كل يوم معنى جديداً عصيّاً على اكتشاف بقية الكائنات الحية كلها.

كانت الخراف تتحرك متتابعة في السماء. بإمكانها أن تكون خرافاً بيضاء أو غيماً أبيض ولن يُحدث ذلك أدنى التباس في المخيلة ؛ بإمكان الشمس أن تكون كرة ركلتها فيلسوفة ما بطيش.. دون حساب الزمن أو ساعة رملية دقيقة تنفذ حباتها عند الأفق فيقبض الإله على ناصيتيها ويقلبها رأساً على عقب بصبر نافذ دلالة على مضي يوم كامل بأربع وعشرين ساعة أو 1440 دقيقة أو 86400 ثانية (والثواني هي حبات الرمل نفسها هنا) 

لا فرق عندي إذاً في مسببات الأشياء أو آليات العمل. ربما أفضل أن تكون الشمس ببساطة كما تبدو لي: حبة مشمش ناضجة أرميها في فمي وأخفيها في جوفي كي ألج الليل. ثم ألفظها حين أريد كحبة در حين أريد أن يكون النهار.. فيكون. لكن هل بمقدوري فعل ذلك؟ إذاً فلتكن شمساً أو كرة أو ساعة أو حبة مشمش. لا فرق يحدث في المخيلة. لا يُحدث المنطق فرقاً.

***

الحلم

لا أحسُّ بالبَتْر وأنا أدخن. 

سجائري أصابع إضافية لمن لا تكفيهم الأصابع الخمس الأولى. أصابع نحيلة بيضاء لفتاة في العاشرة.. التهمها بين شفتيَّ وأنا على الشرفة المطلة على الاسفلت الساكن ، وفي سريري – وأنا أعلم جيداً أن رزان لا تزال مستيقظة رغم أنها مغمضة العينين..

في ليلة ما كنت أقفز على ساقي الوحيدة في الحلم محاولاً اللحاق بالميكروباص الأبيض الصغير الذي يقلني إلى مقر عملي في الكتيبة 1. حين استيقظت كان جسدي ينتفض كسمكة شبوط خرجت من وعاء الماء وسط دمشق، ويتفصد عرقاً كأنه خرج تواً من معمعة الفعل الجنسي.. فكرت بأن جسدي هذا لقمة سائغة في الفراش ؛ وسجائري غير موجودة أيضاً بقربي على الطاولة..

على مقعد الحديقة ، مقعد الاحتياط… هكذا كنت أرى نفسي والشمس تغمرني على شرفتي.. سجائري التي أحتفظ بها في خزانتي اختفت أيضاً. ثمة أعقاب السجائر فقط – وهي تشبه فخذي الأيسر.. عندما كانت تقول رزان أنني أدخن كثيراً ، كنت أشعل لفافتين معاً ؛ أنفث دخاني فوق شاربيّ ، فيهتزان كقرون الاستشعار، وأبدو كقدر يغلي..

الشمس تصبح الآن شديدة جداً كأنها قوة مكرِّسة لفعل شيء ما. الشمس شباك مفتوح، أو هوّة ، أو مقبرة جماعية مكشوفة. تدفعني مثلما كانت تفعل عندما كنت في الخدمة.. أنا خارج المنزل الآن. أقفز مثلما فعلت في الحلم.. لا يسعني التوقف! الاسفلت الساكن يتلقى ضرباتي التي تشبه ضربات ازميل.. ويبقى متزناً، فأشبعه ضرباً أكثر وأكثر. ليس العالم في الخارج مليئاً بالدموع مثل رزان.. لا يثير تنقلي بين الناس على هذه الحال فضولهم أو استغرابهم – ربما كان الناس ، وأعمدة النور ، والأشجار ، والأبنية هم من يقفزون باتجاهي.. أستطلع أوضاع المارة رغم ذلك، وأتحرى أجسادهم فأجدها كاملة، كاملة – مثل جسد رزان.

***

تُرهبني الطبيعة

حين أخرج من فوهة المدينة السوداء

إليها.

شجر طويل يتكاثف ، يتكتّم..

فلا أفهم!

لا سماء إلا في المنافذ الضيقة المخاتلة

بين الورق..

النافذة في غرفتي

متسع نحو الأفق.

لا أفق في الأفق..

سوى غابة اسمنتية متدرّجة..

ساكنة.

قطط بيضاء ترتادها أحياناً

فضولية ، متشردة..

لكن ذلك لا يعني شيئاً ،

لكن ذلك يشبه شياً ،

مثل رسم ما

في غرفتي ، المتسع الأعظم هو طاولتي

بل صفحة بيضاء.

الشيء يعنيني فأرسمه

الرسم يسكنني ، فأنسى الشيء

الأشجار في الغابة أناس تقف

على ساق واحدة.

امرأة بساق،

رجل بساق،

أطفال مثبتون إلى التراب..

بساق،

الجوقة.. واقفة بسكون

***

المشهد

قتيل يجثو فوق الطريق.

لا تنقذه!

والضوء في الساعة العاشرة مكسور مشظى

ربما ينوي الراحة.. يغفو قليلاً هكذا في العتمة.

ومواء قط ضئيل شارد للهواء..

ليس لك.

وغبار عالق فوق شبابيك المدينة

يتنفس حتماً بعد عناء سفر

من شدة الريح.

وغراب جريح..

أو أنه يحتفل للمرة الأولى بلون غريب

ورقص غريب.

ما أدراك أنت في المشهد العام؟

***

قهوة أخيرة

يأخذني أساه..

حين يسقط العالم في الصباح

فوق رأسه ،

وفي فنجان قهوته.

وأقول له: الكتابة هواية غير مكلفة.

فيقول أنها جد مؤلمة.

وأقترح الشمس ويوماً من الهواء..

فيمد أشرعته حولي

في غرفة ملآى..

بأشياء منه.

ويذكرني: العالم في فنجاني.

فأتذكر: بلى وبدون سكر.

والمشي مربك..

أذكره بالمواعيد الملحة

وتلك الرسائل والتنبيهات

فيبعدها في الهواء.

يقول أن ساعته محطمة

والناس كما يراهم ثقوب سوداء

(كرماد دخانه كما يشير)

ثم أنه ليس بمقدوره الخروج عارياً،

وأضحك،

في ثوبي المليء بالأشجار،

ويبسم، ثم يقرر أن يحتسي اليوم فنجانه. 

وأقترح قهوة أخرى جديدة!

زر الذهاب إلى الأعلى