ثقب واحدٌ ووحيد – عبدالله حمدان الناصر

تؤرقني فكرة موت رجل أعمى. تؤرقني لأنه يجب أن يحصل الموتى على عيون سليمة ليمارسوا حياتهم بشكل حر بعد الموت.

لا يوجد ما يدل على أن الأعمى يستعيد بصره بعد الموت، وينبغي لهذا أن نذهب للموت بنظر جيد.

حين أصبت بمياه زرقاء وفقدتُ إثرها عيني اليمنى كنت قلقاً من الموت قبل إجراء الجراحة التي قيل إنها لن تسعف سوى العين الأخرى. وحين توقف قلبي بشكل مفاجيء في غرفة العمليات كنت سعيداً أن الطبيب قام قبل موتي بإنقاذ العين اليسرى من ضغط الشلالات الزرقاء التي كانت تهدد بعمى تام.
ينبغي القول إنني كشخص ميت لا أستطيع إخفاء سعادتي بعيني اليسرى. العين التي لن تنظر لأحد بعد الآن!

هؤلاء الذين يعيشون بعين واحدة يخسرون نصف الحياة ولا يربحون كل الموت. فعين واحدة تشبه حباً من طرف واحد. والعيش بعين واحدة يشبه عاشقاً واحداً ووحيداً يزور كل ليلة باباً لم يعد يدور فيه القفل.
العيش بعين واحدة يعني أن تستغني عن نصف مكتبة لأنه لم يعد لديك مكان ولا شباك يكفي لتشميس مكتبة كاملة. والحياة بعين واحدة تعني أن تكتب مترنحاً لأن أصابعك التي كانت حاسمة كوعلٍ باتت تصل إلى الحروف وهي تعرج.
أن تستيقظ في الصباح للصلاة ثم لا ترى وجهك في المرآة بوضوح بعد الوضوء. تدعك عينيك مراراً وتنضح الماء على وجهك دون أن تعود إليك بعض كِسر وجهك المسروق. ثم تستسلم لفكرة أن عينك الغاربة أصبحت نافذة قديمة مطلية بغبش ثقيل ولاصق يخنق الضوء. لكنك تتنهد أمام المرآة وتمرر إهانتها لك بنكتة. تصلي وأنت تتخيل نفسك قرصان جزيرة الكنز ذي العين الغاربة فتختلط الصلاة بضحكة ودمعة زرقاء.

العيش بعين واحدة يعني أن تقضي بقية عمرك في الاهتمام بعضو ميت في جسدك. كونه ميتاً لا يعفيك من مسؤولية غسله وتنظيفه كل يوم وجعله نقياً وضاحكاً عند مقابلة الناس وعند الجلوس للمصور الفوتوغرافي. إنه حب من طرف واحد كما قلت. على عينك الميتة ألا تلفت النظر إلى موتها وأن تستمر بإثارة بهجة الآخرين.

أتذكر أن أمي التي قضت أيامها الأخيرة في الاعتناء بخمسة وعشرين ديكاً انتبهت مرة إلى أن عين أحدهم ليست على ما يرام. لم تتردد بإخراج قطرة عينها التي وصفها لها الطبيب وأمرت الخادمة بالتقطير لمدة أسبوع في عين الديك المريض الذي شفي تماماً وانضم إلى مجموعة الخمسين عيناً التي كانت تصنع صباحات أمي!

فقط أفكر أنني لو كنت استطعت الاحتفاظ بامرأة ما لربما كانت انتبهت لمد المياه الزرقاء التي كانت تلتهم نور عيني بهدوء تام.

***************

في الفندق الياباني يضعون ملصقاً تحذيرياً لطيفاً: (نعتذر عن عدم تنظيف أي كأس يحوي بقية سوائل).
يعتذر اليابانيون للنزلاء خوفاً من إتلاف عدسات لاصقة غير مرئية قد يكون النزيل تركها في كأس ماء أو قدح قهوة.
ينبغي التمثل بالروح اليابانية المرهفة التي تقدس البصر. وعلى الأهل الذين يقومون مثلاً بغسل أحبتهم فوق منضدة الموتى ألا يزيلوا العدسات اللاصقة من عيون ذويهم. فكما قلت ينبغي الذهاب للموت بنظر جيد كما يذهب العاشق لرؤية فتاته للمرة الأولى.

أيضاً على الأهل ألا يزيلوا الأقدام الصناعية من الأموات قبل وضعهم في منازلهم تحت الأرض.

ليس من العدل دفن شخص بقدم واحدة. ليس من العدل تفويت النزهات الجديدة تحت الأرض على من فقد ساقاً فوق الأرض.

ما يبهج حقاً هو أن الموت يعفيك من نصائح الأطباء. فبعد الموت لا يلزمك أن تسقي كليتك كل يوم بالمياه كي لا ينبت الحصى واللؤلؤ في خاصرتك. لا يلزمك أن تسقي عينيك طيلة حياتك بقطرات البيتا بلوكرز كي لا تصبح أكثر زرقة. الموت لا يشترط كل هذه المياه كي تصبح صالحاً للعيش. الموت يقبل بك كما أنت.

***************

مفاتيح الوحيد أكثر ما يقلق بعد الموت. المفاتيح التي يجب أن تظل معلقة على الباب من الداخل أثناء حياته كي يتذكر أخذها معه عند الخروج. المفاتيح التي وزع منها نسخاً احتياطية على الأصدقاء على الأم على الأخت على الحبيبة المقيمة في قارة أخرى كي يلجأ إليهم عندما ينسى. كي لا ينام في الشارع.

لا بد في المقابل من المفاتيح بعد الموت ولا بد من وسيلة لعدم النسيان. لا بد أن تربط المفاتيح برباط ضاغط وقوي على راحة الأموات قبل إنزالهم في منازلهم. لا بد من مفتاح البيت كي نفتح باب القبر.

ثمة أيضاً رغبة آمل ممن يقوم باستلام جثتي أن يحترمها. أريدهم أن يتركوا خاتم الذهب في إصبعي، وأن يُسمح لي بالاحتفاظ به بعد الموت. أنا مؤمن بوجود عصفور الذهب الذي يعرف أماكن الذهب تحت الأرض مثلما كان هدهد سليمان يبصر مكامن المياه من السماء.

أحتاج إلى عصفور يزورني ويدل عليّ بعد الموت.

***************

أفكر أنني ولدت جاهزاً للموت! فحين ولدتُ توهمت أمي أن الملائكة قد أجرت لي عملية ختان سريعة أعفت الأطباء من مهمة (تطهيري). وهكذا عشت بفكرة طهور ملائكي مبالغ فيها جعلتني أعيش بقلفة أطول مما يجب. الملائكة في الواقع لم تقم بإزالة الكثير من الجلد. وهذا يعني أنها لن تضطر لفعل شيئ بعد موتي إزاء تلك القلفة.

يقال إنها ستمطر يوم القيامة على عظام الأموات، وحينها ينبت الموتى كثمار مؤجلة من قبورهم ويخرجون عراة بقلفات كاملة. هذا يستلزم بالضرورة أن الملائكة ستجري ملايين الملايين من عمليات إعادة القلفة للذين قام أهلهم بختانهم. ولهذا أعتقد أنني جاهز للقيامة منذ ولدت.

***************

في كل مرة أجلس على كرسي الحلاق أكون متعباً وأغمض عينيّ كطفل أثناء الحلاقة. في كل مرة ينهي الحلاق تهذيب ذقني أو تزيين شعري أو صبغه أكون في وضعية النعاس الآمن والأجفان المغلقة. قال لي مرةً : هل تتعمد المجيء هنا كي تنام؟

أتخيل أنني ربما متّ على الكرسي جلوساً مثل نبيّ حكيم دون أن يشعر بي الحلاق.
أتخيل أن خصلات شعر الزبون الميت تتهاوى على حجره، وأن الحلاق يستمر دون كلل في تزيين وجه رجل متوفى دون أن يلحظ شيئاً! أليس جميلاً أن نذهب للموت بزينة كاملة؟

***************

تنبيه: ثمة من قال إن على الشعراء أن يموتوا في السابعة والثلاثين.

***************

ثمة أشياء لا علاقة لها بمنضدة الموت التي أكتب فوقها لكنني أرويها لأنني لا أضمن أنني سأتمكن من روايتها في مكان آخر.

أشياء مثل التّكّات الخفيضة لساعة الجار المفقود التي أسمعها كل ليلة.
أشياء مثل الجارة الأخرى التي تضع قطعة أثاث محطمة أمام بيتي كل صباح. الجارة الوحيدة التي تصرّ على بثّ رعشتها الغامضة بمفردات فرنسية! والواقع أنني لا أفهم لماذا يطلق الفرنسيون على الرعشة الجنسية مصطلح (الموت الأصغر) أو La petite mort، بينما يحتفظ العرب بهذا المصطلح لمجرد النوم!

ثمة أشياء تافهة ليس هذا محلها لكنني لا أضمن أن هناك فرصة أخرى للحديث عنها: الجيم الحلوة التي تتلكأ في فم ماجدة الرومي وهي تغني (يوم ال حبك جننني) في أغنية (اعتزلت الغرام) هي أكثر ما يلفت انتباهي في مسيرتها الفنية. أسمّيها جيم الغرام. وأقلد تلك الجيم في الممرات حين أغني لنفسي فأبتسم.

أفكر أيضاً بالسيدة الجميلة الطويلة ذات الشعر الأسود التي ترقص بطريقة تثير التعاطف. أعني رفيقة جورجيت صايغ في مشهد بالأبيض والأسود في أغنية (نطرّني ع الشبّاك)! المرأة الحلوة التي كان يمكنها بقليل من الجهد أن تتقن الرقص!

وأفكر بالسبب الذي يجعل خيال الأطباء فقيراً لدرجة أنهم لا يجرون العمليات الجراحية فوق سرير مزدوج مفضّلين الفكرة الراسخة بجعل سرير المرضى المنومين مفرداً.

سيكون شيئاً لطيفاً أن يحلم المنوّم أثناء خياطة عينه بحضن شخص يحبه!

***************

لو أنهم أيضاً يستدعون بيجان مرتضوي ليشارك الجراحين مهمتهم بكمنجته البيضاء التي ترتاح على بدلته البيضاء وهو يعزف بإخلاص موسيقاه المالحة (شيراز)؟

***************

طلبت مرةً من الموت أن يأتي في الليل:

( لو يجئ الموت ضحىً

حيث الساكنون تركوا شاياً بارداً
في الفناجين
والمقابض بردت من غياب السابعة

لو يجئ ضحىً
على رؤوس أصابعه
خاطفاً قبلةً على سريرٍ بارد ………

سيبدو الأمر
مثل تقبيل جثة
في الفورمالين .

ليأخذني الموت إذاً
في الليل

لحظة أحلم بك )

وأقترح لهذا أن أن يضعوا على الأسّرة مملحة بثقب واحد وأن يخفضوا الأنوار في غرف العمليات حين يجرون عملية في النهار.


*نص: عبدالله حمدان الناصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى