حكاية الرجل الذي صار ظلَّاً– بسام حجار



ما كنتُ منذ البداية هكذا. أقصد لم يخلقني الله هكذا، وحيداً ومتروكاً للحيرةِ، إذ لا أجد من يَصحبَني وأكون ظلّهُ. ولكن ليتني أذكُر بالدقَّة التي تَتَوخُون كيف جَرَى لي ذلك فأصبَحتُ ما أنا عليه الآن، أو منذ بعض الوقت.

أَجدُني لا أَقوَى على الحَرَكةِ، مُقيماً سوية البَلاط لا أبرح. وما يدور عليَّ من مواقيت يبدِّل من أحوالي وهَيئتي، فلي مع تبدلات الإضاءة بين مواقيت النَّهار والليل قصص أعجب من أن تُروى هنا، ولا يَتسع لها مصنف كامل من ترهات بورخيس. فالصباح يَجعلُني منبسطاً على سويَّة الأرضية المُلمَّعة، والظهيرة تُلصقني بالأشياء العمودية الواقفة ولا تتعب، ثم تتدرج بي الحال إلى استطالة تشوُّه قواميّ الطيفيّ حتّى يَكسرني الغُروب بانعكاسهِ الشَّفقي إلى نِصفين. نصف من أسفلِ الرَّكبةِ إلى القَدمين، والنصف الآخر من أسفل الرُّكبةِ أيضاً إلى هَامتي، فأقف بانحرافٍ ظاهرٍ على جدار ولا شيء يَسندني، إلى أن يحلّ الظَّلام فيذيبني في كنفهِ كأنَّنَي قطرات حبرٍ أو ماءٍ ملوَّن تمتصُّهُ ممحاة غريبة لا قوام لها.

بلى، ما أخطأتُم الحسبان، فما أتحدثُ إليكم عنه هو الظلُّ الذي صرتُه منذ بعض الوقت، لذلك يَصعبُ أن يَبصرني أحدُكم في الليلِ أو في عَتمة المَكان. كأنَّني أنتمي إليه أو أصبحتُ مِلكاً لهُ مذ غَادرني صاحبي وانتظرتُه طويلاً هنا ولم يعد. فقط بوسع واحدكمٍ أن يَراني في الضوء. في ضوءٍ فاضحٍ لا أَرى منهُ شيئاً. وطبعاً لن أشرَحَ لكم هُنا ما تَعرفونه جيداً بأنَّ الظلّ لا يَراكم حين ترونه جيداً لكنَّه يُلازم حركاتكم وسكناتكم ولا يغادركم إلا حين تلوذون بأسرّتكم الدافئة وتحلمون.

 ألمعيٌّ هناك يقول: وماذا عن السير في الظلمة حيث لا ظلّ يَتبعُنا؟ فأقول من فم الظِّلال إياها إذا جاز لي أن أقول: يكون من هو مِثلي فدية نجاتكم من العبور إلى الجهة الأخرى. ليتخيل أحدكم الظَّلام مرآة، ولو معتمة، يسير بمحاذاتها على وجه الدِّقة، ويَصحبه الظل، في الجهة الأخرى من المرأة حيث يسود الظلام، ولن يخطر ببال أحدكم الأهوال التي يصادفها من هو مثلي هناك. ولكن لندع هذا الأمر جانباً، فليس في نيتي أن أشكو أو أن أجعل من ذاتي المعدومة رمزاً لبطولة الخوض في عالم الظُّلمات وإلا لأدركني المساء قبل أن أروي على مسامعكم ما صرتُ إليه منذ بعض الوقت.

ذات يوم ألفيتُني وحيداً. كان الوقتُ مساءً والظُّلمة حَالكة فلا يَبصر صاحبي إصبعه حتّى لو ألصَقَها بعينه الحَاذِقة. كان مُستلقياً على الكَنَبَةِ في ثيابهِ المُعتَادة وكان يَجهشُ في البُّكاء. يَشرب كأساً تلو الأخرى، ويشعل سيكارة تلو الأخرى، ويجهش في البُّكاء. وكانت الظلمة قد أذابتني في كنفها وامتصَّتني لكنَّني، في هيئتي السائلة، كنتُ أقعي عند قدميه لا أُغادر. أشبهُ صَاحبي في كلِّ شيء، أَقصد في ما عدا التشوُّه الذي يُسببه لي تبدَّل الضُّوء فيقرُّ منّي أو يمطني لكي أبدو دميماً، أُشبه صَاحبي إذًا في كلِّ شيء ولكنَّني ما سَلكتُ نعمة البكاءِ أو عَرفتها من قبل. وعلى الرغم من وَفائي لصَاحبي ما تمكنتُ يوماً من مُجارَاته أو إبداء التَّعاطف بدمعةٍ أذرفها حتى ظننتُ يوماً أنني من الغلظة والفظاظة ما يفوق الوصف. كان صاحبي يجهش في البكاء. ثم غادرني. سمعت دوياً أو ربما جلبة ارتطام هائلة، لست أدري. وفي اليوم التالي وجدتني هنا وحدي. وفي اليوم الثالث أيضاً. وفي الأيام التي أعقَبت ذلك إلى اليوم، بتُّ وحيداً لا قُدرة لي على الحِراك من مكاني. زوجة صاحبي وابنته لا تُعيران انتباهاً إلى الثَّكنة الطفيفة التي تبقع البلاط وموضعاً واطئاً من الجدار. وذات يوم، جاءت الزوجة بالممسحة وعدة التنظيف وحاولتْ أن تَمسَحني بكلِّ ما أوتيت من قوَّة وعَصَبية ولم يمح من هيئتي شيء. فحسبت أنَّني مُجرَّد بقعة من الرطوبة تسرَّبت من أسفل الحائط إلى البَلاط. وكفَّت عن المحاولة. وأصبحت تُحاذر إذا مرَّت بقربي أن يداني ظلّها ظلّي خَوفاً من بلل الرطوبة وشؤمها وكم وددتُ أن يألفني ظلّها فأصبح ظلًا له عَلَّني أجد من أتبعه في روحاتِهِ وغدواتِهِ. حتّى الابنة لم تَتَعرف إليّ وكنتُ دائماً في صُحبة ظلّها حين يرافقها صاحبي في نُزهة قصيرة في الجوار. ليس بِوسعي أن أكون شبيهاً به لأنَّ لا مظهر ولا هيئة له. كان وسيماً، مُستقيم القامة إلى نحول، عصبيّ المَزاج والحركة. وكنتُ أُحاكي حركاته وسكناته ثم غادرني ولا أعلم إذا كان يصحبه ظلٌ آخر هناك.

وأصبحتُ هُنا بلا نفعٍ أو قيمة حتّى وددتُ لو تمرّ بي سُلحفاةٌ فأكون ظلّها، لو يمر بي كلبٌ فأكون ظله، أو حصاة فأكون ظلّها. ذلك أني بتُّ أخاف أن تَمتصّني الظُّلمة مرة واحدة وإلى الأبد. ماذا أفعل بالضوءِ الذي يطلع كلَّ صباحٍ إن لم ينهض صاحبي من نومه، بجسمه كاملاً. الرأسُ والذراعانُ والجذعُ والساقان، لكي أتبعه فتدوسني أقدام السَّابِلة ولا ينال مني ألم، بل أواصل زَحفي الخفيف بين الحصى والنَّقح والعَجلات والنفايات، لا تعيقني أو تلوِّثني، خفيفاً وقانعاً لا أعرف لسعادة الصُّحبة مثيلاً.

ماذا أفعلُ الآن إذ غَادَرني وانتظرتُ طويلاً وما عاد بعد؟ كيف أقضي مَلاوة الدَّهر، فلا عُمر لي، في الركن وحيداً؟ ما الذي يُبقيني على قيد الحياة؟ آسف، لا بد أنكم أدركتم خطأ العبارة. أقصد ما الذي يبقيني، على أن تكون الحياة لكم ولسواكم ولمن يرغب أيضاً. لا تزيلني أحماض ولا يُحطّمني ثقل ولا يَطمرني تراب. رحماك أيُّها الضَّجر!


*نص: بسام حجار

زر الذهاب إلى الأعلى