محاولة وصْل ضفَّتين بصوت – وديع سعادة

كنتَ تريد شيئًا يطير، طلبتَ تبغاً وأضفتَ أخَوات إلى الحمامات في فضاء الغرفة. كنتَ تريد شيئًا يطير شيئًا يخرج من النافذة، فرميتَ نفسك عبر الزجاج. لكنَّ نقطة الدم التي خرجت منك، ظلَّتْ في الداخل.

أنت الذي الآن في مكان آخر وثلاثُ بطَّات تنام أمام بيتك، كنتَ تحدّق طويلاً في الجدران كي تسمع أصوات آبائك المعلَّقين. دعني إذن أتحدَّث إليك، اسمعْ صوتي، صوتي من هذا المكان، الذي هو صوتك من المكان الآخر.

ساعةَ عرفوا ناحَ بعضُهم وبعضُهم ظلَّ صامتًا وهم يرافقوننا إلى مكاننا الأخير. أخذونا في صندوق، محمولَين بثماني أيد وبنظرات كثيرة. كنتَ تنظر إليَّ أنا الحيُّ فيك، وأنظر إليك أنت الميت فيَّ. تريد أن تبتسم لي، وأريد أن أبكيك. لكننا صمتنا، وتركناهم يدفنوننا هناك.

نحن اللذين يتكلمان مع نفسيهما الآن، أنت من هناك وأنا من هنا، نحن الواحد: الحيُّ المتحدّث مع ذاته الميتة، ماذا لدينا بَعْدُ غيرُ الذكرى؟

لم يكن عند أهلنا بطّ. غير أننا، من كثرة ما حلمنا به، جاء أخيرًا ونام على بابنا.

لكنك كنت تغادر.

وصلوا ولم يروا دمًا. الدم ظلَّ في الداخل. ليس في الداخل تمامًا وليس في الخارج تمامًا. على حافتهما. على الزجاج. على الحافة التي ما كانت في الخارج ولا كانت في الداخل.

أنت النائم الآن ولا تهتمُّ بدم. النائم بعيدًا وثلاثُ بطَّات تنام أمام بيتك. لا تجزعْ سأطعمها. في الخزانة حبوب. اشتريتها أنت ذات مساء، حين كنتَ تمشي وحيدًا في المدينة حالمًا بها.

وجاءت.

لكنها، هي أيضًا، لم ترَ دمك.

وجاء غيرها. الناس والأشجار والطيور، ولم يروا دمك. أوصلوك إلى قبرك، وعادوا.

حملوك لأنك لا تستطيع أن تصل وحدك.

وأهالوا فوقك التراب لتختفي.

بين هذه الجدران أمضيتَ حياتك. وُلدتَ في الزاوية، وأقصى رحلة كانت من الجدار إلى الجدار.

كنتَ تريد شيئًا آخر. صراخك لم يكن إلا نداء لهذا الشيء في الخارج. لكي تخرج، ولو نقطة دم واحدة، من النافذة.

لم تكن تنادي منذ ولادتك غير الموت!

اعطني كأس ماء. ظمآن أريد ان أشرب. اعطني فقط شيئًا دليلاً على أنك لا تزال تراني.

عيناك مغمضتان. فوقهما تراب. عيناك فراغان.

تراني بفراغين وتسمعني بفراغين. فراغك سامعي ورائيَّ. المليء لا يعبره صوت ولا ضوء. اسمعني إذن وانظر إليَّ.

تراني بفراغين وتسمعني بفراغين. فراغان ظَلاَّ داخل جدران فارغة. وخروجهما الأول كان إلى الموت.

الموت؟ عرفنا إذن: الخارج، هذا هو الموت!

أين الملائكة؟ قولوا للملائكة أن تأتي ها نحن وصلنا. لا نحبُّ موتًا بلا ملائكة. معنا رماد، نتسلَّى به كلَّ الأبدية. يخفق جناح ملاك فتطير نثرات، تطير أرواحُ حمامات، شقيقاتُ حمامات كانت في تلك الغرفة. ويحطُّ ملاكٌ فنطعمه همسات، نطعمه نظرات، ونتسلّى… فلتأت الملائكة نحن وصلنا.

معنا رماد، نتسلَّى كلَّ الأبدية.

وصَلْنا… لكنَّ الملائكة أيضًا كانت موتى!

ثمانية وأربعون عامًا، كان هذا إذًا هو الزمن!

كان هذا عنقَ الأبدية، الذي حسبناه عناقًا طويلاً. الفمَ الذي قبَّلناه تحت غيمة سريعة.

حينَ وُلدنا، انهمر مطرٌ من جلد أمّنا. مطر بقي في الزاوية، قرب العتبة، بقي هو أيضًا في الداخل. لم يره الذين كانوا في الخارج، ولا الذين دخلوا. كان مطرًا يخصُّها وحدها، يروي حقلها الداخلي، الذي لا يراه أحد.

وحين كنا نغادر، انهمر مطرٌ أيضًا. على الناس، على الخشب، على الشجر… لكنه كان مطرًا بعيدًا، بعيدًا جدًا.

كان ينهمر هناك، في البعيد، في المكان الذي يسمُّونه حياة.

هذا هو الزمن إذًا، هذه هي الأبدية: ثمانية وأربعون عامًا!

وقبل ذلك عدم، وبعد ذلك عدم.

ها نحن الآن عدمان يتحدثان. فراغان يحاولان أن يمتلئا بأصوات.

ضُمَّ صوتك إلى صوتي. ضُمَّ صمتك إلى صمتي علَّهما يصيران صوتًا.

العدم هو نحن الآن. إنه نحن. لا شيء آخر.

حدّثني عن صوتك الأول، عن لعبتك الأولى، عن ذراعك الصغيرة حول عنق أمك، عن حذائك في الحقول… تحدَّثْ، اصنعْ أصواتًا، املأ هذا العدم.

تقول أمُّنا كان صوتنا الأول صراخًا. ألقتْ حمْلَ الحطب عن ظهرها أمام باب الفرن، وبعد دقائق سمعتْ أوَّل صوت من أصواتنا.

قال الذين حواليها: مبروك. ووصل إليها كلامهم، من بين رذاذ جسدها، مثل قوس قزح كانت تراه في الشتاء.

وُلدنا في تموز، في عزّ الصيف، ومع ذلك كانت تمطر!

لكنه كان مطرًا يخصُّها وحدها. وكان يَعِدُها بزهور وثمار… أما نحن، فكُنّا نبكي.

وحينذاك نظرتُ إليكَ نظرتي الأولى، كمن ينظر في الصباح إلى مرآة و يمشي.

ليس عندي ما أقوله. فقط أريد أن أتكلم، أن أصنعَ جسرًا من الأصوات يوصلني بنفسي. ضفَّتان متباعدتان أحاول وصْلَهما بصوت.

الكلمات أصوات. أصواتٌ لا غير. هكذا هي الآن، هكذا كانت دائمًا. أصواتٌ لا نوجّهها إلى أحد. نحن لا نكلّم الآخرين. نكلّم فقط أنفسنا. الآخرون شيء بعيد وغريب، لا نراه ولا نعرفه، وتقريبًا ليس موجودًا.

لم يكن الكلام غير عزلة، لم يكن غير صمت.

مع ذلك أريد أن أتكلَّم الآن، أريد أن أكرِّر عزلتي… ولكن، ماذا يقول لنفسه من هو ميت؟!

إنهما الآن هنا، الذاكرة التي أوصدت وراءها الباب، والنسيان الواقف على العتبة. هنا يتحلَّقان حول طيف روح، سقط الروح من النافذة ولاقاه طيفه إلى الباب. وأكتبُ كي أتذكَّر جسد هذا الروح. كي أتذكَّر أنْ كان لي جسد. أنْ كان لي وبر على جسدي لا أعرف أين صار. كي أتذكَّر بالأحرى أنَّ ما كان لي هو وبرٌ لا جسد، وأني لم أفعل طوال أيامي سوى البحث عن جسدي.

يخالجني أحيانًا شعور بأن البشر يعيشون بلا جسد. يستمرُّون في الحياة ما داموا يبحثون عن جسدهم، وحين ييأسون من العثور عليه يموتون.

أنا، نفسي، عشت بلا جسد. كنت طافحًا بالروح لكني كنت بلا جسد. بَحَثَ روحي عن جسدي طويلاً. مشى أعرج ضالاً مجنونًا. و ظلّ وحيدًا، ظلَّ هباء، روحًا يابسًا يبحث عن قطرة. وحين رمى نفسه من النافذة كان فقط لرؤية قطرة دم. دمٌ يقال إنه يسري في الأجساد! لكنَّ قطرة الدم ظلَّت فوق، على الحافة، بين الداخل و الخارج، على الحدود التي ليست لأحد.

كنت أريد شيئًا يطير، شيئًا يخرج من النافذة.

لم يكن لي جسد. لكنَّ شيئًا غريبًا كان يلتصق بي.

هل كان ذاك الغريب جسدي؟

فلنضحكْ، لنفتحْ عظْمتي فكَّيْنا ونضحك. ضحكتكَ الخارجة من عظمتين فارغتين ستكون أجمل ما في هذا النصّ، صدِّقني.

أنتَ بطل هذا النصّ، وإنك بطل ميّت. لكن حين أريدك حيًّا يجب أن تحيا. الكتَّاب يحرّكون شخوصهم كما يريدون، وعليك أن تتحرَّك كما أريد حتى لو كنت ميتًا. لا تقلْ إن النعش ضيّق وصرتَ ترابًا. على الكتَّاب أن يحرّكوا التراب ويوسعوا النعوش. وعليهم أن يعيدوا الأموات إلى الحياة أيضًا.

كنتَ متمردًا دائمًا. قطعتَ حياتك بعصبية، كمن يقطع غصنًا فوق رأسه بسيف.

وكنا، أنت و أنا، في جبهتين: علينا أن نتقاتل بشراسة، وأن نتفاوض بخداع. ولم نصل إلى سلام، ولا إلى هدنة.

أنت ميت أمامي الآن وأريدك أن تعترف بأنك كنت عدُوِّي، وكان عداؤنا لنفسنا أشرس من عدائنا للآخرين.

الآخرون شيء آخر. يمكنك أن تنساهم إذا عجزتَ عن قتلهم. ولكن كيف تنسى نفسك؟ أمامك حلٌّ وحيد: أن تقتلها!

وقتلتَها.

فلنضحكْ إذن أمام هذا الانتصار. أمام قطرة الدم الخفيَّة.

ولنتذكَّر جسدنا الذي كان ملفوفًا بجلد مقفَل.

جسدُنا، ظلامُنا الداخليُّ المرعب! وأفكّر الآن كيف كان الدم يبصر طريقه في العروق! وكيف عاشت هذه الأحشاء سنوات من دون أن ترى شيئًا!

جسدنا كان قتيلاً. قتيلٌ بعماه، وقتيل برغبة الرؤية. ظلامُه وضوؤه قاتلاه. الظلامُ والضوء اللذان يستدعيان، كلاهما، سكينًا، لفتح كوَّة.

من هذه الكوَّة أراك الآن. الكوّة التي فتحتها أنت بنفسك.

لم تتحمَّل ظلامك الداخلي. كنت تريد للدم ضوءًا وللأحشاء رؤية…. وأشعلت ضوءًا: للجلد، والدم، والأحشاء، وللموت أيضًا.

رفاقنا كانوا يصفون الأمل بالضوء. يقولون “ضوء الأمل”. أما أنت فاخترت ضوء الموت.

اخترعوا صفات لكلّ شيء، وأرادوها حلوةً وبليغة، وأن يكون لها صدىً! كمن يصرُّ على اختراع صوت، لخطوات ناسٍ غابوا.

في البدء كانت صفات، وكان علينا نحن أن نخترع أشياء تنطبق عليها.

كان علينا أن نخلق كونًا من مجرَّد نُعوت!

وخلقنا كونًا، ووضعنا فيه حياة. لكن ما جَمَعَنا ليست الحياة بل الموت. الحياة كانت للتفرقة. وتصالحنا لأوَّل مرَّة حين متنا.

لستُ أبحث الآن عن ضوء الحياة. لا. بل عن نار تدفئ.

في السماء أرواح ترتجف من البرد. أريد أن أشعل لها نارًا. أريد أن أبكّل أزرار قمصانها.

كنا نملك صراخًا قليلاً. وبهذا الصراخ قلنا ذات يوم للحياة نحبّك.

مشينا نبحث عن أصدقاء، عن ناس عن نبات عن حجارة، نلهج لهم بحبنا. مشينا حتى تفلَّع قلبنا.

رأينا أمكنة لكل شيء. للنمل للشجر للطير للأرض للنجوم… أين مكان حبّنا؟

أين نَضعُ هذا الحبَّ أين نُسْكن هذا الحيوان؟ تخلَّعَتْ أكتافنا.

مشينا الشوارعَ كلَّها الأمكنةَ كلَّها وكلُّها ملأى. الأرض امتلأت قبل وصولنا وصار ما نحمله بلا مكان. صرنا المكان الوحيد لحمْلنا، صرنا وهمَ مكانه. مكانُهُ وهْمُنا ومكانُنا وهْمُه. صار هو، ونحن، والمكان، وهمًا.

في البدء كان الوهم. والوهم صار أرضًا حَلَلْنا فيها.

وَهْمُ الأرض وَلَدَ وهمَ الرغبة. ووهمُ الرغبة وَلَد وهمَ الحبّ. ووهمُ الحبّ وَلَدَ وهمَ الولادة.

ووهمُ الولادة وَلَدَ وهمَ الحياة. ووهمُ الحياة وَلَدَ وهمَ النسيان. ووهمُ النسيان وَلَدَ العزلة…

ومن وَهْم الأرض إلى وهم الحبّ أربعة عشر وهمًا. ومن وهم الحبّ إلى وهم الحياة أربعة عشر وهمًا. ومن وهم الحياة إلى العزلة أربعة عشر وهمًا…

في البدء كان الوهم. والوهم صار جسدًا وحلَّ فينا.

آه مونيك، يا واهبة الأوهام جسدًا جميلاً. كنت تنامين على الأرض لئلاَّ يقال ارتفعت شبرًا نحو الأوهام، بل لكي تنزل هي إليك.

وكانت تنزل. تغسل عينيك، فمك، عنقك، صدرك، عانتك، ساقيك… فتنامين نظيفة.

يا مونيك التي كانت تنام على الأرض أين أنت الآن؟ أنا تحت مترين عن الأرض، وتحت عظامي حصاةٌ تزعجني. قولي لأحد كي يُزيح هذه الحصاة أريد أن أنام.

مشينا كثيرًا، باحثين عن حُبّ قليل. مشينا بقامات قصيرة في شوارع طويلة، وكنا بالكاد نُرى.

نريد حُبًّا، صرخنا، الحُبُّ يطيل قاماتنا.

أعطتنا دلالُ قفلها المقدَّس، هدى مفتاحَ بوَّابتها، غادةَ مزلاجَها، وأورورُ أطفالاً.

يا صاحبة القفل المقدَّس يا حارسة البوابة يا امرأة المزلاج يا أمّ الأطفال، نريد حُبًّا، نريد مكانًا.

فلترتفع المياهُ ليضطرب الغَمْرُ ليستبدَّ الهَلَعُ بالأنهار العالية. أريد قليلاً من الماء. فقط لئلاَّ تموت هذه الأسماك في حوضي.

إنني ميت كفاية، ومعي الوقت كي أنسج الأحلام. ميت كفاية كي أخترع الحياة التي كنت أريدها.

ليس جميلاً يا وديع أن تستلقي هكذا في الأبدية من دون أن تحلم. ليس جميلاً، في الموت أيضًا، ألاَّ تعيش الحياةَ التي كنت تشتهيها.

الموت فسيح، يتَّسع لكل شيء. انسَ الأرضَ الكوكبَ الضيّق. وتَهادَ في فضائك الواسع، في عدمك. واضحكْ طويلاً.

العدم فسيح. وتستطيع أن تمدَّ فيه ضحكتك إلى الأبد.



من ديوان: محاولة وصْل ضفَّتين بصوت

زر الذهاب إلى الأعلى