مترو – أسماء عزايزة

ألبَسُ جاكيتاً رِجّاليّاً ذا جيوبٍ داخليّة
هناكَ خبّأتُ السيجارةَ التي ستكونُ بعدَ قليلٍ سيجارتي الأخيرةَ في برلين
أحبُّ جاكيتاتِ الرجال، لأنّها تَملُك جيوباً داخلية
على عكس أصحابها الذين يُقطّبونها خوفاً من أن يرى الحبُّ عوراتهم


غرقتُ يوماً في جيوبكَ الداخلية، ولم أنجُ
بلعتني ثقوبُها السوداء، إلى أن أشفقت عليّ الحياة، وأخرجتني
كما سأخرج بعد قليلٍ هذه السيجارة
التي ستكون لحظتي الأخيرة في التفكير بمأساة أن نولَد هناك
في الجنوب
وأن نلفَّ حبالَ سُرر أمهاتنا على رقابنا، كأنّها أكاليل أعراس
دون أن نشعر بأننا نمشي إلى الوراء


أمشي إلى الوراء، وأنفخ على شموع كفافيس
فأصنَع منها، مثله، خطّ أفق الماضي الأسود
لم يقل كفافيس شيئاً
لم يقل شيئاً عن الدخان مثلاً
عن الرماديّ
البين بين
عن لون وجهكَ الذي يصير ماضياً، ثمّ حاضراً
ثمّ ماضياً سحيقاً، ثمّ حاضراً مثل جِلد السحالي
لم يقل شيئاً عن دخّان سيجارتي
التي ستكون بعد قليلٍ
بعد أن يتوقّف المترو في المحطّة الأخيرة
سيجارتي الأخيرة فوق الأرض


لكني لا زلتُ تحت الأرض
بل
لا زلنا كلّنا تحت الأرض

تحت
الأرض
مونولوغ بائع المجلات في المترو، الملحّن الثّابت المتكرّر مثل شريطٍ مشروخٍٍ
يدخل أذني، أنا وهؤلاء الغرباء، بذبذباتٍ متجانسة
فوق
الأرض
سيَذوب صوته بين الجموع
وربّما يصير أغنيةً شعبيةً بعد قرنَين

تحت
الأرض
عاملات الحرير اللاتي لم يرينَ الشمس
وأنا أقرأ عنهنّ بعد قرنَين
تحت الأرض أيضاً

فوق الأرض سيصير الحرير مجرّد قماشٍ أخرق
سنصير نحن كذلك مجرّد بشرٍ
دون معارك أو آلام
وقد ننتحر من الرّفاه المفرط


تحت
الأرض
الصوت المجهول الذي يقول بالألمانية:
رجاءً، ادخلوا
رجاءً، قفوا بعيداً
يقولها بعدد المرّات التي تتوقّف فيها قطارات المدينة كلّها
تخيّل كم سيكون هذا الصوت الآن أليفاً!
تخيّل كم سيكون الآن أقرب منكَ!


فوق
الأرض
سيختفي صوتي الذي قال “أحبُّكَ” بعدد المرّات التي ضغط فيها البشر على الزّر الأخضر في هواتفهم

سيختفي الحُبّ، كما سيختفي سواد الليل دون أن يترك أيّ أثرٍ
سوى في ريش الغربان

نحن سكّان “تحت” الأرض
نرشّ الملح على أصواتنا حتّى نحفظها من الحرارة
نحفَظ أغانينا وجثث أحبّتنا الذين صاروا أسمدةً في الحروب
حتّى وإن خرجنا
سنظلّ ننمو بعروتها كالطّفيليّات

نحن الغربان الذين سننعق في بطن الحياة هنا دون نهاية

هل تسمعوننا؟


يمكنكم الاستماع لنقاش هذه القصيدة في حلقة بودكاست مقصودة، والاشتراك لمتابعة حلقات الإلقاء والنقاش التي تقدمها ببراعة فرح شمَّا وزينة هاشم بيك.


*نص: أسماء عزايزة
*من ديوان: لا تصدقوني إن حدثتكم عن الحرب

زر الذهاب إلى الأعلى