الخطاف الذي لم يبتلعه العدم “مختارات قصصية” – نذير الزعبي

أشخاص:
بلدان:

الخطاف الذي لم يبتلعه العدم

لم يجُل بخاطر الخطّاف الذي كان مُعلقاً قُبيل لحظاتٍ بخيط الصنارة، أنّ فمَ إحدى فرائسه سيغدو سجناً أبدياً في طرفة عين.
قضمت السمكة العملاقة خيطَ الصياد بفكِّها المسنون فقطعته دون عناء، وأكملت سعيها في الأعماق.


كان جوفها أشدَّ حلكةً من قاع البحر، فلم يستطع هدير الكائنات من حولها أن يرفع الهلع عن قلب الخطاف المغروس في فمها، وقد بات على يقين بأن هذا هو العدم.


خلال تجوالها قربَ القاع، مرت السمكة العملاقة بمرساةٍ صدِئة. سمع الخطاف أنين المرساة، فأصاخ السمع إلى هذيانها المتهدج كالبكاء.


كانت تقول بحرقةٍ: “ليته كان العدم”.


فرشاة الأسنان لا تحفل بطعم المعجون

فرشاة أسنان زرقاء بجانب فرشاة زهرية في سلة التسوق. «يقال بأن فم المرأة حلو على الدوام» تقول الفرشاة الزهرية باسمة في شرود.

«وفم الرجل مر مثل تبغه..» تغمغم الزرقاء.

صباح اليوم التالي، وبينما هما مبتلتان في وعاء فوق المغسلة، سألت الفرشاة الزهرية رفيقتها:

«هل كان مراً حقاً؟».

«لا. لقد كان بحلاوة الشهد!» أجابت الزرقاء. «ماذا عن فم المرأة؟» تساءلت بدورها.

«لم أذقه بعد. لقد غسلتني من المعجون وأعادتني إلى الوعاء، مكتفية بالقبلة التي باغتها بها بينما كانت تهم بتفريش أسنانها».


باب الآنسة

كانت المستأجرة الجديدة تخشـى الغرباء حدَّ العماء، فطلبت من النجار أن يركّب عيناً سحريةً لباب شقتها.

كان الباب الخشبي قد أمضـى حياته ضريراً قبل أن يُمنح تلك العين. صار الآن بوسعه رؤية أصحاب الأيدي التي تطرقه. لقد وجد في أشكال الناس الكثير من الطرافة، إذ كان يظن قبلاً أن الإنسان مجردُ يدٍ تمشي على قدمين. 

لقد تعرَّف أيضاً على الكلاب، والقطط، وعربات الأطفال، وأكياس التسوق، ولفائف الصحف، وزجاجات الحليب التي توضع كل صباحٍ على عتبته. والأهم من كل هذا، أنه استطاع أخيراً التعرف على شكله من خلال رؤيته لباب الشقة المقابلة.

لو أن الآنسة تمنحني فماً، كي أستطيع التحدث إليه! فكّر بينما يتأمل الباب الضرير قبالته.

ولو يُمنح هو الآخر فماً كي يردَّ بدوره عليّ..

يحتاج كلٌّ منا إلى أذنين أيضاً وإلا لكان حديثنا بلا فائدة. وكم سيكون امتلاك قدمين أمراً رائعاً، فعندها سيكون بمقدورنا التمشـي في الردهة بينما ندردش، أو حتى نزول الدرج والتعرف على العالم الغامض الذي ينتظرنا خارج المبنى. سنحتاج حتماً إلى يدين كي نحمل الأكياس عند عودتنا كما يفعل السكان. 

قد أرافق الآنسة أيضاً في بعض مشاويرها. ألستُ باب شقتها؟ وربما تبادلني الإعجابَ ذات يوم، فتُسكنني معها، وتضع بدلاً مني على شقتها باباً عادياً كهذا المسكين الذي لا يملك حتى مجردَ عين.

كم سيكون أمراً ممتعاً لو..

هنا تقدم نحوه رجلٌ غريب، طرقه طرقتين. 

الطرقة الأولى أيقظت الباب من أحلامه. الطرقة الثانية أرعبته.

بات يخشى الغرباءَ حدَّ العماء.


كوكبٌ يدور حول نفسه في زجاجة الساعة الرملية

قُلبت الساعةُ الرملية بعد أن عثرت عليها بعثةٌ أثرية.

كان الزمن قد توقف فيها منذ مئات السنين، وها هو الآن يجري في زجاجها من جديد.

لا شيء تغيَّر. حبّاتُ الرمل لم تزل دقيقةً جافة. ولم يزل حلقُ الزجاجة أملساً، يعُبُّ الوقتَ بشراهة سكّيرٍ تليد.

في المتحف الوطني، أجلسوها على حجرٍ رخاميٍّ صقيل أسود اللون، بعد أن قُلبت للمرة الأخيرة من أجل مُتعة المدير الذي شهِد بنفسه مراسمَ انضمامها الرسميّ إلى بقية المعروضات في متحفه.

ها هي آخرُ جولةٍ للوقت تجري الآن في زجاجها على حجر الرخام.

ساعةٌ واحدة، ويتوقف الزمان فيها إلى الأبد.

نصفُ ساعة

ربعُ ساعة

 خمسُ حبات رمل …..

أربع حبات ….

 ثلاثة …

حبتان ..

مرّت ساعةٌ كاملة، إلا حبةُ رمل.

لم تسقط حبة الرمل الأخيرة. ظلت ملتصقةً بجدار الحُجرة العلوية، ليظل الزمن مُعلقاً في الساعة الرملية إلى الأبد.

لو زرتَ يوماً ذلك المتحف، ورأيت ساعةً رمليةً أُجلِست على حجرٍ من الرخام الأسود، فكن على حذرٍ شديد، وإياك أن تلمسها. فحبة الرمل الدقيقة تلك إذا سقطت، سيكون لها أثرُ اصطدام كوكبٍ بالأرض.

كوكب الانتظار.


مين شاف الريموت؟

“ستكون أكثرَ شيءٍ يضيع في هذا المنزل، وأكثرَ شيءٍ سيعاودون إضاعته كلما عثروا عليه” قال التلفاز العجوز بصوته الأجشّ، محدِّثاً جهازَ التحكم الجديد في أول يوم عملٍ له داخل المنزل.

“ستعتاد الأمرَ فلا تقلق” أضاف التلفاز بعد أن تنبّهَ لاضطراب أزرار الريموت الجديد. ثم قال أخيراً، سارحاً من خلف شاشته السوداء بلوحةٍ سرياليةٍ على الحائط المقابل: “ستكفل لك هذه الحالة الغريبة على الأقل، بأن تظلَّ محطَّ اهتمام الجميع كلما تفرّقوا في أرجاء المنزل بحثاً عنك”

لم يضِع جهازُ التحكم بعد ذلك الخطاب الترحيبي سوى مرةٍ واحدة.

غير أن أحداً لم يبحث عنه.

كانوا جميعاً معه، تحت الركام.


*نصوص: نذير زعبي
*المصدر: معجم الأشياء، نذير الزعبي، منشورات تكوين. 

زر الذهاب إلى الأعلى