مفاصِلُ من سيرة الأعرابي – محمود وهبة

1


في زمنٍ صارَ غابراً الآن
حدَّثَنا الأعرابيُّ:
لا شيءَ جديدٌ.
الّذي احتضنَ الماءَ ذاتَ مرّةٍ
كانَ مجرّدَ غِربال
والغربالُ أجوف،
الرّصيفُ مُذ تعقّبَ خطواتِ العابِرين
لم يعُدْ شيئاً
البتّة.

قالَ إنَّ الغبارَ شيءٌ
والحديثَ شيءٌ
والقيلَ والقالَ شيءٌ.

قالَ أيضاً
إنّ اليدَ التي تعتذرُ عن مصافحة عدوِّها
شيءٌ.
شيءٌ فاخر
والله أعلمُ.

2


على عجلٍ قالَها الأعرابيُّ
لِمَ كلُّ هذا الضجيج خلفَ الباب
ألم يتعبوا من دبيبهم في الرّأس؟
فليرأفوا بي وليرحلوا،
الوقتُ بانتظارهم
الرسائلُ كافيةٌ لنقلِ الأشواق
لو شئتُم أرسلتُ لكم حماماً زاجلاً
ارحلوا وارأفوا.
هذا أنا الآن
أعرابيٌّ أخيرٌ دأْبُهُ التماسُ شفاعةٍ من ميّت
لا يُرجّى.

3


قبلَ رحيلهِ أوصى الأعرابيُّ:
لم أترُكْ ورائيَ أُمّةً
تركتُ أزلامَ الشّقاءْ.

4


الأعرابيُّ
مشى وحيداً
بين قبورٍ فارغةٍ
وحدَهُ الصمتُ مَن اخترقَ بابَ جسدهِ
ودخل خِلسةً.
كانَ يجوبُ المفارقَ
يؤرّخُ للحكايةِ ويرتجِل:
كُنّا هنا
وكانَ للكلامِ معنىً
للصوتِ بريقٌ
وللأولادِ رغبتُهم في اللّعب والمشاكسة

هكذا ماتَ الأعرابيُّ
وهو يروي سيرةً في الحقلِ
ويرفعُ عن رأسهِ هموماً وتجاعيدْ.

5


على صفحةٍ مليئةٍ بالقشور
يكتبُ الأعرابيُّ مفاصلَ من سيرته
يعرّي جسدَهُ
يُعيدُ ترتيبَ الأشياءِ:
الربّ
البلد
الأمّة
الحقّ
القضيّة
النّضال
اليقين

يصمتُ الأعرابيُّ بعد أوّلِ طلقةٍ في الرأس
هذا مجرّدُ حُلُم.

6


أحدّقُ في سيرتكَ أيُّها الأعرابيُّ
لمحةٌ وحيدةٌ لا تكفي
يستلزمُ الأمرَ كثيراً من السَّنوات
والأصوات المدوّية في الغابة
أعودُ إلى المحاولة
الشغفُ ليسَ كلَّهُ
لقد تجزّأ
وربّما اندثَرْ.
أطوي الصفحةَ بكلماتٍ أضحَتْ عابرةً
أتداعى كمنْ لا يعرفُ شيئاً.

7


قابَ
قوسين
أو
أدنى،
نطقَ الأعرابيُّ:
بِيَدي أحملُ بشائرَ الـ…

8


بدمعةٍ أو ندمٍ خفيفٍ
يحرسُ الأعرابيُّ صورتَهُ في الذاكرة
يسحبُها ببطءٍ كمن يجرُّ عربةَ بقالة
يُصغي للكلامِ المُهمَلِ على الجدران
ينتشي ثمّ يلتَفِت ـ
لقد فات الأوان.


*نص: محمود وهبة
*من ديوان: سيرةُ الأعرابي

زر الذهاب إلى الأعلى