ردمت سُلطة البعثِ في العراقِ
صفوفاً من المدافنِ تتوسطُ مقبرةَ النَجَف
عبّدت في مكانِها طُرقاً
توصلُ دباباتِ النظامِ بأكثرِ سهولةً
إلى مخابئِ المُنتفِضين
كان بين المدافنِ قبرُ صِهْرِي المَقتولِ في الحربِ
في ثمانيةٍ وثمانينَ وتسعِ مئةٍ وألف.
قبلَ أنْ يكتملَ هذا العُدوانُ على السُلالاتِ الموتى
ذهبت شقيقتي البِكرُ صُحبةِ نساءٍ أخرياتٍ
كانت قد رُدمت مدافنَ أزواجهن..
بمعاولَ مُستأجرةٍ، بل بالأظافرِ أحياناً.
رُحن يبحثن عن شواهد القبورِ المطمورة.
كل من اهتدت إلى رُفات زوجها الحبيبِ، نقلته إلى قبرٍ آخر.
أياماً والأختُ تبحثُ عن الشاهدة، صارت ساكنةَ القبورِ
لا تعودُ منها إلا عندما يُوقِفُ الظلامُ إمكانَ البحث.
هذه الأوديسةُ الظافِرة في أُقْيُوناساتِ الترابِ
بحثاً عن رُفاتِ البَعْلِ المقتولِ
قامت بها شقيقتي..
يحميها اللقبُ المُرَائِي الذي خلعهُ النظام
على كل من كانت تُجَلِلُهُن فاجِعةٌ كفجِيعَتِها
حرمُ الشهيد.
بحدسِها الأنثويِ أدركت شقيقتي
حُكمةَ اليونان القديمة التي يُطْنِبُ في الكلامِ عليها هوميروس.
ميتٌ بلا قبرٍ معلومٍ ولا شاهدةٍ..
هو أبداً غريبٌ لا راحةَ لروحِه تُرجَى
ولا انتهاءَ لِعنائهِ بين الأموات.
وعندما أُعدِمَ من أبناءِ العمومةِ في أعقابِ انتفاضةِ الجنوبِ..خمسةٌ
شُوهدت الشقيقةُ وهي تتفرسُ النائحاتِ بنظراتٍ طويلةٍ .. صامتة
أدركَ الجميعُ آنذاكَ أنه قد تبددَ كاملُ مخزونِها من الدمع
فاجئها صممٌ قد يكون جاءَ من أثرِ الصدمة
أقتني لها في عَمَّان جهازٍ لتقويةِ السَمَعِ من أخرِ صَيحة
ترميه بعيداً عنها وتقول ما تريدني أنْ أسمع؟
زاعمةً أنه يبعثُ في الأذنينِ وشوشةً لا تحتملُها هي.
أخمنُ أنَّ عالماً كهذا الذي عرفته في سنواتِ الحربِ ما عادَ ليستحقَ منها لحظةَ إصغاء.
كذلك هي فصاحةُ أختي
في سيادتِها الكُبرى على الألم لا ينْدُرُ أنْ تضحك
لكن حتَّى في الضحكِ .. تبدو لي صورتُها الصادقةُ هي التالية
كائنٌ متمركزٌ في نطاقِ تعبه
لا يُحيدُ عنه قَيْدَ شَعْرَة.
يمكنكم الاستماع لإلقاء مميز لهذه القصيدة في حلقة بودكاست مقصودة، والاشتراك لمتابعة حلقات الإلقاء والنقاش التي تقدمها ببراعة فرح شمَّا وزينة هاشم بيك
*نص: كاظم جهاد