إنها الكلمات الأخيرة… وها أنا أهجرها – وديع سعادة

مقطع من (نص الغياب):

الكتابة لا تسكن في الحياة. مسكنُها في مكان آخر. على الحافة. في المتوهَّم.

الكتابة مسكنها وراء الباب. تطرق لكن لا يُفتح لها. ربما لأن لا أحد في الداخل. ربما لأنَّ الداخل فراغ. ربما لأنْ لا داخل.

أين الحياةُ و المكان والزمان؟ إذا كانت في الخارج لماذا، ونحن في الخارج، لا نراها؟ وإذا كانت في الداخل لماذا لا ينفتح الباب؟

أنا الكاتب أعترف: بحثتُ في الكتابة طويلاً عن الحياة ولم أجدها. لم أجد الحياة ولا الزمن ولا المكان ولا الحرية. الحرية؟

بديهيٌ أن لا حرية. الحرية؟ كيف تكون حرية ما دام لا حياة؟ نخترعهما، قالوا. صحيح، وها نحن نخترعهما. ولكن من موادّ وهمية غير قابلة، هي أيضًا، للحياة.

لماذا أكتب إذن؟ ما دمتُ عرفت، ما دمتُ اكتشفتُ هذا الوهم، هذه الكذبة، لماذا أكتب؟

عليَّ، على الأرجح، أن أعيد تركيب نفسي. أفكّكها قطعةً قطعة، أرمي اللعين منها وأُركّبها من جديد. لو أن النفس آلة، لو أني فقط أرى قِطَعَها.

تائهٌ في العاصفة وأبحثُ عن آلة! تائهٌ ومنهوب. نهبتني الريح وأريد استرداد ممتلكاتي.

أريد الحلية التي وَهبتْها لي أمي. أريد الطير الذي جلبه لي أبي. أريد ريشة الروح، حدقةَ الفضاء أمام الباب، حليبَ الحجر الذي كان يدفق من نظرتي.

وإذا كانت هذه كلُّها من المنهوبات، ألم تكن لي في الماضي على الأقل نفسي؟

الآن إذًا أريدها.

وإن لم تكن لي، أريد زهرة، لجثمانها.

أريد استرداد ممتلكاتي: الدربَ الأولى، غبارَها الذي علقَ على قدميَّ فصار لي، نجمةَ الوعود إذ يأتي الغروبُ وأنا نائمٌ تحت لوزة. ممتلكاتي: نظراتي التي أرسلتُها بحنانٍ ولا أزال أنتظر عودتها، يدي التي العابرون ظنّوها كمانًا، لهاثي الذي امتزج بنسيمٍ خفيف، ثم تحوَّل ريحًا ترتدُّ الآن إليَّ وتنهبني.

كم الساعة الآن؟

أعرفُ أن المرضى في الغروب يهلوسون هكذا. أنَّ الحُفَرَ التي تركتها ضواري النظرات ستبقى فارغة. وأنَّ رصاصة الجنون، ورصاصة الحكمة، كلاهما تصيبان المقتل نفسه.

لم أكن في الماضي أعرف كلَّ هذا. كانت الأرض مستديرة، لا أرى مقلبها. الآن الأرضُ مستطيلة، صحراءُ شاسعة، وقوافلُ طويلةٌ من البشر والشجر والبغال، موتى فوقها.

خطٌّ واهٍ في البعيد، خيطٌ مشنوق، أريد عبوره. وكلَّما خرج من الخيط نسلٌ، ظننتُه أولادي.

أحيانًا تحدّثني الذاكرة عن الأرض أنا العاري، فأمدُّ يدي إلى معطفها المرميّ على كرسيّ قديم، وأحاول أن أتدثّر به.

أُجرّب أن أقنع نفسي بأني، من هذه الخيوط البالية، سأصنع كنزةً لأولادي.

أين المقيمون في البرْد؟ فليجتمعوا الآن في طابور، والمقيمون في الحرارة في طابور آخر: يجب فرْزُ الناس وحراراتهم، يجب خلق التوازن بين صقيع البشرية وحرارتها.

التوازن بين المعطف والكنزة المكرورة. وإلاّ الأرض ستقع.

كلامٌ بكلام. فقط كلام قليل للاجدوى كثيرة. كلامٌ للريح، للنظرة، للظلّ، للثعبان. للخيط المسرِّح نسلَه، للمشنقة المحتفظة بالقميص.

كلامٌ للذين لا يسمعون.

اعطني النعشَ في الصباح اعطني الغيمةَ إلى الوسادة. طُلَّ من الشبَّاك واقطعْ رأسَ الزنبقة. صِدِ الثوبَ الخائن في الفضاء. صِدِ المجنونَ المنحني على النبع.

إقطعْ عنقَ اللغة. أَرْهبِ الكلمات، شَرْذِمْها وشرِّدْها. اخنقِ الأسلوب. فظِّعْ بالأصول والمنطق وبأعدائهما. خذ الصوتَ إلى الحديقة، خذه في نزهة، مع الجُمَل، وارمهما في النهر.

لا، لا. دَعْ بطنَ اللغة تحبل بكلماتٍ بَعد. كلمات يظنُّ آباؤها وأمهاتها أنهم سيداعبونها كالأطفال، يغسلون وجهها ويمشطون شعرها ويجلبون لها الألعاب… دع آباء اللغة وأمهاتها يحلمون بأولاد، هذه سعادتهم لا تخرّبْها. فبطن اللغة حابلٌ بكلمات تولد ميتة، دعْهم على مهلهم يعرفون. دع الوهمَ يُسعد قلوبهم، واتركْ للَّغة شأنها: التلاقح من الصمت والاستحالة، من الغياب والغيبوبة، من الموت والموت.

العتمةُ وحدها قد تكون الحياة، الخصوصيُّ الذي لا يُرى، لا يُقال، لا يُفعل.

هل كان عليَّ قَفْلُ الأبواب وإسدال الستائر وإطفاء الأضواء لكي تكون لي حياةٌ ولغة؟ آنَ عَبَرتا العتبة واختلطتا مع خارجين كثيرين، فقدتُهما… لكني، حقًا، لم أكن أجدهما في الداخل. ظننتُهما في الخارج، في حانةٍ أو تحت شجرة أو على رصيف. ولم تكونا لا في الخارج ولا في الداخل. أين الحياة و اللغة إذًا؟

الساعة تدقُّ دقّاتها وأنا واقفٌ تحتها، أسمع الرنّات تجري في الفضاء وتختفي.

واقفٌ تحت الساعة. لا أجري مع الرنين بل أسمعه وأُشيّعه وحسب. ثابتٌ في المكان وثابت في الوقت. رنّاتٌ متواصلة سريعة لا أميّز بينها. الأولى شبيهةُ الثانية شبيهةُ الألف شبيهةُ المليون. وأنا تحت الرنة الأولى شبيهي تحت كل الرنين. واقفٌ في ساحة الأصوات في موج الأصداء جامد.

يحطُّ على رأسي طير كما يحطُّ على تمثال ويطير. تلمسني سمكةٌ وتمضي.

لا مكان للمشاعر كي تذهب إليه. لا فسحة لتحريك العواطف. لا مسافة بين الجدران.

ولا مكان للكلمات ولا زمان كي تتحرك أو تحيا.

هل المكان والزمان وهمان أيضًا نحاول أن نبني بهما ملجأ؟ لكنْ لا قصب يكفي لنصْب هذه الخيمة. لذلك نقعد ونعزف موتًا للهواء.

تعبر الريح تاركةً موتى على أبوابنا. ننادي من الداخل يائسين: من سيطمر موتانا؟ أجدادنا الأوائل كانوا يدقّون الصخر ليلاً نهارًا لحفر حوض يزرعون فيه موتاهم. يزوّدونهم بالذهب والمال كي يدفعوا أجرة السفر إلى الخلود. نحن موتانا على الأبواب مَن يطمرهم؟ ومَن يطمر موتانا في هذه الغرفة، الممدَّدين منذ مئات السنين فوق الإسمنت، طبقاتٍ طبقات، حتى صار هذا البناء كلُّه من مادة الموت، وصرنا، نحن، نتاجَ جبلة الأموات.

أحاول أن أُطلَّ برأسي من فوق الردم. أن أُرسل صوتًا حادًا يخترق العظام واللحم البالي، عَلِّي ألمح ما وراءها. فقط بوصة، بوصةٌ واحدةٌ مضاءة، وراء هذا الموت، تكفي.

لكن، فَلأَنَمْ. كفنُ السماء ينزل على الغرفة ويغطِّيني. لأنمْ بالراحة نفسها التي للقطعان. التي للجماد، للرماد. لأنمْ من أجل الجرح الذي لا يستطيع الحراك. من أجل الحلم المُقعَد ومن أجل النسيان. لأنمْ وأتدثَّرْ بما تبقَّى على الطاولات والكراسي من موتى. لأنمْ بتواضع ولا أذهبْ بعيدًا، فأظنَّ أني حي.

هناك كلمات تطلع من تحت التراب، أَسمعُها تخرج من بين الفكوك العظمية المتناثرة لموتى، دُفنوا من ألف عام. فكوك تعوم فوق الثرى لتقول كلمة. وفكوك لتقدّم قبلةً لم يتسنَّ لها، في الحياة، أن تقدّمها.

عظامٌ تخرج لتضحك، وعظام تخرج لتلعب، وعظام لتتفقَّد أمكنتها الأولى، وعظام لتجيل نظرها علَّها ترى الأرض التي عاشت فوقها، ولم تكن تراها.

تخرج العظام من تحت التراب كي تفعل ما لم يكن أصحابُها يفعلون فوق التراب.

من هذه الكوَّة، من العظْمة، أحاول أن أُطلَّ على العالم. عَلِّي أفعل اليوم ما سأخرج من تحت التراب كي أفعله بعد ألف عام. عَلِّي أضحك الآن وألعب و أرى الأرض، وأقول الكلمة التي أرغب في قولها، وأطبع قبلتي على فم الحياة.

قُبَلٌ كثيرة مطبوعةٌ على موتي. لكنني أريد قبلة واحدة للحياة.



*نص: وديع سعادة 

زر الذهاب إلى الأعلى