تَطِيرُ إليهِ الأخبارُ وهو فِي مَزِيجٍ كَمَنْ تَلْهُو بِهِ الأسْطُورَةُ، لا يَكادُ يُصَدِّقُ مِنْها خَبَراً حَتْى يَصْدِفَهُ خَبَرٌ، ولا يَبِينُ لَهُ مِنْ ذلِكَ يَقِينٌ يَرْكُنُ إليهِ. وجاءَهُ مَنْ يَقُول لَهُ إنَّ لَيلى أُخِذَتْ إلى العِراقِ عُنْوَةً، فَمَرِضَتْ هُناكَ فَأَيْنَكَ مِنْها؟ ثُمَّ قِيلَ له إِنَّها فِي الحِجازِ، وقِيلَ فِي الصِفاحِ، رُواةٌ يَعْبَثُونَ بِالأخْبارِ، كُلٌ عَلى هَواه، فَيَصِيحُ بِهمْ : يا قُساةَ القُلوبِ، يَا فَاسِدِي الضَمَائِرْ. إنَّ هَذا لا يَجُوز، أَصْدِقُونِي فِي أَيِّ أَرْضٍ قَلْبِي، أَسْعِفُونِي، ولا تَلْعَبُوا بالرُوحِ فَقَدْ تَلِفْتُ مِمّا أَنا فِيهِ وأنْتُمْ تَدْفَعُونَ بِي إلى كُلِّ فَجٍّ، ضَارِبَاً عَلى وَجْهِيَ، لا أَلْقَى إلا سَرابَاً، هَلْ مِنْكُمُ مَنْ يَصْدُقُ خَبَراً واحِداً، تَسْعَونَ لِجُنُونِ مَجْنُونٍ مِثْلِي ياتُعْسَكُمْ.
فَاضَ بِهِ العِشقُ وضَاقَتْ بِهِ الدارُ والحَيُّ والبَادِيَةُ فَوَجَدَ فِي العُزْلَةِ التِي نَشَأَ عَلَيها فَضَاءً يَسَعُ حُبَهُ وفِي الوَحْشِ الصَدِيقَ النَبِيْل. عَبَثَ النَاسُ بِهِ فَوَجَدَ فِي الذِئْبِ والوَعْلِ والطَيْرِ والشَجَرِ طَبِيعَةً تَأنَسُ لَها الرُوْحُ ويَرْتاضُ الجَسَدُ. ظِلُهُ يَتْبَعُ الشَمْسَ، وعَيْناهُ مَأسُورَتانِ بِمَا يَمْنَحُ العشْبَ لَوْناً، لا يَسْأَلُ المَاءَ مِنْ أَيْنَ أنْتَ ومَنْ أَنْتَ، يَغْسِلُ أَخْبَارَ قَلبِكَ، يَمْسَحُ عَنْ كَتِفَيكَ غُبَارَ الطَرِيقِ. يُؤَثِّثُ القَفْرُ غُرفَتَهُ بِالهُدُوءِ لِكَي تَأمَنَ أَحَلامُهُ وتَنَامْ. فَمَنْ يَسْكُنُ الوَحْشَ يَمْلِكُه. لا يُرَى إلا وهُوَ فِي قَطِيعٍ مِنَ الذِئابِ تَسِيْرُ مِنْ أمَامِهِ ومِنْ خَلْفِهِ، كَمَنْ يَحْرُسُهُ ويَخْفُرُ خُطَاهُ. فَالعِشقُ أَنْ لا يَطَالَكَ غَيْرُ الهَوى، قَفْرٌ هُوَ الحِصْنُ يَحْمِي ويَحْضُنُ.
كَانَ فِي وَحْشٍ يَسّْحَلُ أعْضاءَهُ فِي نِتُوءِ الجَبَلِ. ضارباً فِي سَفْحِ التَوبادِ مُهَلْهَلَ الحَالِ، طَائِشَ الذِهْنِ، يَقْتَاتُ بِعُشْبِ الصُخُورِ ويَشْرَبُ مَعَ الوَعْلِ. والتَقاهُ الذِئْبُ وجَلَسَ إلَيِهِ يَسْتَهْدِيهِ ويَرْتاضُ بِرُوحِهِ حَتْى اسْتَقَرَ وهَدَأَتْ أخْلاطُه، ثُمَ سَارَ بِه مُسْتَسْلِمَاً لِمَا يُشْبِهُ السِحْرَ، مُيَمِّمَينِ صَوبَ المكانِ، يَدْخُلانه لِتَكُونَ لَيلى هُناكَ. بَهْوٌ مِنَ الحَجِر النَظِيفِ. تَضَعُ قَدَمَكَ عَليهِ، فَتَسْمَعُ لَه وَجِيْبَاً، تَلِيهِ طَنَافِسٌ مِنْ حَشِيْشَةِ البَهْجَةِ، تَقُوُلُ لَكَ هذا لَكَ فَتَشْعُرُ أَنَّهُ لَكْ وتَلْثُمُكَ رِيحٌ خَفِيْفَةٌ، تَأخُذُ يَدَيكَ وتَهْدِيكَ فَلا تَهْتَدِي ولا تَضِيعُ عَيْنَاكَ فِي أُفُقِ البَهْوِ، فِي زُرْقَةٍ فَاتِرَةٍ، تَدْعُوكَ فَتَذْهَبُ فَيَجْهَشُ قَيسٌ : رَأيْتُ لَيلى فِي هَوْدَجٍ مِثْلِ هذا وجَلَسْتُ إِليها. قُلْ إنَّها هُنا واتْرُكْنِي.
فَقالَ لَهُ الذِئْبُ : اْمْكُثْ هُنا واْسْرُدْ قَلْبَكَ تَسْمَعُكَ وتَأتِيْك، ولا تَكُونُ وَحْدَكَ أَبداً
فَيَخْرُجُ الذئبُ عَنْهُ وتَكُونُ لَيلى فِي هَيْئَةِ الماءِ والَملاك. وكَانَ كَأَنَّهُ يَرى.
*نص: قاسم حداد
*من ديوان: أخبار مجنون ليلى