الأذن التي كانت تذهب معكِ للدرس تذهب الآن معكِ للوظيفة والمُحاكمات. تستمع معكِ للموسيقى في السيارة، وتغمرها المياه ورغوة الاستحمام قبل النوم. الأذن التي تحمل سماعة الهاتف الخلوي وأقراط السبوت لايت وخصل الشعر والسالفَ السعيد. الأذن التي تعلقين عليها النظارة والقناع والأمل والقنوط، ألا تتعب من كل هذه الأثقال والمحطات؟
وما الذي تفعله الأذن حين تغيبين ويأخذكِ النوم؟ تراها تنام مثلكِ أم تفكّر بكِ؟ ألا تود هذه الفراشة الواقفة منذ عقود على صدغكِ أن تطير؟ ألا تشتاق للحقل والأشجار والموت السريع وصمت القطارات؟ هذه الليمونة التي يعصرها الله على أرواحك الخالية من الناس، ألا يتعبها السأم والاصفرار؟
أذنكِ التي تستقلين كسيارة أجرة صفراء في الهزيع لتذرع بكِ شوارع الليل. ألا تبلى عجلاتها من مسيركِ اللانهائي في الموسيقى والليل؟
أذنكِ الدلو في بئر طبيعتكِ الصامتة. الدلو التي تسقي العابرين مفازة جلدكِ الذي يلتهم النظرات. التي تنقذنا من العطش وتترك لنا فسحةً للنوم على كتف الماء. ألا تتعب من البئر؟
أذنكِ وردة الحجر على نافذة القصر. تميل برأسها على الحفلات والرقص في الصالون، لكن لا يسعها الدخول إلى الفرح. أذنٌ تتوجس من الضحكات.
كأنها القلب الذي لا يستطيع دخول القلب، والليل الذي يعتم الليل.
كأن الأذن بطانة الروح. تحمي جلدك من خشونة السهرة وضوضاء الفساتين.
أفكر حين أقف أمام تلك الآذان المُغمضة أن أذنيكِ أطفالٌ ينبتون خارج الرَّحِم ويتدلون من تلكَ الشقوق في الرأس.
كأنَّ أذنكِ الجنين في نومة الجنين التي تستمر سبعين عاماً في الهواء. الجنين الذي يَرى كلّ شيء ويكتفي بتمرير الحكاية بين طيات جلدهِ الأزلي. الجنين النائم حذاء عنقكِ الطويل. يظن نفسه الذئبَ حارس الكهف، وهو جنين في قالب الشمع. تظن الأذن أنها المكلفة بحراسة الجسد، وتسهر من أجل النائم طيلة الليل. وحين يستيقظ من ليله الداخلي تفتحُ الأذن الباب للحمائم والضوء.
لأن الأذن تاريخ كل شيء وتبتلع كلّ شيء. هي العقبة في الوصول إليكِ وهي السبيل إليكِ. وحين حدَّقنا طويلاً توهمنا أننا قرأناكِ في قرطٍ أو قرطين. وما قرأنا سوى يومٍ أو يومين.
هذا لأن الأذن علامة وقف في كتاب الشخص. تتوقف فقط عند الصفحة المشعةٍ بالكلمات والتنهدات. لذا حين نرى شخصاً مع أذنيه نرى فقط صفحةً واحدةً من حياته.
تتدلى الأذن أو تنتصب أو حتى ترفرف. لكن العيون لا تستطيع اللحاق بحركة الأذن السريعة مثل جناح الطائر الطنان. فتبدو الأذن خطئاً ساكنةً في وضع الحياد. لكن أذنك أيضاً لها ذاكرة القطط والخيل. تحركين أذنك قليلاً إلى الأمام حين يعجبك الشيء، إلى الخلف حين تخافين، إلى الأفق حين تتعبين، وتنتصب حين يخذلكِ الأصدقاء.
أذنكِ التي لها رائحة الموج وشذى القطرة الأولى في الصباح. لها رغبةٌ شاسعة في الهرب من الوظيفة والاختفاء بلا هدفٍ تحت السرير.
أقلّب أذنكِ الهادئة في الصور الفوتوغرافية، وأكاد أسمع في داخلها صوت البحر وبأس المرجان ومشقة الفؤوس. أشم دهن العود والعنبر والبرغموت. أرى اندمال التعب والتخاريم والاهتزازات.
وحين يقترب الرائي من ظل أذنك تبدو له محارةً أو صدفةً بحرية على شاطئ أبيض عفيف ومهجور.
تدور أحاديث البحر، ترتطم أسراره بين أذنيك. يرى البصيرُ سمكةً حائرة بين أذنيكِ. سمكةً عالقةً فيك لا تستطيع الدخول أو الخروج. ويرى دودة الموسيقى بمؤخرتها المتوهجة تخرج من أذنكِ اليُسرى تدلّي قرونها بين خصلات شعرك في الليل. يرى الأذنَ اليمنى ثمرةً ينقرها الغريب فيضيء. ويرى داخل خطوطها رجلاً يحمل على كتفيه قبة السماء.
وأفكّر ماذا سيحل بهذه الكائنات وتلك السماء حين تنتهي الأسئلة ولا تستيقظين في نهارٍ حزين.
*نص: عبدالله حمدان الناصر