عُزلَتُكَ هي عُزلَتي – عبدالعزيز جاسم

قصيدة عزلتكَ هي عزلتي – بصوت: محمد الحكيم

عُزلَتُكَ هي عُزلَتي. لكنَّنَا افتَرَقنا في الدَّرب، وقَطَعت الرِّيحُ حَبلَنا بَغتًة. لم يَعُد نَهَاركَ نَهارِي، ولا نَخلَةُ البَيتِ تُظلِّلُنَا. أنتَ في طَرَفِ القرية تُسلِّمُ على المَوتى، وأَنَا أطُوفُ في المُدُنِ مَطْعوناً بخِنجَرٍ، كأنَّنا وُلِدنا معًا، أو بيومٍ نَاقِصٍ. وكانَتِ الطُفولَةُ التي سُلبتْ منكَ هي الأخرى سَلَبْتَها منِّي؛ ومَنحتني بَدَلاً مِنها صَمْتَ القيامَات كُلّها.

ولأنَّني أذْكُرُكَ، وأسمَعُ ضِحكَتَكَ البَيْضَاءَ وهي تَطْرُدُ الحِقْدَ مِنَ الدَّار، وتَجعَلُ الرُجُولَةَ تَنمو كالكِريستَال. ولأنَّني ما انتظرتُ أحدًا، أكثرَ ما انتَظَرْتُكَ أنتَ. ولا تَسَمَّرْتُ مَغبُونَاً على المَرْفأ، تَسنِدُنِي الزَّوابِـُع وألـوِّحُ بيَـدَيِّ للسَّراب. ولأنَّنـي مَـا قاتَلـتُ فـي الأزقَّة المُظلِمَـةِ: سِلْكي مَشْـدُودٌ علـى خِـصْـرِي ورِفَاقي وَرائِي، وأنا بالقَلبِ الجَسُور، أَخُوضُ حُرُوبَ الحَاراتِ، وأُطَبِّبُ جُرُوْحِي بغَطْسَةٍ في البَحْـرِ. إلا مِـن أجْـل تلـكَ الضِّـحكَةِ البَيضاءِ التي أَعبُد.

الفَتى السّاحِلِي الصّارِمُ والمَهيبُ كالرُّمْحِ. سـافَرَ كثيـراً، وعَمِـلَ غَوَّاصـاً فـي سُـفُـنِ الجَبَابِرَة. وكان يُدَخِّنُ التُّنْباكَ في البَصْرة. يَشْتَري البَخُورَ من عَدَن، يَعومُ فَرِحاً مع سَلاحِفِ المُحِيطِ الهنديِّ. وينامُ وحيداً مع خِنْجَرهِ على فِراءِ النِّمرِ في مُمْباسَا. وكانَ من فَرْطِ نَظَافَتِهِ، يَغْسِلُ صَبْرهُ بِمَاءِ اليَنَابِيعِ ويُصلِّي كإمَامٍ عَلى حَنِينِهِ. فَتـًى مِـن خَيزرانٍ وَوَردٍ، بعصاهُ المدْهُونَةِ بالغُيومِ، تَلْدَغُهُ شَمْسُ البُلدَانِ، ويَترُكُ في قَاعِ كُلِّ بَحرٍ ظِلَّهُ.

هكذا كُنتُ أَراهُ، كُلَّمَا جَالَ وغَضِبَ وتَوهَّجْ. يَداهُ من مِلحٍ وعَنبَرٍ، وَعَيناهُ لُغَةُ البواشِـقِ النَّادِرَةِ. وكُنتُ لا أبكِي ولا أتَكلَّمُ، حينَ يَترُكَ قُبْلَةً يَتيمَـةَ علـى قَلـبِ أُمِّي، ويَمْضي بِـلا وَدَاعٍ مِني. كنتُ أهرُبُ مِنَ البَيتِ، في ذلكَ اليَـومِ المَنسي. أَتَسَلَّقُ شَجَرةً عَاليـةَ قُـربَ الشَّاطئ. وأكتَفي بالنَّظَرِ إليه من بَعيدٍ، وهو يَثِبُ مع صُرَّتِهِ إلى المَركِبِ. وكنتُ أتَكوَّمُ فـي مَكـانِي، مثـلَ صَخرةٍ عَالِقَةٍ بَطَـرَفِ الكَون، وأُناديهِ بِعيُوني، ولا يَسمَعُني.

أربَعُون مـَرَّتْ الآنَ، ونَحنُ على فِراقِنـا يـا أبي. نَلتقي عند كُلَّ دَورَةِ قَمَرٍ، مِثلَ ناسِكَينِ مُتعَبَيْنِ. نَتَفَحصُ وجهَيْنا على ضَوءِ شَمعةٍ. ربَّما لنتأكَّد بأنَّنَا أحياءٌ، أو بأنَّنَـا لـم نَـزَل نَعرفُ بعضَـنا. أنتَ، دامِـعٌ كنَهـرٍ علـى كَتِفي. وأنـا بـلا دَمعٍ، يَهطِـلُ حُـزنـي بـين أحشَائي كانثيالِ الرَّمادِ، ولا أعرِفُ كَيـفَ أصدّهُ؟




*نص: عبدالعزيز جاسم
*من ديوان: آلام طويلة كظلال القطارات

زر الذهاب إلى الأعلى