المَنفى – وديع سعادة

الإنسان كائنٌ عاقل؟ صفة ناقصة. ما عادت دقيقة. الإنسان كائن منفيّ.

بات صعبًا تحديد موطن للناس. المنفى اتسع. الأرض كلها صارت منفى.

ما عاد هناك وطن. هذه تسمية أضحت من التراث. من الذاكرة الآفلة. البشر يقيمون في منفى لا في وطن.

كان في الماضي منفى جماعيّ ومنفى فرديّ. صار الكلُّ كلِّيي النفي: منفيين في الخارج ومنفيين في الداخل ومنفيين في الجماعة ومنفيين في الذات.

لم تبق في الخارج أية إشارة إلى أن هذا المكان، أو ذاك، هو مكاننا.

ولا في الداخل إشارة إلى أن الذات لا تزال تخصُّنا.

صار صعبًا، بل مستحيلاً على المرء تحديد ذاته، فكيف تحديد مكانه؟

إذا الذات نفسها منفيَّة، هل يمكن التحدُّث عن مكان؟

سيلٌ من الخطى على بلاط بارد. دفقٌ راكض يطوي الأمكنة. مشيٌ لا يحتفظ بأي مكان.

لا درب. فقط تشعّبات. وخطوات تتشعّب على التشعّبات كلها ولذلك لا تسير.

لم يبق للأقدام طريق تألفه وزاوية تتمدّد عليها. درب العودة إلى مكان أليف، بشوق و بطء وفرح، ما عادت ممكنة. صارت ممحوَّة. محتها الخطوات الراكضة وموت الألفة واستحالة العودة. محاها غياب المكان.

المكان الذي غاب كمساحة، وغاب كحضور.

ليس ممكنًا، بعد، أن تكون حاضرًا مع آخرين، لا بينهم ولا فيهم. لم يعد لديك كلام لهم ولم يعد لديهم كلام لك. إذا تكلّمتَ لا تتكلم إلا مع ذاتك ولو ظننتهم يصغون. وإن تكلّموا لا تسمع إلا صوتك ولو اعتقدوا أنك تصغي. لا تكون إلا فيك ولو كنت في جمهرة. ولا يكونون معك ولو كنت بينهم… لستَ إلا منفيًا وليسوا إلا منفيين.

منفيٌّ في المكان ومنفيٌّ في الناس. منفيٌّ في الخارج ومنفيّ في الداخل.

مثلّث المنفى: منفى المكان ومنفى الآخر ومنفى الذات.

هل تجد ذاتك وطنًا لك؟ قُلْ. هل ذاتك مسكن؟

هل بينكما لغة؟ أأنتما متفاهمان؟ أليفان؟ تنامان على سرير واحد؟ تترافقان على الطريق؟

إني لا أرى غير عداء وخيانة.

الذات لا تخلص لصاحبها، الذات تخون. لا ترافقه، تهجره، لا تنقذه، ترديه.

لا أرى غير بُعد وغياب.

لا أرى رفاقًا سوى الآفلين. لا رفاق إلا الموتى.

غابت الأمكنة وغاب سكانها. لم يعد ثمة مكان ولا قاطنوه. صار خطأ ما تعلمناه عن مفهومي المكان والزمان، وعن الإقامة والاغتراب. تغيَّر كل شيء. انقلبت الحياة والإنسان والأشياء على مفاهيمها وعلى نفسها. دخلتْ في خلطٍ فوضوي حتى الإلغاء. إلغاء المكان وإلغاء الزمان وإلغاء الآخر وإلغاء الذات.

دخل الكل في منفى كليّ. دخل الكل في الغياب.

وكان هذا الغياب سيكون جميلاً لو لم يكن جرفًا جماعيًا، لو لم يكن التزامًا بالركام.

كان جميلاً لو للغائب خصوصية غيابه، وللملغي فردانيّة اختيار الإلغاء.

فللغياب الاختياري نصرٌ على الحضور. للمنفى الخاص نصر على الانتماء. للغياب والمنفى نصر على الجماعة والاستيعاب والامتصاص.

هكذا، يكون المنفى نصرًا نادرًا. يفوز المنفيّ بذاته ولو ليس له رفاقٌ إلا الآفلين، لو ليس له رفاق إلا الموتى.

هكذا يكون للفرد حضور.

هكذا لا يكون للفرد حضور إلا بغيابه!



*نص: وديع سعادة

زر الذهاب إلى الأعلى