صُوَر الحافَّة – بسام حجار

«فلأرحل بعيدًا جدًا ذات يوم»
(رامبو: فصل في الجحيم)


كَانَ مُجَرَّدَ خَطٍّ.

خَطٍّ عَادِيٍّ مَرْسُومٍ دُونَمَا اِعْتِنَاء، غَيْرَ أَنَّهُ بَارِزٌ وَصَارِمٌ فِي رَسْمِ اَلْحَافَّةِ.

لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ اَلْخَطَّ، ذَاتَ يَوْمٍ، لَمْ يَكُنْ قَدْ رُسِمَ بَعْد.

كَانَ مُجَرَّدَ خَطٍّ.

وَفِي رِوَايَةٍ لَمْ يُكَذِّبْهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى اَلْآنَ، أَنَّ عَابِرِي سَبِيلٍ جَاوَزُوا اَلْخَطَّ سَهْوًا، وَلَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ بَعْدَ ذَلِكَ.

كَانَ خَطَّاً مِنْ اَلطَّبْشُورِ، عَادِيًّا، لَمْ تَرْسُمْهُ يَدٌ وَاثِقَةٌ، مُتَعَرِّجًا بَعْضَ اَلشَّيْءِ غَير أَنَّهُ صَارِمٌ فِي وُضُوحِهِ، غَامِضٌ يُثِيرُ الخِشية مِنْ بُعْدٍ. وَكَانُوا أَيَّامَ اَلْآحَادِ يَصْطَفُّونَ جَنْبًا إِلَى جَنْبٍ بِمُحَاذَاتِهِ وَتَشخَصُ أَبْصَارُهُمْ نَحْوَ اَلْبَعِيدِ، فِي اَلْجَانِبِ اَلْآخَرِ.

وَقَالَ: مثل خَطِّ اَلْكَفِّ بِهِ تُقْرأُ الأعْمَارَ. قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ يَكُونُ وَهْمًا. وَلَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا صَدَّقَتَ أَنَّهُ هُنَا. وَإِذَا صَدَّقَتَ وَجَاوَزَتَهُ أَصْبَحَتَ فِي اَلْجَانِبِ اَلْآخَرِ. وَإِذَا لَمْ تُصَدِّقْ وَجَاوَزَتَهُ أَصْبَحَتَ فِي اَلْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ لَا تَزَالُ.

وَقَالَ:
هُنَاكَ ظِلَالٌ كَثِيرَةٌ. وَشَجَنٌ خَافِتٌ هُوَ مَا يَسُرُّ بِهِ اَلظِّلَالُ لِلظِّلَالِ. ونسَمٌ كَمَثَلِ هَذِهِ اَلسَّرْوَات اَلْمُسِنَّةَ إِذَا جَاءَ اَلْمَسَاءُ. وَطَرَاوَةٌ كَمَثَلِ اَلْمَاءِ وَلَا مَاء.

وَالْيَوْمُ اَلَّذِي لَيْسَ اَلْيَوْمَ، بَلْ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانَ.

إِنَّ أَحْبَبْتَ شَيْئًا وَفَقَدَتَهُ، تَعلمُ يَقِينًا أَنَّهُ هُنَاكَ. عَيْنَاكَ لَا تَرَيَانِ؛ أُذُنَاكَ لَا تَسْمَعَانِ؛ غَيْرَ أَنَّكَ تَعْلَمُ وَتُصَدِّقُ لِأَنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ مَحَوْتَ اَلْخَطَّ وَبَدَّدَتْ اَلظِّلَالَ مِنْ وَرَائِهِ وَمَا عُدْتَ تَدْرِي وَصِرْتَ وَحِيدًا لِأَنَّكَ لَا تَرَى وتَعلَمُ اَلْيَقِينَ أَنَّ مَا مِنْ شَيْءٍ حَقًّا تَرَاهُ.

وَقَالَ لَا تُصَدِّقُ إِنَّهُ بُهْتَانُ اَلرَّائِي فِي اَلْمَنَامِ. وَقَالَ إِنَّهُ بَابُ اَلْمَوْتَى.

وَمَا صَدَّقَتُ. غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ اَلْخَطَّ أَفْعَى. غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ اَلْخَطَّ بَابَاً لَا يُفْضِي، وَرَأَيْتُهُ عَتَبَةَ اَلْخَوَاءِ. وَمَا صَدَّقَ اَلرُّوَاةَ زَعْمِي وَقَالُوا لَا يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنَّا أَنَّ اَلْخَطَّ ذَات يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ قَدْ رُسِمَ بَعْدُ، وَمِنْ جَاوَزَ اَلْخَطَّ لَمْ يَمُتْ وَلَا صَارَ طَيْفًا، بَلْ صَارَ هُنَاكَ.

كَانَ مُجَرَّدَ خَطٍّ…

خَطٌّ عَادِيٌّ مَرْسُومٌ دُونَمَا اِعْتِنَاء.

كَانَ مُجَرَّدَ خَطٍّ وَلَا يَذْكُرُ أَحدٌ مِنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ذَات يَوْمٍ قَدْ رُسِمَ بَعْد؟ أَمْسَكَتْ يَدِي وَعَبَرْنَا إِلَى اَلصَّخْرَةِ وَسَطَ مِيَاهِ اَلنَّهْرِ اَلْجَارِيَةِ. أَوْقَفَتْنِي عَلَيْهَا. وخَوَّضَتْ فِي اَلْمِيَاهِ اَلْعَذْبَةِ اَلَّتِي تَعْلُو اَلرُّكْبَتَيْنِ. قَطَفَتْ تُوتًا بَرِّيًّا أَسْوَد وَأَطْعَمَتْنِي. قَالَتْ: لَا تَخِفْ. هُوَ ذَا بيتُنا اَلْآنِ. قَالَتْ: لَا تَبْكِ. هِيَ ذِي يَدِي تَمسَحُ جَبِينِكَ، وَنَادَتْ عَلَى اَلذِّئْبِ اَلَّذِي لَا أَرَاهُ وَفَرَّ هَارِبًا، وَنَادَتْ عَلَى اَللَّيْلِ فَنَوَّرَتْهُ أَسْرَابُ اَلْحَبَاحِبْ. وَقَالَتْ لَا تَخفْ. هُوَ ذَا بَيْتِنَا اَلْآنِ. وَانْتَظَرَنِي هُنَا عَلَى اَلصَّخْرَةِ رَيْثَمَا أَعُود.

كَانَ مُجَرَّدَ خَطٍّ وَقَفَتْ بِمُحَاذَاتِهِ وَنَظَرَتْ إِلَى اَلْبَعِيدِ. إِلَى اَلْجَانِبِ اَلْآخَرِ. وَلَا أَحَدَ يَدْرِي مَا اَلَّذِي رَأَتْهُ هُنَاكَ. قَالَتْ إِنَّهَا ظِلُّ اَلطَّائِرِ. وَقَالَتْ إِنَّهَا ظِلُّ اَلْفَرَاشَةِ. وَقَالَتْ إِنَّهَا اَلْحَجْرُ يَرْمِي فِي اَلْبِئْر.

قَالَ لِي حِينَ زَالَ عَنْهُ بردُ اَلْبُكَاءِ وَجَالَتْ عَيْنَاهُ بِنَظْرَةٍ بَعِيدَةٍ: أَرَى اَلْآنُ مَا رَأَتْهُ. أَرَى أَنْوَارًا بَاهِرَةً وَأَجْسَادًا تَشِفُّ، وَأَسْمَعُ أَصْوَاتًا كَأَنَّهَا اَلْهَمْسُ. وَثَمَّةَ مَنْ يُنَادِي.

وَقَالَ لِي اذكُرني إِذَا عَبَرتُ وَلَا تَنْتَظِرنِي. أَكُونَ ظِلَاً لَكَ هُنَاكَ. أَكُونَ ظِلاً لَهَا. وَقَالَ لِي إِنَّ حَبَبْتْ وَجْهِي ورأيتَهُ فِي اَلْمَنَامِ صِرتَ مَلَاكًا. وَإِنْ نَسِيتَ ضَللتَ اَلسَّبِيلَ إِلَى نَوْمِي.

وَقَالَ: اُذْكُرْنِي وَلَا تَنْسَ.

وَنَسِيَتُ كُلَّ يَوْمٍ لِأَنَّ اَلْيَوْم لَيْسَ اَلْيَوْمَ، بَلْ اَلْيَوْمُ اَلَّذِي كَانَ.

كَانَ مُجَرَّدَ خَطٍّ، أَقِفُ بِمُحَاذَاتِهِ وَأُصْغِي:

سَوْفَ تُنَادِي عَلِيَّ.

سَوْفَ يُنَادِي

قَالَ:

*نص: بسام حجار
*من ديوان: حكاية الرجل الذي أحبَّ الكناري

زر الذهاب إلى الأعلى