مختارات من ديوان: لم يعد أمرًا ذا أهمية – مريم الزرعوني

صورةٌ جماعيةٌ ولا رفاق

في فمكَ يتكسرُ الماء،

يتمزقٌُ الهواءُ في رئتيك،

الصورُ في مخيلتك شظايا،

تتبخرُ العبرةُ،

ويُرابطُ الملح

ثمَّ تذروهُ الغصَّةُ في عينيكَ

وتتساقطُ الذاكرةٌ المُرَّةُ 

سمًّا ينعقدُ في يديكَ

ذلكَ يعني أن تنكسرَ

فتضحكَ كثيرًا،

تضحكُ ملءَ قلبِكَ،

يتَّسِعُ، يتمَدَّدُ،

يُزاحمُ رئتيك،

وتضيقانِ بهوائهما الحزين،

تُسرِّبانِه معزولًا إلى الفضاء

يتبعُهُ يمامُكَ

هاجرًا أعشاشَ روحك،

هكذا يكتملُ انكسارُك.

***

أنت

يالدمعة العصيَّة،

غصَّت بها المآقي،

أنتَ نُدفةٌ تتسيَّدُ البياضَ،

لسعةُ بردٍ شهيةٍ،

ضوءٌ في القلبِ.. وميسمٌ.

أتيتَ في عبثِ الريح،

تصفقُ الأبواب،

وفي الدارِ يتيمٌ،

يا أُنسًا أليمًا،

ضلَّلَ الغريبَ في حانةٍ مكسونةٍ،

هذا الطريقُ طويلٌ،

ومتّسَعٌ..

لكنه لا يكفينا،

فلتفلت يدك.

***

عادات

كلَّما أطلَّ رأسٌ ضئيلٌ؛

رشَقَهُ رحمٌ – مغلوبٌ على أمرِه – إلى العالم

تطوقونَه بقلادةِ اللآت،

تتلونُ في مسامِعِه الألفُ حَذَار،

ثم تُحكمونَ أقمطته،

تصنعُونَ له مهدًا مُضادًّا للأحلام

وإذا حانَ وقتُ الكلام؛

يدُ الغريبِ قبلَ القريبِ،

مخوَّلةٌ بغلقِ فيهِ.

تُرضعونه اللاتسألَ قبلَ اللبن

تُطعمونه السكوتَ عوضَ الخُبز

تصنعونَ له عرائسَ أشباحِ المدينةِ،

فهكذا جرت العادةُ..

ولما ابتلعته غابةُ الخوفِ

ما جدوى بحثكم عن الفؤوسِ؟

***

جذاذةٌ حرة

روحٌ شاردةٌ 

ديدنُها التَّسكُّعُ، فيما لا يعني أحدًا

صاغت عداءاتِها الفطرية،

ثم تفرغت لطوافٍ لن ينتهي

تبحثُ عن سماواتٍ 

لا تُبدِّلُ زرقتها،

وناسٌ؛ أثرٌ بعد عين.

يفجعها صياحُ ديكٍ هَرِمٍ،

تاهَ في تلافيفِ المدينةِ،

كانَ يتبعُ ظلَّ غيمةٍ.

روحٌ تسكنُ إلى الصحاري،

يهتفُ بها سدرُ الفلوات:

ألا تَحطِّي مثلَ حمامٍ ساذجٍ،

وليسَ ثمَّةَ أجنحةٌ تعيَى.

روحٌ ما فتأت تذرعُ الفضاء،

تُنصتُ إلى أصواتٍ

فرغها الظمأُ،

جميعهم في إثر نفسٍ حُرّ.

***

أصلٌ وظل

لستُ معنيةً سوى بالأصول،

أما الظلال،

فأعلمُ أنها صنيعةٌ،

تتقلبُ في المشيئات،

ليسَ لها منهم شئ.

***

إلى حيثُ مأمن

كلُّ الناجينَ اتفقوا أن يعودوا إلى البحرِ،

للحطامِ الذي خلَّفوه وحيدًا،

رحمةٌ ما ساقتهم إلى هناك،

ساروا بروحِ قطارٍ،

صنعهُ الأطفالُ في فسحةٍ مدرسية.

عندما خاضت قدمُ آخرهم في المدِّ البارد،

كانَ القاعُ يلثمُ قلبَ أوَّلهم.

***

بحثًا عن جسر

مدجَّجٌ أنا بهذا العبور،

بعمرينا المتقاطعين هنا،

وطفولةٍ مُسنَّةٍ

دويٌّ كلها فواصلُ الأيام..

وعشبٌ أصفرُ يجرحُ الجوع.

***

وقدة

من يدري عن هؤلاء

الذين يشتعلون حتى الرماد،

في الفراغ السحيق

***

ربما

العمرُ عفارٌ من عدوٍ،

نهارٌ لا يُطوى البتَّة،

قلبٌ يختبرُ اعترابه في الهجير

حلمٌ بضُّ يُشقيه الجمالُ

يُدحرجُ كينونته إلى دوَّاماتِ الهواء،

تلك التي تحفرُ السِّباخ

وتذرو الملحَ في الدمعِ

قدمانِ مندوفتانِ تخوضانِ اللظى

ولا بحرَ يحملُ أثقال السفرِ

أو يُطفئُ جمرًا يتَّقدُ في الرُّوح.

***

كائناتٌ فوتوغرافية

تمرُّ الصورُ من هنا كلَّ يوم،

تشربُ من الدمعِ المذخور،

ثمَّ تمرُّ الكلماتُ،

تغتسلُ من الصدى.

الصورُ تسحُّ الألوان والصمت،

والكلماتُ تنزُّ المهدورَ في المعنى،

يرحلُ الجميعُ خفافًا،

إلا القلب.

***

أحبولة

نتوالى نحنُ الثلاثةُ،

أنتَ،

والفكرةُ،

وأنا

يفتلنا الوقتُ،

نصيرُ في يدِهِ حبلًا

يُكبِّلُ أحلامنا.

***

طقوس

يجرُّ ليلته على كتفه،

ينشعُ العالم من رئتيه،

يُمجِّدُ غربته،

وينطفئ.

***

عزف

بوترٍ مشدودٍ على شغاف قلبها

تعزفكَ،

ألحانًا،

تتوالدُ من رحمِ الغَدْقِ،

حُنوًّا يُفسدُ كلَّ دروسِ الحياة،

وتدًا يُقيم خيمتك.

إنها كنفٌ لا يُمكنه النبذ.

***

ما لابدَّ منه

الكلامُ الحبيسُ لعنةٌ،

يُرعبني التفكيرُ بدفرِهِ دفعةً واحدةً،

هكذا في وجهكَ الشمعي.

يُرعبني ألا أرى هذا التمثال بذريعةِ الكلام.

هذا الكلامُ القديمُ يذوبُ الآن،

يتسرَّبُ إلى قلبي،

يسدُّ تجاويفه،

يُضيِّقُ رحابته،

ويجرجركَ إلى الخارج.

الكلامُ عديمُ الجدوى،

يُقايضُ صمتي بما تبقى بيننا،

لزِجًا..

يَسُدُّ كلَّ المعابر.

***

عارٍ في العمى

العاري في غابةِ العمى

يخوضُ متاهته،

يركضُ ملءَ رئتيهِ،

لكنَّهُ لا يصلُ..

جوفُه يشتعلُ بظمأٍ لا يُبرِؤهُ العبُّ،

هو يحلمُ بوثبةٍ عاليةٍ،

في عتمةٍ مُخمليةٍ،

ينضحُ فيها عوَزَه.

العاري يعرفُ قدَرَهُ،

لكنَّهُ يبحثُ عن أحزانٍ لا يعرفها،

كي تؤنسَ حُزنَه.

***

تقريرُ إبادة

في بقعةٍ شمسيةٍ،

وعلى سهوٍ من الأجنحةِ،

سيقت طيورُ المينا إلى مجدِها، وحتفها..

ليسَ المكانُ مأوى،

إسمنتٌ يتوغلُ في الرِّيش،

وشمسٌ تُجَرِّبُ هدأتها في سوادِهِ،

“قبيلةٌ غازيةٌ تَسُفُّ الصحاري”

تُصرِّحُ مراكزُ الأبحاث.

“طائرٌ مُسَلٍّ يُحسنُ الكلام”

يُردِّدُ بائعُ الطيور.

على أعمدةِ الإنارةِ تنامُ “المينا”

مفتوحةَ العينينِ،

تحلمُ بأفعى تلتفُّ على ورطتها.

***

عبث

رُغم خدوشِ الصباح،

والمياسمُ التي تُقلِّبُ جِمارَكَ،

إلا أن ليلاً لا تبدو له نهايةٌ،

يهوي بك..

***

قافلةُ الموتى

كثيرٌ هذا الليلُ،

أبدأُ فيه المسيرَ ولا أنتهي،

أمرُّ أولَ الإظلامِ بطيفٍ،

يستندُ إلى جذعٍ غضٍّ،

يرأفُ برهافته، 

يُتيحُ له نَفَسًا،

يتخلَّصُ به من أثرٍ عميقٍ،

يمدُّ الطيفُ قلبَه،

فأمدُّ كفِّي ونتصافحُ.

مع اشتدادِ الظُّلمةِ،

تحطُّ على عتبةِ الليلِ قافلةُ موتى،

يقودها ساعي بريدٍ،

يومئُ في الضبابِ،

فتطفو الأحلامُ المُكّدَّسةُ

وتنسَلُّ واحدًا تلوَ الآخرِ،

إلى مواعيدِ المكلومين.

القافلةُ تواصلُ السير،

والموتى يزدادون.

___________

*مختاراتٌ من ديوان: لم يعد أمرًا ذا أهمية – مريم الزرعوني.

مريم الزرعوني

  • شاعرةٌ وفنانةٌ تشكيلية إماراتية.
  • عضوةُ اتحاد الكتاب والأدباء الإمارتيين، ورئيسة نادي الشعر.
  • عضوة جمعية الفنون التشكيلية الإماراتية.
  • كاتبة مقال أسبوعي في الملحق الثقافي لجريدة الرياض السعودية.

صدرَ لها:

  • تمتمات، مجموعة شعرية، 2017
  • رسالة من هارفارد، 2017، رواية لليافعين، فازت بجائزة العويس للإبداع، 2018.
  • أبي الكناري الكبير، 2022، قصةٌ للأطفال.
زر الذهاب إلى الأعلى