تعويذة للعائش في الطوفان (مختارات) – سركون بولص

تعويذة للعائش في الطوفان

في عري هـذا الطوفان لا نوح ولا سفينة… إن كان لبعض الخوافي أن تنجلي لكَ الآن، فأنتَ صوتها القادم من بعيد إلى مكان انتظارها؛ أنتَ الذي أردتَ المُغامرة وأحرقتَ الخريطة، نم الآن في بوابة التنين. العاصفة التي مرَّتْ، أتلفت قلبكَ: لا تُحاول ترميمه، إنَّه بيت مخرَّب. المُطاردة طالت وأنتَ لا تعرف كيف تصلّي. طفحَ الكنز في اليدين. عُبر النهرُ، مرتين، عادت الحمامة لكن بقي الغُراب. ذهبَ الصديق، أتى العدوّ . . .

وستحيا، من بعد أن يموت.


ملاحظة من مسافر

عندما رأيتُ

الموت يتوضأ في النافورة

والناس من حولي يعبرون نياماً في الطرقات

بدا أن أحلامي أهرامٌ من الرمل

تنهارُ أمام عيني

ولمحتُ نَهاري يهرب في الاتجاه المعاكس

بعيداً عن تلك المدينة الملعونة..

البدء نختاره

لكن النهاية تختارنا

وما من طريقٍ سوِى الطريق.




حلم الحمال على جسر القلعة

  • إلى جليل القيسي في كركوك

قيل إنَّه حزنٌ

ينخر القلب كقِطر تیزاب

ويجعله يحومُ حول بيتها كالطيفِ

لعلَّه يَحظى بمرآها، تُطيّحُ أعطافُها أمامهُ مرَّةً أخرى

كباطيةٍ من النبيذ الغالي، كانزةً تحت العباءةِ ملذّاتٍ

تَسري فيهِ الرِعدةُ إن تخيّلها، يبكي

كلّما تذكّرها . .

بدأتْ تَختلط أمامه الأشياء كخارطةٍ يَتقرَّاها مسافرٌ

محموم، يذكر الأمس أحياناً

كأن أحداثه ليست لهُ –

من دَعاهُ ليحمل بضاعته، في أيّ الزوايا استدار

أو لم يستدِر، في أيّ الطرقات سار.

هل كانت الشمسُ مشرقةً

أم كان يهطلُ المطرُ..

الإشاعةُ ساريةٌ، باحترامٍ ساخرٍ

يسمونهُ الآغا أو البيك الآن

يضحكون في لحاهم من وراء ظهره عليه

كلما مرَّ ساهماً يُغني:

«قلعنن دیبنده

بير داش أولا يدِم»

ليتني كنتُ حجراً

في أسفل القلعة

ليتَ القلعةَ ظلَّت عاليةً

وأنا في أساسها حجرٌ..

وقيل: «شايف اللي ما ينشاف»

أو أنها أعجبت بعضلاته المتينة

فاتحة له، لمرَّة يتيمة، سريرها . .

ولكن، كما يلمس الأعمى بمحجريهِ

رداء النبي، ويغزوهما النور للمرة الأولى

يوم رآها، يوم توقَّفت أمامهُ

عربةٌ – حوذيّها جارٌ له

في الخان – ترجَّلت منها سيدةٌ

يتوّج رأسها شعرٌ ذهبيّ

كلَّما ضربته الشمس انهارت عيناه إلى داخلهِ

في إثرها خادمةٌ

أشارت إليه

بالاقتراب –

على رأس الجسر المؤدي إلى قلعة كركوك

والمطل على نهرها المشهور بالجفاف!

قلعتها المجَنْزرة بآلاف

الأدراج تسلّقها مئات المرات

حاملاً على ظهرهِ البيوت

حيث النساء كإناث نسور يتبرّجن في نوافذ عالية

أو يتفرجنَ على المارّة من تلكَ الأبراج.

كلُّ حبةٍ لها كيَّال، وهذا هو موعده . . شكراً أيّها الحوذي الذي

أرسلته الأقدار ، جازاك الله، جازاك

لكن لماذا اخترتني

وكيف أعود اليوم إلى مكاني الذي كان لي قبل أن أراكَ؟

ليت القلعة ظلَّت عاليةً

ليتني لم أرَ التاج!

أتعويضاً إذاً يا سيد الخسائر والأرباحِ

عن بقيّة أيامنا البخيلة

ومن يحسب الفائدة

من يسدد لنا الحساب؟

ليت القلعة…

من؟

. . وأنا في أساسها حجرٌ .

نقدته الخادمةُ درهماً وهي تدفعه من فتحةِ الباب حيث تعثَّرَ مذهولاً يُحدّق في يده

وطبطبتْ على ظهرهِ بكفّها المحنّاة

فارتفع الغُبار من لَبّادتهِ الثَّقيلة.


*نصوص: سركون بولص
*من ديوان: حامل الفانوس في ليل الذئاب

زر الذهاب إلى الأعلى