الذهابُ بعينه
أنتَ تذهب في الشاي والتبغ، وحدكَ تذهب؛ ولا أحد بإمكانه أن يذهب معكَ، تفتقُ الوقت وتدخل، دون أن تنسى رتقه خلفكَ، تمكثُ هناكَ وحدكَ، دقائق قد تطول، تسوّي مكانكَ، تستبعد حصى أيامكَ وتكنس عيدان أوهامكَ، وتبقى، فلا أحد ينتبه إليكَ، ولا أنتَ تنتبه لأحد، ولا تريد، أنت لا تنسى رتقَ الفتق، أو إسالة مادّةٍ لزجةٍ على الرتق؛ مادة تجلبها من أماكن عميقة في روحكَ، أماكن بعمق وجهكَ حين تذهبُ، فذهابكَ على هذه الطريقة وبهذه الصورة، ليس عبثاً. تقعدُ شغلُكَ النظر، من عينٍ مفتوحة، أو مواربة، وقد تكون مغمضةً بإحكام، تحدّقُ في الشيء ولا تراه، تذهب فيه ولا تصل إلى قاعه، كأن النظرة ليس لها آخر وكأنّ الشيء بلا قعر، هكذا مثل مصادفة، تذهب في الوقت ولا تجيء، تفتقُه وتذكرُ جيّداً رتقَه، أو طمسَه، تحرص على ذلك ولا تنساه، حتّى لا يُعلَم مكانَ دخولكَ، تذهبُ كأنَّكَ لستَ هناك، تتقن الطمس، حتّى ليتعذّر على أيٍّ كان الهجسُ بوجودكَ حيث أنت، تذهب وتقيم جدرانكَ حولكَ، فلا تتركَ مكاناً لبابٍ أو نافذةٍ، أو حتّى أقلّه كوّةً، تتيح لأحدٍ أن يطلّ عليكَ فيعثر على نَظرتكَ، التي تبدو، كما لو أنّها لا آخرَ لها، كوّة يقع خلالها على ذهابكَ، فيفكر للحظةٍ أنّك ذهبتَ.
أنتَ تذهب جيداً، وتتقن ذلك، فأنت لا تفعل شيئاً على الإطلاق، غير أن تذهب بعنفٍ وقسوةٍ أيضاً، ولا أظن أحدًا يحتمل عنفَ ذهابكَ هذا ولا قسوته، حتّى يغامر أو يتهوّر، ويذهب معكَ، لذا أنتَ وحدكَ الذي يذهب ولا يرافقكَ غير ذاتكَ، ذاتكَ التي درّبتَها على هذا الذهاب، وحقنتها بتلكَ الجرأة، ولا يُعلَم بماذا أغريتها حتّى ذهبتْ معكَ، ونقدر أنْ نقول ـ دون أن يكون بذلك أية مغالاة ـ أنتَ أغويتها حتّى سارت على خُطاكَ، وولجتْ معكَ شرنقةَ ذهابكَ، واختفت، وقد تكون تفعل ذلك من باب الخوف عليكَ، فإنْ هي فعلتْ وتركتكَ تذهب وحيدًا، فمن يضمن لها عودتكَ من ذهابٍ كهذا، فلا أحد يعرفكَ أكثر منها، أو يتكبَّدُكَ مثلُها؛ فهي لم تذهب معكَ إلا كحارسٍ ولم ترافقْكَ إلا كأمٍّ تدرك أن ذهابكَ هو الذهاب بعينه.
تشعل ضوءكَ الخاص، الضوء الذي لا يستطيع أي ضوء أن يعوّضه، تشعله لتتمكّن من الرؤية بكل وضوح؛ فبدونه لن ترى أبداً، وقد تتعثّر بوحدتكَ فتوقها وتكسرها، وقد تبقى في الظلمة وتبقي ضوءَكَ مطفأً لأنَّكَ لا تريد أن ترى شيئاً، لأنّ الأشياء، أحياناً، تفسد وحدتكَ التي اخترتها خاليةً من أي شيء.
ليس ضروريّاً
ليس من الضروري، التفكير في لكز مروحة السقف، أو حتّى التردد في إيقاظ مكيّف الهواء. ليس ضروريّاً الاكتراث لدرجة حرارة الغرفة، ولا مهمَّاً الانتباه متأخراً إلى أن سكّر ” النسكافيه ” كان أكثر مما ينبغي، أو أن الاكتفاء بملعقةٍ واحدةٍ هو ما كان يجب.
هل الضوء كان كافياً. ورقٌ أصفر لكتاب ” صانعة المطر ” لـ (رؤوف مسعد)، أكان الأمرُ يتطلّب زيادةً ولو قليلة في الضوء. انشغالاتٌ كلّها ليست ضرورية؛ بقيّة ” النسكافيه “، هل ينبغي دَلْقُها قبلَ غارةٍ على عددٍ من الصفحات، أو بعد ذلك، برودةُ السائل أو حرارتُه المترتبة على المراوحة بين أمرين يسيرين كهذين، كل تلك أمورٌ غير ضرورية. أَوَ لم يتدحرج حجرُ ضرورتها الكبير، ساحقاً كلَّ ما في طريقه.
ليس هناك ما هو ضروري، حتّى الاستلقاء، أو الاتكاء، المبالاة بالعمود الفقري.
وليس ضروريا أيضاً، إلقاء نظرةٍ على الساعة، أو معرفة ما إذا كان النهار ما يزال يمرّ، أو أن الليل يوسع خطاه.
ليس القيام بفعلٍ ما أو تركه، ضروريا، ليس الحرص على إسكات الغسّالة أو دحرها. الإصغاء إلى أمورٍ كانت تشغلُ إلى حدٍّ قريب؛ فتلك أشياء ليست، أبداً، على شيءٍ من الضرورة. أمورٌ كثيرة لم تعد ضرورية، حتّى أخْذ نَفَسٍ عميقٍ، وطردِه سريعاً، أو الراحة التي يبعثها القيام بذلك.
حتّى المرأة التي انتبهتَ إلى خطاها في الممرِّ، ثمّ استقرّتْ بقامتها في وجهكَ، لم تقم بأدنى فعلٍ ـ مع أنه كان في وسعك ـ لإخفاء ورقةٍ مملوءةٍ بهذركَ، كما كنتَ تفعل عادةً، لأنكَ لم ترَ حينَها ضرورةً، أبداً، لذلك.
الخروج إلى الشارع، الانتباه إلى اتّجاه السيارات وسرعتها، ارتداء الثياب حتّى تكون لائقاً، الدخول إلى ” البقالة “، اللهاث خلف ملحقٍ أدبيٍّ، التمعّن في صفحات الجرائد، الانتظام داخلَ صفٍّ أمام الرجل المحاسب، التظاهر بعدم الاكتراث للنساء المتبضعات، الكآبة التي يورِّثُها جهدٌ كهذا، والتي تخرج بها على شكل تعبٍ، تحملها معك إلى الشارع على هيئة فمٍ مزموم، نظرٍ تائهٍ، يديْن مشدودتين تحتَ ثقلِ ضرورة قيامك بكلّ ذلك كما لو أنّه، حقيقةً، ضروري.
هكذا وبكل بساطةٍ، دونما تعقيد، ما من شيءٍ ضروري، ولا ينبغي التفكير، وإنْ قليلاً، ما إذا كان ضرورياً، هكذا، لا يوجد ما هو ضروري، حتّى ولا قول كل ذلك. الضروري الآن، هو ألاّ ترى ضرورةً لشيءٍ، أيّ شيء، حتّى حياتِكَ.
*نص: إبراهيم الحسين
*من ديوان: انزلاق كعوبهم