صوت شيلا شاندرا، تختتم أحدث مجموعة قصائد الكاتب كاظم علي المقيم في الولايات المتحدة السؤال التالي:” هل تتذكر؟/أي سؤال/ يحتاج للإجابة” في كتاب ذي شكل مفتوح من خلال استجواب دقيق ومستمر، حيث العلاقة بين المستمع والمؤدي تتجاوز الثنائية الثابتة. السؤال الأخير يعمل كوسواس لفظي: من هو المتلقي المقصود؟ في صوت شيلا شاندرا، على القارئ ان يمشط الاسئلة والأجوبة المتقاطعة في النص، والتي تشبه ثلاث قصائد موسعة وأربع فترات تشبه التراتيل.
علي مُستهلك بمؤثراته الصوتية، لدرجة أن أفعاله الموثقة في الإنصات تولد أداء مميز على الصفحة. هذه القصائد هي وسيط إنصاته، لتجسيد فنائه ” أن تُنصت، أن تجعلها حقيقة”.
يشير علي إلى المخلوقات التي ذكرها في شعره-كوري مينافي، شيلا شاندرا، أورفيوس”- لتسمية بعضها- بطريقة تجعل صوته الشعريّ مضطربًا، عُرضه للعدوى الغنائية من كل ابتهال. كل قصيدة من القصائد الثلاث في صوت شيلا شاندرا تتكيف مع شكل من أشكال التعبير عن رنين موسيقي محدد. فالخطوط والمقاطع تتجزأ وتتقطر عبر امتداد الكتاب لتفسح مجالًا لكل صوتٍ ابتهالي.
في قصيدة هيسبرين لديفيد بيرغر،
يُصيب صوت الزجاج الملون المكسور الصفحة، الموسيقى التي تحوّل الأوتار إلى صوت عالٍ “(تحطمت ألواح نافذة الزجاج الملون التي تصور عمالًا مستعبدين يحملون القطن بطول الطريق)”. في صوت شيلا شاندرا، يتضافر الشكل الشعري في الغنائية، ويعكس تأثير صوت شاندرا المنوِّم” من يستطيع في مقاطع مثل شيلا شاندرا أن يشكو منا؟” وأخيرا في “الفسفور” يبحث علي عن ” القصيدة غير المنطوقة”، ” المقاطع الحقيقية التي غناها أور فيوس إلى الموتى” في حركة تُشبه النقش:
لها
الضجيج
الصوت العالي
زمن الوفاة
يَظهر
ثُلاثيّ الأبعاد
بينما يتحرك علي برشاقته عبر الصفحات، نصادف صوته بدون وساطة- مع حلم يقظةٍ سمعيٌّ بالكامل- في نشيد كقصائد فاصلة تقطع الفراغ بين مينافي، شيلا شاندرا وأورفيس. هذه القصائد تكشف عمق مشروع عليّ:
لا أحتمل أن أكون
وحيدًا في رفع يد المطاردة
لأتردد عن الصوت المتناثر
كمن تُقبَضُ يده.
هنا نرى وحدة عَلىّ، مطاردة تسترعى الغناء. في القصيدة الغنائية لشيلا شاندرا، الطيف يتقطّر: “لم أكن أريد أن أكون وحيدًا”. ربما الأصوات التي يحركها عليّ مع –كوري مينافي، شيلا شاندرا، أورفيوس: تشحن قدرة الشعر على “البحث بعمق”. ربما من خلال هذا العمق أن يجد الشاعر الراحة في صمت إغلاق الكتاب. وربما يكون نهاية الكتاب هو موضع تذكيره، موضع يُفتح للقارئ، يزيد تعقيد العلاقة بين المستمع والمؤدي.
“هل تتذكر-أي سؤال-يحتاج إلى إجابة؟”، كتب
بينما كوري مينافي يكسر الزجاج الملون في الصفحات القليلة الأولى من صوت شيلا شاندرا، ”قصيدة هسبرين” تتكشف في كولاج مجزأ.
يستمع علي لـ مينافي وهو يكسر الزجاج الملون العنصري في كافتيريا جامعة ييل. حيث المقاطع ذاتها سلسة من الشظايا:
ما فعله كوري مينافي
صعد أعلى المنضدة في قاعة الطعام
ممسكًا مقبض مكنسته الطويل
وغنَّى في تفتُتٍ وتقطيعٍ للإله
”الطريق الذي عرفته،
هو التشوّش
الطريق الذي صُنِعَ
من كل منعطفاتك الخاطئة“
هندسة بناء النصَّ تُعجز الرياضيات
وأنّ هناك مفاهيم جبّارة،
في هندسته المعمارية لكل حرف، تجعل الصوت ممكنًا.
عليّ يسمع أن الغناء يتكسر، يدعي أن موقع الكسور هو ” إنهاك مينافي تحت الرأسمالية العرقية” كإشارة للأغنية. يكتب: ما من صوت يكسر دائرة الفعل وردّ الفعل”. يبدو أن هذا السؤال، الذي وضعت دائرة حوله مرة تلو الأخرى بعد تلك الدعوة الأخيرة “هل تتذكر- أي سؤال، يحتاج إلى إجابة؟ “يجيب على نفسه في صوت شيلا شاندرا. إن الصوت الذي يكسر دائرة الفعل ورد الفعل هو الصوت الذي يدعم مشروع عليّ حيث تجاوز “ضرب الرصاص عبر الجسم” وتجاوز العمل الجاحد، والسعي إلى موقع أكثر قداسة في مرحلة ما بعد الرأسمالية.
على نفس صفحة أغنية الكسر لكوري مينافي، يكتب عليّ: لكل قارئي القرءان يقول الله لو شاء لجعلكم شعبا واحدًا” بدلًا من أداء التوحيد التجانسي، يكتب علي من صوت يحدد مركزه مع الأخرين. يؤدي صوته هذه الحركة نحو الوحدانية “الممارسة” من نقاط الكسر التي تنبثق من المساحة بين الشظايا. في ختام “هسبرين لديفيد بيرغر”، أول قصيدة واسعة في الكتاب، كتب: هل يمكننا الغناء على الضجيج؟ هل يمكننا التحرك دون كسر؟ وأن “نحن” هذه تتسع وتغطي كل شخص اسمه في الصفحات. “نحن” هذه تغطي القارئ وتستهويني أكثر.
في قصيدة ” لا أعرف اسمًا” أيضًا نرى صدى عليّ السمعيّ في العزف. القصيدة الشبيهة بالتراتيل مبللة بالاعتذار. تتردد اصوات الوحدة والقصد على السواء “من سيُمسك بيده؟” “مَن أنت؟” سطور مثل ” لا احتمل عدم مساعدة في الصيد” من خلال تكرار تكاثرها بشكلٍ خاص. بعد “هيسبرين لديفيد بيرغر”، بعد ” لا أعرف اسمًا”، شيلا شاندرا تأتي مثل بلسم ” إنها تساعد في الصيد”.
شيلا شاندرا الشخصية المركزية في الكتاب، هي مغنية بريطانية هندية معروفة بصوتها الناعم، واحدة من اغانيها الأكثر شهرة، “وحيدًا أكثر من أي وقت مضى” صدرت عام 1982 من قبل مونسون، وهي ثلاثية بوب ظلت جزءا منها لسنوات قبل أن تبدأ مهنة منفردة. خسارتها الوحيدة تؤكد من جديد في مشفرة عليّ ” البحث بعمق” في 2010. في ذروة حياتها المهنية أصيبت بمتلازمة حروق الفم. فكرة صوت شيلا شاندرا تربط مشروع عليّ معًا. شاندرا، مثل ديفيد بيرغر، كلاهما يدخلان شعر علي في تمزقٍ:
الاستراحات ثابتة
كضوء النهر على النهر
ممزقة، ظلّت صدعًا
كأنها غديرٌ قديم
اندمجت مع تذبذب إيقاعِ الطبل
رحمٌ كالمنزل
يئن في الأرض المظلمة الخصبة
تأتي شيلا
امرأةُ المحيطِ، امرأةُ القصيدة،
تطوف إلى القبر الرغوي
الشاذَرْوان الأصلي الذي غذى أمي زمزم،
عندما ولدتُ أنا.
السجع عميق هنا كما هو في ” لا أعرف اسمًا” فإن فيضًا من صور المياه يتحرك وكأنه يملأ الكسور التي خلفها “هسبرين”. نهر فوق الصدع، صوتٌ أموميّ، رحمٌ منزليّ، تألمت في طينها، صدى الولادة يؤدي إلى سيرة ذاتية “أم شاعرة تُطعم من شاذروان”. هذا نوع من التحول من خلال صوت شيلا شاندرا ” إنه يعيد تشكيل الرجولة كشكل من أشكال النسيج الأنثوي لصوتٍ ينكسر”.
صوت شيلا شاندرا، يضع عليّ نفسه خارج نطاق الموسيقى واللغة، قريبًا من صوت الأنثى المحطم:
لا أعرف عن الموسيقى الكثير
أعرف ما يكفي لأوضح نفسي
بأي شيء، بالهندية اللاتينية
وأصوات شيلا المفتوحة تخبر القمر والليل والبحر” آوه“.
هنا، مرة اخرى، هذا الصوت “آوه” يتردد، آوه تلك، إخلاصٌ مقطّر. وبهذه الصلاة، يستكشف علي العلاقة بين “الفرنسية لفظًا وموتًا”. إذا كانت شيلا تغني بدون كلمات كما يكتب عليّ سأبدأ في تجربة تراتيل عليّ مثل المقاطع الغنية بحروف العلّة- كحركة نحو شيء ما قبل اللغة، شيء اقرب إلي الولادة والموت. تدريجيًا تروي القصيدة بعضًا من تجارب عليّ الحيّة من القذارة والجنس وركوب القوارب المتعرجة نحو مرسيليا.
في كتابٍ يحتوي على إشارات دينية متكررة، هل تعرف ما هو جسدك؟ هل تعرف ما هو الإله؟” شيلا شاندرا تقود عليّ للاقتراب من الإله. مع الحروف المتحركة كقوة تحديد الموقع بالصدى، إمساك عليّ ليس ” في متناول اليد” ولكن في “الصوت”. “البحر آوه” يتردد. “البحر آه” يفتح المجال لسردية شخصية:
صوت شيلا دائمًا في الخلفية
دائمًا تختفي داخل الموسيقى.
تحيطها بالطريقة التي يخسر بها المرء نفسه
في الجنس أو الموت أو لحظة تغوط..
ينتهي المقطع بتساؤل عليّ “هل ستأتي عائلتي جنازتي؟” البحر يصبح منخلًا للذاكرة الشخصية. صوت شيلا شاندرا يَنقل عليّ إلى هذه الذكريات، أتخيل صوت شيلا بين الأمواج، أتخيل صوت شيلا في حنجرة كاظم عليّ “ساعة وأكثر تُسحب المجاديف، الزورق يدق صعودًا وهبوطًا، و أنا أغني آياتً لإنقاذنا”. في حين اننا لا نستطيع ادراك اغنية عليّ، عدا المقطعين المتبقيين يتجاوزان السرد إلى السجل الديني الذي يسبق اللغة. “البحر اوه” يعيدنا إلى “اوه كيف حال شاندرا؟ إنها الصوت الذي يتضخم.” ضد دائرة الفعل ورد الفعل يصل عليّ بحركة مسيحية الولادة والموت. “اوه” تغذّي شكل كلمات الشعر وحركة سرد الشاعر نحو “الحقيقيّ”.
محفزًا من قبل “تاجاك سوترا” وهي “المرء عليه أن يعرف”، آخر قصيدة فضفاضة لصوت شيلا شاندرا هي أيضًا الأكثر شخصية. نقابل الشاعر مرة أخرى مع القصة التي تركها وراءه في “صوت شيلا شاندرا” ويتأمل في الخسارة: ” اربعون يوما مروا وما أنا عليه الآن، حساب الخسائر القديمة يعتمد على آرشيف الجسد” “أرشيف مكتظ بالسكان. ومع ذلك، في فضاءٍ شعريّ مليء بشخصيات مثل “الحبيب المفقود منذ فترة طويلة”، “والعائلة التي خلفتها ورائي”، بدلًا من ذلك عليّ ينظر إلى البحر.
كتب: احمليني إلى الشاطئ الفرنسي حيث صديقتي آليانا
خذيني في زورق إلى البحر
إلى الرجل الذي ظننت أنني سأكونه عندما آتي هنا
من أجل التغيير من أجل الدمار،
الذي يشق طريقه إلى منزلي،
إلى الرجل الذي لا يعرف أيهما صحيح وأيهما كذبة
يريد أن ينظر خلفه إلى ما هو ميت.
ماذا يعني أن ننظر خلفنا؟ عند هذه النقطة، تنكسر القصيدة. تقسم النجمة المسافة وتؤدي إلى صورا رمزية كتعريف للكلمات. هذه التعريفات نوعًا مختلفًا من الاهتمام – كما لو كان القارئ مكلفًا بتعلّم لغة جديدة، والاستماع إلى شيء ما قبل اللغة وفهم الصوت. مع إنتقال “الفسفور” من السرد إلى الرموز ورجوعًا مرة آخري، ينبثق القوام النهائي (أورفيوس)، رمز التيارات العاطفية في شعر عليّ، اللفظ والموت. تتلاقى الأغاني والخسارة، أورفيوس مشدوه في الآسي بعد وفاة يوريديكا، توسل عبر الأغنية لإنقاذ حبه. أغنيته أجبرت حتى هاديس- أورفيس على المشي مع يوريديكا للخروج من العالم السفلي، مع يوريديكا في الخلف، طالما أورفيس لم ينظر الي الوراء. بعد ما يقرب من صفحتين من الحركة الشبيهة بالنقش، عليّ يعود لكسر المقطوعة الشعرية:
ليجعل الموتى يتجمدون، ويتنهّدون..
أتخيله مُلقى على وجهه في التراب
ذراعاه ممددتان للأعلى،
يُغني الآيات في الأرض.
بعد هذه الأسطر، يتخيلون ان الآية تٌغنى حرفيًا، أدرج عليّ كلمات أغاني أورفيس المتخيلة في النص. الكلمات التي تم تحديدها بالعلامات النجمية والخط المائل، تأتي في ذروة استماع عليّ إلى كوري منافي وإلى شيلا شاندرا. هنا، الشاعر يقدم نفسه كـ أورفيوس، يستهلكه الموت والشك. بدون أي أغنية لسماعها- بدون معرفة ما أقنع أورفيس هاديس به، جنى عليّ الحرية لتقديم نفسه كمغني. أغنيته المتخيّلة، التي غناها بجسده المغمور في القذارة، سمحت له بامتلاك أورفيوس. علامة فارقة بين الجمهور والمؤدي يصل إلى نقطة هشّة:
سواء الموت أو الشك
كرّس نفسك
أسفل
رائحة
الأرض
ولا تخف
مما يمكن أن يحملك.
هل (عليّ) يتحدث إلى نفسه من خلال (أورفيوس)؟ بدون إجابة تنتهي الأغنية- “لن يعرف، لن يعرف”- أجد الحاجة في سماعي للإلحاح المتزايد للصفحة. مثل الآية، هذه القصيدة الغنائية تُحلّق. متضمنة كل وجهة نظر ممكنة، هذه القصيدة الغنائية تدور حولي. من سيُستدعى؟ من سيتكلم؟ في نهاية الأغنية، حذّر الشاعر من أنه لم يرتكب اسوأ أخطائه، “فسفوريّ” تنكسر إلى شعر. “أنا لا أعرف ما أنا، أنظر هنا وأنظر للوراء”، يكتب. يجسد أورفيوس بالكامل.
فلماذا هذه النقوش؟ وبينما ينهمرون من وراء “النظر إلى الوراء” يُضربون كأشباح، أجزاء من أغنية أورفيوس الأصلية. وبينما تنهمر النقوش هذه ” أسمع صرخات جهنمية من النظر إلى الوراء وأصوات الخسارة. عاد الشاعر إلى سؤاله: ” ما يجب أن أعرفه يجب أنَّ، كانت المقاطع الفعلية التي غناها أورفيس”. ” مع تكرار التأتأة تنقطع اللغة عند الحاجة.”
بعد صفحات من النقوش، من الواضح أن الشاعر لا يزال حائرًا وغير مدرك اللغة، مجرد إيماءة، هي الشكل القابل للخطأ للصوت المُترجم. تبقى أغنية أورفيوس، مثل صوت شيلا شاندرا المحمَّل بحرف علّة، مثل صوت شيلا شاندرا، أقرب إلى الولادة والموت. يضع كاظم عليّ صوت شيلا شاندرا بالقرب من الصوت والآخرين، أقرب ما يُمكن من اللغة، في حين ما يميّز الألم التبجيليّ المتواصل “المبادىء”، “انماطها قبل وبعد اللغة، العدم الذي يربط بطريقة ما بنا جميعًا.