نشرت مجلة “علم وحياة” الفرنسية تحقيقاً حمل عنوان “لماذا لن يختفي الله أبداً؟” وضع على أثر النتائج التي توصل إليها فريق من الباحثين في علم “دراسة عمل الخلايا والأنسجة العصبية” الذين أكدوا بعد تجارب وأبحاث ودراسات امتدت على فترة خمسة أعوام متواصلة أن “الانسان مبرمج على الإيمان” أو بكلام آخر أن الإنسان يحتوي بطبيعة تكوينه البشري على جزئية أو ذرة في الدماغ تلعب دوراً أساسياً في قدرة الفرد على الايمان.
وليس هذا الامر هو الاكتشاف الوحيد، إذ ثمة تأكيدات علمية الآن تثبت أن الايمان قادر على محاربة القلق واليأس والحزن لدى الانسان وبالتالي يخلص العلماء إلى نتيجة أن المؤمن يعيش حياة أطول من حياة غير المؤمن، وان الشعور الديني أمر ملازم للطبيعة البشرية ما يؤكد إلى ان الأديان لن تزول عن الأرض ومن الكون ما دام الانسان في الوجود. وبهذا يمكن ان نشير اليوم إلى “جزئية الايمان” المثبتة علمياً والموجودة إلى جانب جزئيات اخرى تؤلف الدماغ البشري.
وهذه النتيجة المثبتة والأكيدة اليوم تفتح الأبواب أمام دراسات اخرى لم تكن في الحسبان، إذ لطالما كان السؤال المطروح عبر كل العصور: وهل نؤمن بالله؟ وكانت صورة الله هي ركيزة السؤال.
بينما اليوم يتركز اهتمام العلماء على الجزء الأول من السؤال وهو الايمان بشكل خاص، ذاك الشعور النابع من الانسان والذي يفيض عالماً روحانياً قائماً بحد ذاته. فما هو الايمان؟ ما الذي يجعل الانسان يتخلى عن سائر أمور الدنيا ليتعلق بأفكار غامضة وغير ملموسة؟ وعند هذا الحد، توصل العلماء إلى نتيجة ان ايماننا بالله ليس فقط مرتبطاً بعالم آخر هو في السماء انما هو مرتبط ايضاً بدماغنا. لأن الدراسات أبرزت نقاطاً مهمة مفادها ان التغييرات الكيميائية التي تحصل في أعصاب الدماغ لحظة الايمان القصوى التي نسميها في الأديان لحظة النشوة الروحانية أو الانخطاف لدى القديسين هي لحظة “كيميائية” أساساً تجعل الانسان يأخذ الشرارة لينطلق في تفكيره أو عالمه الروحاني. ومن هنا ايضاً لا يمكن ان تكون التركيبة الكيميائية والعصبية متوازية لدى كل البشر، بل هي ضئيلة لدى أحدهم ومتوسطة أو قوية جداً لدى انسان آخر. لذا نصادف في الحياة “المؤمن” و”غير المؤمن” حسب التعريف الديني. ولذا، صارت اللحظات القصوى للايمان التي وصفها القديسون وبشكل خاص القديسة تريزيا افيلا أو ما وصفه العديد من المتصوفين عند الاسلام أو الرهبان المتعبدين لدى البوذيين، هي بالتحديد الأحاسيس التي تنتاب الانسان لدى شعوره بالايمان.
تقول القديسة تريزيا في وصف لحالها لدى احساسها بالايمان القوي وهي دونت ذلك في كتابات لها منتصف القرن السادس عشر: “الشعور يشبه إلى حدّ ما حالة فقدان الوعي حين يبدأ التنفس بالتناقص شيئاً فشيئاً كذلك حين تتلاشى كل قوى الجسد.
عبثاً أحاول التكلم من دون فائدة، فأجد نفسي غير قادرة على التفوه بأي كلمة وإذا استطعت تحريك فمي للكلام فلا يمكن لي ان اتلفظ الكلمة. لأن كل قوتي الخارجية توقفت واخذت مكانها قوتي الداخلية. وكأنه حال شيئين مقسومين وفجأة اتحدا وتلاحما”.
هذا الكلام قال شيئاً مشابهاً له كل من كبار الصوفيين في الاسلام وأشهر الكهنة لدى البوذيين في وصفهم للاتحاد مع الله في لحظات الايمان القصوى.
كل هذا الشرح الجديد للايمان الذي قام به فريق من العلماء لا يتنافى مع الايمان بحد ذاته ويحدد العالم اندرو نيوبورغ مدير قسم الطب النووي في جامعة بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية الفكرة بالكلام التالي: “من دون شك ان تعريف الله المتّفق عليه في جميع الأديان من منطلق تحديده في إطار صفات عديدة تحاول التقرب من صورته النهائية ليست تعريفنا بل وفي بحثنا الجديد نحدد صورة الله في إطار وحدته المتكاملة والمترفعة والمبهمة والتي هي بالتأكيد في جوهر الكون”.
لا زالت هذه الأبحاث في نتائجها الأولية ومن المتوقع ان تشهد تطورات في الأيام المقبلة ولكن حتى الآن يشرح العلماء الأمر بالتالي: ثمة مادة تدعى سيروتونين موجودة في الدماغ وهي مسؤولة عن نقل أو ايصال كل معلومة من خلية عصبية إلى اخرى، وهي مسؤولة عن نقل مشاعر الجوع والعطش والنعاس.
ولدى دراسة بعض العلماء لحالة تفاعل السيروتونين في الدماغ في حال تعاطي المخدرات للتوصل إلى نتيجة أفضل تساعد المدمنين على التوقف عن تناولها تبيّن لهم ان السيروتونين تزداد بقوة وقادرة على إعطاء احساس كما الحاصل في حال التخدير وتترك نتائج على الجسد أو تسجل نتائج شبيهة بتلك التي يشعر بها الانسان حين يتناول المخدر من هلوسات وضياع وحالات اتحاد مع الأشياء المحيطة به، أي ان المخدر الدخيل إلى الجسم البشري يترك آثاراً في الدماغ شبيهة بتلك التي تحدث حين نحفز مادة السيروتونين وحين تتكاثر مادة السيروتونين تصير حال الانسان شبيهة بحال الانخطاف أو الاتحاد الروحي مع الله. في هذه المرحلة، بدأت مرحلة الاحصائيات عبر مراقبة حال مئات الأفراد الذين بدأ التركيز على تخطيط هذه المادة في دماغهم في الأيام العادية وفي لحظات الصلاة والايمان وصارت تتكشف حقيقة ان رغبة الايمان تنطلق من مادة السيروتونين الموجودة في الدماغ وكلما زاد الاتحاد الروحي في الصلاة كبر حجم المادة أو العكس. وتبين ايضاً ان الانسان غير المؤمن بشكل واضح هو انسان يفتقد إلى مادة السيروتونين والمؤمن بشكل كبير أو الذي يصل إلى لحظات الاتحاد الروحي مع الله لديه نسبة عالية من المادة في دماغه. كل هذا الاكتشاف لا يتعارض مع الدين على الأرض أو مع ايمان الانسان، لانه لا يدرس فكرة الدين أو لا يتعارض مع قبول فكرة الاديان بل على عكس ذلك فهو يشرح موقف الانسان من الأديان أو أكثر من ذلك حاجته الملحة اليها.
308 3 دقائق