ألفريد دي موسيه – ليلة ماي

bal bullier 1895.jpgLarge ألفريد دي موسيه - ليلة ماي
Bal Bullier
William James Glackens

ربّة الشعر

خذ عودك أيّها الشاعر ، و أعطني قبلة

فإنّ زهرة النسرين البريّة ، يضوع من براعمها المتفتّحة الأريج،

سيولد الربيع هذا المساء ،و تتوهّج الرياح؛

و في انتظار الفجر ، بدأ طائر الذعرة

يحطّ على أولى الشجيرات الخضراء.

خذ أيّها الشاعر عودك ، و أعطني قبلة

الشاعر

ما أحلك الظلام في هذا الوادي !

كأنّي كنت أرى طيفا ملتحفا يطفو هناك فوق الغاب.

كان يخرج من المرج،

تلامس رجله الأعشاب المزهرة..

كان حلما غريبا

سرعان ما كان يمّحي ثمّ يختفي.

ربّة الشعر

خذ عودك أيّها الشاعر، ففي الليل على العشب،

يتموّج النسيم العليل تحت لحافه العطر.

الزهرة التي ما تزال على عذريّتها،تنغلق من الغيرة

على الدبّور كالصدفة ، فتسكره حتّى الموت

أصغ إليّ ! الكلّ صامت ؛ فكر في حبيبتك الغالية

في العتمة  هذا المساء، تحت أشجار الزيزفون المتشابكة،

تتسرب آخر أشعّة الغروب تاركة وداعا أكثر نعومة.

سيزهر كلّ شيء هذا المساء: الطبيعة السرمديّة

تمتلئ عطرا و حبّا و همسات، كفراش سعيد لزوجين عريسين

الشاعر

لماذا ينبض قلبي بهذه السرعة؟

ما الذي يضطرب بداخلي

فيثير فيّ الإحساس بالرعب؟

لماذا لا يطرق أحد بابي؟

لماذا يكاد مصباحي ينطفئ؟

أترى ضوءه يبهرني؟

يا إلهي القويّ !كلّ جسدي يرتعش

من القادم ؟ من يناديني ؟ لا أحد .

آه من الوحدة !.. آه من الفقر !

ربّة الشعر

خذ أيّها الشاعر عودك؛ إنّ نبيذ الشباب

يختمر هذه الليلة في شرايين الله.

قلق هو الآن ثديي ، تقمعه الشهوة،

فالرياح العاتية وضعت شفتيّ في النار.

يا أيّها الطفل الخامل! انظر كم أنا جميلة .

ألا تذكر قُبلتنا الأولى، عندما لمحتك شاحبا تلامس جناحي،

ثمّ لم تلبث أن وقعت في حضني دامع العينين؟

آه .. لقد واسيتك و خفّفت من معاناتك المرّة!

كم يؤسفني أن تموت من الحبّ و أنت ما تزال في عزّ الشباب ،

واسني هذا المساء فأنا أموت من الأمل؛

إنّي لأحتاج إلى الصلاة،كيّ أحيا إلى طلوع النهار.

الشاعر

أتكونين صاحبة الصوت الذي يناديني،

يا ربّة الشعر المسكينة أنت ! أأنت هي؟

يا زهرتي أنت ! يا خالدتي !

وحدي أنا العفيف و الوفيّ

حيث ما يزال الحبّ يقتات منّي !

نعم .. ها أنت ذي يا شقرائي،

ها أنت ذي يا سيّدتي و أختي !

و ها أنا في عمق الليل ،

من فستانك الذهبي الذي يغمرني

أشعر بالأشعّة تتسرّب إلى قلبي

ربّة الشعر

خذ عودك أيّها الشاعر، هذي أنا حبيبتك التي لا تموت

حبيبتك التي رأتك حزينا صامتا هذه الليلة،

و كطائر تناديه حاضنته،

نزلت إليك من أعالي السماء لأشاركك البكاء.

تعال أيّها الصديق فأنت تعاني، ينخرك شيء من هموم الوحدة ،

شيء ما قد أنّ في قلبك.

شيء من الحبّ قد أتى، كذلك الذي نراه على الأرض.

ظِلٌّ من المتعة .. مَسْحَةٌ من السعادةِ

هيّا .. دعنا نغنّ في حضرة الله، دعنا نغنّ في أفكارك،

في ملذّاتك المفقودة ، في أحزانك الماضية

دعنا نمض في قُبْلَةٍ إلى عالم مجهولٍ

دعنا نوقظ عشوائيّا أصداء حياتك،

دعنا نتحدّث عن السعادة.. عن المجد .. عن الجنون

و ليكن حلما ، و ليكن أوّل القادمين.

دعنا نكتشف في ناحية ما، بعض الأماكن ننعم فيها بالنسيان،

دعنا نمض، فنحن وحدنا،و الكون لنا .

هي ذي “سكتلاندا” الخضراء، و إيطاليا السمراء،

و اليونان ، أمي ، حيث العسل غاية في اللذّة

“أرغوس”[1] و ” بتيليون”[2] مدينة المقابر الجماعيّة

و كنيسة “ميسّا” الإلهيّة،التي تروق للحمام

و منطقة ” بيليون” المتغيرة ذات الشعر على الجبين

و مدينة ” تيتاريس” الزرقاء العتيقة، و الخليج الفضيّ،

الذي يظهر في مياهه خط عبور البجع

قالت ” الألو سون” الأبيض لـ”الكامير[3] ” البيضاء:

أيّ حلم ذهبيّ ستهدهده أغانينا؟

من أين ستأتي العبرات التي سنذرفها؟

هذا الصباح، عندما سطع ضوء النهار قي أجفاني

أيّ ملاك غارق في التفكير منكبّ على رأس سريرك ،

كان يحرّك زهور الليلك في فستانك الخفيف،

و بصوت خافت ،يروي لك قصص الحبّ التي بها كان يحلم ؟

هلاّ غنّينا للأمل .. للحزن أو للفرح؟

هلاّ غمسنا في الدم، حرابا من فولاذ؟

هلاّ علّقنا العاشق على سلّم من حرير؟

هلّا رمينا زبد الجواد في وجه الريح؟

هلاّ ذكرنا أيّ يد من الأيادي توقد ليل نهار

مصابيح المنزل السماويّ التي لا حصر لها

بزيت الحياة المقدّس، و الحبّ السرمديّ؟

هلاّ صرخنا في وجه ” تاركينوس”[4]:

»لقد آن الأوان لتنظر إلى الظلّ  « !

هلاّ نزلنا لنقطف الجواهر من أعماق البحار

هلاّ أخذنا المعزاة إلى شجرة الأبنوس المرّة

هلاّ أشرنا إلى سماء الكآبة؟

هلاّ اتّبعنا الصيّاد فوق المرتفعات شديدة الانحدار؟

تنظر الغزالة .. تبكي ، ثمّ تتوسّل

تجد في انتظارها الخلنج ، نباتَها المفضّلَ ،

و صغارَ الظباءِ الرضيعةِ؛

يميل على أحدها فيذبحه ،

ينتزع قلبه و هو بعد لم يفارق الحياة

و يرمي به إلى الخوريّ  و إلى الكلاب العرقانة.

هلاّ رسمنا العذراء بخدّها الأرجوانيّ

و هي ذاهبة إلى القدّاس، يتبعها غلام ،

و بنظرة ساهمة إلى والدتها القريبة منها

بشفتيها نصف المفتوحتين نَسِيَتْ صلاتَها؟

إنّها تصغي مرتعشة في صدى العمود،

إلى صوت مهماز فارس مقدام يرنّ في أذنيها.

هلاّ طلبنا من أبطال العصور القديمة في فرنسا

أن يصعدوا مدجّجين بالسلاح إلى فجوات أبراجهم،

و أن يُحْيُوا تلك الرومانسيّة الساذجة

التي علّمها مجدهم المنسيّ لمنشدي التروبادور ؟

هلاّ كسونا بالأبيض رثاء مائعا؟

فهل سيقص علينا رجل “واترلو[5]” قصّة حياته،

و ما نهبه من قطيع الآدميّين

قبل أن يعاجله رسول الليل السرمديّ

بضربة جناح و هو على تلّته الخضراء فهزمه.،

ثمّ عقف يديه الاثنتين صليبا على قلبه الحديديّ؟

هلاّ سمّرنا على عمود ،معلّقة فخر و هجاء ،

اسم صاحبها ذي الوجه الشاحب، الذي بيع سبع مرّات،

الذي جاء من أعماق نسيانه يدفعه الجوع ، مرتعدا حسدا وعجزا،

على جبهة العبقريّة ، يلعن الأمل ،و يعضّ على إكليل الغار الذي دنّسته أنفاسه؟

خذ عودك !.. خذ عودك إذا ! فأنا لم أعد قادرا على الصمت؛

فجناحي يرفعني مع أنفاس الربيع.. سيأخذني النسيم ، سأغادر الأرض.

دمعة منك ! و يسمعني الله ؛ فقد حان الوقت.

الشاعر

يا أختي العزيزة إذا لم تكوني في حاجة

إلاّ إلى قبلة من شفة ودودة ،

و دمعة من عينيّ، فسأمنحك ذلك بلا عناء،

من حبّنا الذي سيظلّ يذكرك إذا صعدت إلى السماوات.

أنا لا أغنّي، لا للأمل و لا للمجد و لا للسعادة،

و لا حتّى المعاناة .. للأسف !

يلازم الفم الصمت ،

ليسمع كلام القلب .

ربّة الشعر

أتعتقد إذًا، أنّي مثل رياح الخريف،

تتغذى على الدموع إلى حدّ القبر،

و لا يمثّل الألم عندها سوى قطرة ماء؟

يا أيّها الشاعر ! القبلة أنا من أمنحك إيّاها،

و العشب الذي كنت أريد اقتلاعه من هذا المكان،

ليس سوى كسلك ، فألمك على الله.

مهما كان شبابك قادرا على تحمّل الهموم ،

فدع هذا الجرح المقدس يتّسع

هذا الجرح الذي فتحته الملائكة السوداء في أعماق قلبك:

لا شيء يجعلنا عظاما، كالألم الكبير.

لكن لكي تصاب به فلا تظنّن أيّها الشاعر،

أنّ صوت الدنيا ينبغي أن يبقى أخرس.

أكثر الأغاني يأسا أكثرها جمالا،

فأنا أعرف من الخالدين ، من ليسوا سوى تنهّدات حقيقيّة .

في ضباب المساء عندما يعود البجع إلى قصبه منهكا بعد رحلة طويلة،

تجري أفراخه الجياع على الساحل، و هي تراه يهوي من بعيد على الماء.

و هي تعتقد مسبقا أنّها حصلت على الفريسة و اقتسمتها في ما بينها،

فتجري نحو والدها، مرسلة صيحات الغبطة

ضاربةً بمناقيرها على غددها القبيحة.

أمّا هو الذي بخطى وئيدة أدرك صخرة مرتفعة،

مُخْفِيًا صدره بين جناحيّه المتهدلين،

فينظر إلى السماء، صيّادا مأزوما.

و الدم يتدفق غزيرا من صدره الجريح؛

لقد فتّش في أعماق البحار دون جدوى؛

كان المحيط خاليا و الشاطئ مهجورا؛

كان مستعدّا أن يقدّم قلبه مقابل أيّ غذاء.

متجهّما كان ..صامتا ملقى على الصخرة، يوزّع على أبنائه أحشاء الأب،

بحبّ مهيب، يهدهد آلامه ،و هو يرى الدم ينزف من صدره، على مأدبة موته،

ثمّ تهالك و ترنّح سكران منتشيا من الحنان و الرعب معا.

لكن أحيانا .. في خضمّ التضحية الإلهيّة،و قد أتعبته فكرة أن يموت بعد عذاب طويل،

كان يخشى أن يتركه أولاده حيّا، لذلك تحامل على نفسه و حرّك جناحه أمام الريح

ثمّ ضرب على قلبه و أطلق صيحة متوحّشة ،

أرسلها في جوف الليل صيحة وداع جنائزيّة ،

حتّى أنّ طيور البحر هجرت الساحل،

و المسافرين العالقين على الشاطئ،

و قد أحسّوا بمرور الموت،أسلموا أمرهم إلى الله.

أيّها الشاعر ،هكذا يفعل الشعراء الكبار.

يتركون أولئك الذين ينعمون بالبهجة، لفترة قصيرة،

لكنّ المآدب البشريّة التي يقدّمونها في أفراحهم،

تشبه في أغلبها مثيلتها لدى البجع.

فهم حين يتكلّمون هكذا عن الآمال المغشوشة،

عن الحزن .. عن النسيان .. عن الحبّ و عن الشقاء،

فليس ذلك من قبيل الاحتفال بتوسيع القلب.

إنّ مبالغاتهم، هي بمثابة السيوف:

ترسم في الهواء دائرة مبهرة،

لكنّ ذلك يتطلّب بعض قطرات من الدم.

الشاعر

يا ربّة الشعر! يا شبحا نهما لا يشبع

لا تطيلي عليّ في الطلب.

لا يمكن للإنسان أن يكتب شيئا على الرمل ،حين تمرّ ريح الشمال.

لقد رأيت الزمن حيث كان شبابي كطائر،

مستعدّا للغناء على شفتيّ بدون انقطاع،

لكنّني عانيت معاناة الشهيد القاسية،

و أقلّ ما كان يمكنني قوله،

أنّني لو حاولت ذلك بالقيثارة،

لانكسرت بين يديّ كما ينكسر القصب.

 

ترجمة: محمد الصالح الغريسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى