رسائل فينسنت فان غوخ (2)

peasant sitting by the fireplace worn out 1881 1.jpgLarge رسائل فينسنت فان غوخ (2)
Peasant Sitting by the Fireplace (Worn Out)
Vincent van Gogh

أمستردام ٢٧ تموز ١٨٧٧

تيّو العزيز
شكراً على رسالتك الأخيرة. سمعتُ من الأهل بأنك قد زرتَ مَوف في مرسمه. أظنهُ كان يوماً مميزاً بالنسبة لك، أرجو أن أسمع منك عن تفاصيل هذا اللقاء في أقرب فرصة. ستجد مع هذه الرسالة ثلاثة أعمال ليثوغرافية صغيرة، مساهمة مني _وأرجو أن تكون جيدة_ لمجموعتك من الأعمال الطباعية.
العمل الأول للفنان بوسبوم* والأثنان الآخران للفنان فيسمبروخ*، وجدتها مطبوعة ضمن كتاب اشتريته هذا الصباح. أظن أن بوسبوم قد رسم هنا الكنيسة التي في منطقة سخيفيننغن، هل ترى هذا أيضاً؟ العمل الآخر هو للكنيسة الكبيرة في بريدا، أما الثالث، فقد أعاد فيسمبروخ فيه رسم لوحته التي عُرِضَتْ في معرض باريس. وبالنسبة لأعمال فيسمبروخ، فهي تثير إهتمامي دائماً بسبب رهافتها، إنها تَمِسُّ مشاعري كلما أتطلع إليها. لا أعرف إن كنتَ تراها أيضاً بالطريقة ذاتها. في كل الأحوال، إمض في طريقك لإحتضان كل عمل غرافيكي يتاح لك، سواء كان مطبوعاً بشكل منفصل أو تجده ضمن كتاب.
بالنسبة لي فقد أعطيت إهتمامي في الفترة الأخيرة للمواضيع اللاتينية والإغريقية، كذلك أُرَكِّزُ كثيراً على المواضيع الأخرى التي تتعلق بالتاريخ. وهذه الأيام بالتحديد إنشغلت بتفاصيل حول الإصلاح الديني، وهذا سيأخذ مني بعض الوقت. وقد تعرفت الآن على شابٍ نجح قبل بضعة أيام في امتحان القبول بجامعة لايدن، وهذا ليس سهلاً كما تعرف، وقد تحدث معي بنفسه عن نوع الاسئلة والامتحان الذي تجاوزه بتفوق. أنا متأكد بأني سأوفق أيضاً بهذا الامتحان، وأرجو أن يستجيب الله لدعائي. وقد تحدثتُ مع الأستاذ مندس، وكان متفائلاً بهذا الخصوص، وأكَّدَ أن بإمكاني الظفر بذلك بعد ثلاثة أشهر من متابعة دروسه. لا أعرف إن كنت سأستجيب لذلك أم لا، لأني أرى أن دروسه الاغريقية التي يعطيها أقرب للعامة وتغلب عليها شعبية حارات امستردام وبالذات لكنة أهالي يوردان* وهم يتجولون في ظهيرة صيف قائظ وسط العاصمة. لا تشغل بالك، فهناك الكثير من الأساتذة البارعين والمُجَرَبينَ الذين يمكنهم المساعدة في ذلك. والمسألة في كل الأحوال تحتاج إلى مثابرة، إنها جديّة ولا تشبه التجوال على الساحل أو التنزه بين حقول القمح في براباند. قصدتُ من ذلك هو إننا يجب أن لا نتوقف، نمضي إلى الأمام مادمنا على قيد الحياة ونبقى طموحين كما يقول العم يان.
قبل يومين تعثر طفل أثناء لعبه على جسر كاتنبروخ وسقط في الماء، وقتها شاهد العم يان ذلك، وفي لمح البصر أخذ قارباً من مرفأ تصليح القوارب وانتَشَلَهُ بصعوبة من الماء، قمتُ بعدها مع شابين من طبابة المرفأ بتجفيف الصبي وتدفئته، لكن دون فائدة مع الأسف، فقد مات الصبي ولم نستطع فعل أي شيء حيال ذلك. وقد حضر والده الذي يعمل مُشَغِّلاً لمحركات السفن ولَفَّهُ ببطانية صوفية قديمة ومضى به إلى البيت. بعد ساعة ونصف إنشغل الناس هنا أيضاً بإنتشال طفلة صغيرة زلت قدمها وسقطت في ذات النهر، لكن لحسن الحظ، أنهم استطاعوا إنقاذها في اللحظة المناسبة.
في المساء ذهبتُ إلى عائلة الطفل الذي غرق. كان بيتهم مظلماً، بينما جثمان الطفل يتمدد برفق على سرير صغير في غرفة جانبية، وكم بدا لي ودوداً رغم شحوبه. ما أثار ألمي وقتها، هو أن هذا الصبي الذي كان يضيء البيت ببهجته، قد إنطفأ نوره وبريقه، وغدا أهله في حالة ذهول وتوسل وانكسار. هنا رأيت كيف تُطيحُ خشونة الحياة بالكرامة وتُهينُ عزة النفس. لقد تأثرتُ حقاً بمنظر الأم المُطرِقَة والمفجوعة وسط ظلام البيت. بعدها تجولتُ كثيراً، نحو منتصف الليل، لأخفف من وطأة العتمة التي ملأت نفسي. وللتقليل من هذه المشقة، إستعدتُ صورة العم يان وهو يحاول إنقاذ الطفل، وقد التمعت عيناه وظهرت العزيمة على ملامح وجهه الذي لفحته الشمس. لحظتها رأيت عمي على حقيقته وبانَ لي معدنه الطيب. صورته تلك المليئة بالإيثار، أعادت لي ثقتي بالناس، وإستعدتُ معها رباطة جأشي.
في صباح يوم الأحد قمت بجولة طويلة، بدأتها من كنيسة الشمال إلى جزيرة بيكرس، بعدها عبرتُ السد لأصل إلى آي*، لأكمل طريقي بعدها نحو كنيسة آيلاند، حيث إلتقيت بالعم ستريكر. عدنا سوية بعد ذلك، وقد مضى الوقت سريعاً، وقررنا أن نكرر الجولة في الاسبوع القادم.
اكتب لي وحدثني عنك وعن احوالك يارجل، أغلب الوقت كنتُ مشغولاً بك. أدعو الله أن يساعدنا ويجعلنا في أفضل حال. مدهش إنك صرت أكثر تعلقاً بالفن والفنانين. أنا أيضاً كما تعرف ملتصق ومتمسك بعالم الفن وما يصنعه الفنانون. في النهاية فإن الأشياء الجميلة هي التي تنتصر وتدوم، سواء كانت هنا أو في أي مكان آخر. علينا فقط أن نسعى، والله يساعدنا في النهاية.
الآن اقترب وقت ذهابي إلى العمل، لكني في كل الأحوال، سأملأ هذه الورقة بالكتابة. آنّا ذهبت كما تعرف إلى لايدن، وستأتي هذه الأيام إلى أمستردام بصحبة الشاب الذي أحبته، صهرنا المستقبلي. كم أنا متشوق للقاء هذا الشاب الذي أحبته أختنا. لقد كتب لي أبي بحماسة وشغف حول علاقتها بهذا الشاب، وهو يرى إن كل شيء سيكون رائعاً، وما علينا جميعاً سوى أن نبارك لأختنا ونجعلها سعيدة. فهذا مهم جداً لترابطنا.
في الاسبوع القادم سيأتي العم والعمة بومبه لزيارتي والمبيت عندي، وسيأتي معهم فَنِي وبَتْ. لقد مرَّ وقت طويل لم ألتقيهم فيه. وبالنسبة لتفاصيل حياتي الباقية، مازلت أنهض مبكراً من النوم، لأراقب الشمس وهي تشرق بهدوء رويداً رويداً وتنسكب فوق حوض تصليح السفن، ليعلن النهار خطواته الصفراء الفتية التي تتعثر برؤوس العمال. ياله من مشهد جليل، هذا الذي أراه من خلال النافذة. تمنيت أن تكون بجانبي لترى ذلك معي، إنه شيء مقدس، هنا رأيت الله في نور الشمس ياتيّو.
إن كان تحت يديك طابع بريد، وتوفر عندك بعض الورق، فإكتب لي بسرعة.
لقد شاهدت في متجر العم كور كتاباً فيه تخطيطات حول الكتاب المقدس للفنان بيدا*، ياللجمال، ويالها من لذة حقيقية شعرت بها وأنا أتابع الخطوط التي نَفَّذَ بها هذه الرسومات. كيف لي أن أصف لك ذلك؟ يكفي أن هذه الرسوم جعلتني أفكر سريعاً بريمبرانت.
والآن أشد على يدك وأتمنى لك كل ماهو جميل.
تحيات العم يان لك.
ابق على ثقتك بي.
أخوك المحب فنسنت

هوامش المترجم:
يوهانس بوسبوم: فنان هولندي (١٨١٧-١٨٩١) ينتمي الى مدرسة لاهاي في الرسم. اشتهر بمائياته التي تعكس ضوء المناخ الهولندي، وعُرِفَ ايضاَ بأعماله الليثوغرافية الرائعة.
يان هندريك فيسنبروخ: فنان هولندي (١٨٢٤-١٩٠٣) واحد من أهم أعمدة مدرسة لاهاي. اشتهر بأعمال الليثوغراف ومناظره الطبيعية مذهلة ويشع منها الضوء، ومرصعة بغيوم شفافة وفضاء مفتوح.
يوردان: أشهر حي في امستردام، ويُعرَفُ سكانه بلكنتهم الهولندية الخاصة وتصرفاتهم التي تقترب من تصرفات الشارع ذات الوقاحةالمحببة.
جزيرة بيكرس: جزيرة صغيرة جداً، وهي واحدة من ثلاث جزر تابعة لمدينة امستردام.
آي: نهر صغير شمال امستردام
بيدا: فنان رومانتيكي فرنسي (١٨١٣-١٨٩٥)، تتلمذ على يد الفنان ديلاكروا. يعتبر من الفنانين المستشرقين، ويُعَدُ من أعظم المخططين في تاريخ الرسم.

ترجمة: ستار كاووش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى