مما لا ينجم عنه ظاهريا أي شيء ، انخفاض بارومتري غطى المحيط الأطلسي ثم اتجه شرقا نحو منطقة ذات ضغط عال تخيم فوق روسيا، من دون أن يظهر ميلا في اجتيازها نحو الشمال. كانت خطوط درجات تساوي الحرارة والخطوط الموصلة فيما بينها تعمل على أفضل وجه. وحرارة الجو مقاربة نوعا ما لمتوسط الحرارة السنوية، مثلما لمتوسط أبرد الشهور وأحرها وللتذبذب الشهري غير المنتظم للطقس. شروق الشمس وغروبها، القمر، مراحل القمر والزهرة وحلقات زحل وظاهرات مهمة كثيرة أخرى، كلها تطابقت مع التنبؤات المدونة عنها في كتب الفلك السنوية. وكان بخار الماء قد بلغ أقصى توتره في الهواء، فيما انخفضت الرطوبة الى أدنى حد لها. بكلمة واحدة تشخص ما هو واقع بدقة تامة، حتى إن بدت عتيقة بعض الشيء: كان ذلك يوما جميلا في شهر آب من العام 1913.
كانت السيارات تنطلق من الشوارع الضيقة العميقة نحو منخفضات الساحات المضيئة فيما الجموع المعتمة للعابرين تشكل ما يشبه أحزمة سحاب. وإذ تتقاطع خطوط السرعة الأكثر قوة مع اندفاعهم المتمهل كانوا يلتمون على أنفسهم ثم ينسابون على عجل، مواصلين بعد بضعة انحرافات ايقاعهم المنتظم. مشات الأصوات تتداخل مشكلة ضجيجا بأسلاك شائكة، تبزغ منه أطراف منفردة مرفقة بحافات جارحة لا تلبث أن تتساوى مرة أخرى، فتتناثر وتتطاير منها أصوات واضحة. في وسط هذا الضجيج الذي لا يمكن وصف خصيصته كان يمكن لامرىء عائد بعد أعوام من الغياب أن يعرف مغمض العينين بأنه يجد نفسه في فيينا، عاصمة الرايخ والمدينة الملكية. فالمدن مثل الناس يمكن التعرف عليها من مشيتها. كان في إمكانه أن يعرف، بعينين مفتوحتين، المكان من ايقاع الحركة في الشوارع حتى قبل أن يمسك بأي تفصيل مميز مفرد عنه. وما كان ليهمه حتى لو توهم انه قادر على فعل ذلك. فالمبالغة في ايلاء الإهتمام بأمر المكان الذي يجد المرء نفسه فيه ينحدر من زمن القبائل الرحل، حيث كان يتوجب على المرء التعرف على أماكن الطعام. انه لمن. المهم معرفة، لماذا يكتفي الإنسان بالحديث بطريقة غير وافية عن الأنف الأحمر، فيقول عنه انه أنف أحمر ولا يسأل بعد ذلك أبدا، أية حمرة خاصة يملكها، رغم انه من الممكن التعبير بدقة ميكروملمترية عن درجة الحمرة عن طريق أطوال الموجات، في حين انه بالعكس من ذلك عندما يتعلق الأمر بما هو أكثر تعقيدا بكثير، كالمدينة التي يجد المرء نفسه فيها، تمتلكه الرغبة في أن يعرف بدقة كاملة كل ما يميزها. ذلك هو ما يحرف انتباهنا عن الأهم.
لذلك لا ينبغي لنا أن نولي اعتبارا خاصا لإسم المدينة. فهي مثل كل المدن الكبرى مؤلفة من اللاانتظام والتغير والتقدم والتواني، من تصادم الأشياء والأحوال، من نقاط الصمت التي لا قعر لها، الواقعة فيما بينها، تلك المصنوعة من طرق سالكة وأخرى غير سالكة، من ضربة ايقاعية كبرى واضطراب وانحراف أبديين لكل الإيقاعات ضد بعضها الأخر، وهي تشبه بذلك فقاعة مغلية، تستقر في اناء مصنوع من مادة دائمة قوامها المباني والقوانين والتعاليم والتقاليد التاريخية. كلا الشخصين اللذين كانا يقطعان شارعا عريضا ضاجا بالحركة ما كانا ليملكا بالطبع مثل هذا الإنطباع. فقد كانا ينتسبان بصورة واضحة الى فئة اجتماعية مختارة، وكان ذلك باديا في ملبسهما وسلوكهما وفي الطريقة التي يتحدثان بها الى بعضهما، حاملين الحروف الأولى لاسميهما، مطرزة على ملابسهما الداخلية، ورغم ان ذلك كان خفيا، أي انه لم يكن موجها الى الخارج فانه كان موجودا في الملابس الداخلية لوعيهما، فقد كانا يعرفان من يكونان وبأنهما يجدان نفسيهما في مدينة هي عاصمة ومقر دولة. لنفترض انهما كانا يدعيان أرنهايم وايرملينده توزي، وهو أمر غير صحيح، إذ أن السيدة توزي كانت لا تزال في ذلك الشهر آب تصاحب زوجها في باد اوسي والدكتور أرنها يم لا يزال في القسطنطينية، وهذا ما يجعلنا أمام لغز: ترى من يكونان؟ ان الناس الحيويين غالبا ما يصادفون مثل هذه الألغاز في الشوارع. بيد انهم يحلونها بطريقة جلية، حيث انهم ينسونها، ما لم يتذكر المرء في الخطوات الخمسين التالية أين يكون قد رآهما. يتوقف الزوجان الآن فجأة عن السير حينما ينتبهان الى جمع يحتشد أمامهما بسرعة. قبل ذلك بلحظة فقط كان ثمة شيء ما قد ظفر من الصف، بحركة اصطدام:شيء ما استدار ثم انزلق جانبا، كان ذلك شاحنة ثقيلة توقفت بطريقة حادة، كما بدا الآن للعيان، جعلتها ترتكز على عجلة واحدة عند حافة الإفريز. وفي غمضة عين تقاطر الناس، ملتفين حول بقعة صغيرة، ترعوها خالية في الوسط، كما يفعل النحل الذي يجتمع حول مدخل الخلية. منحدرا من العربة وقف السائق داخلها، وقد اكتسى وجهه لونا رماديا بلون ورق التغليف وراح يوضح الحادث بحركات فظة. وتوجهت أنظار القادمين الجدد اليه قبل أن تنخفض بحذر نحو عمق الحفرة، حيث رجل ممدد كالميت عند حافة الرصيف. وكان ثمة إجماع بأن ما أصابه حدث بسبب غفلته هو نفسه. وراح الناس يقرفصون قربه متعاقبين ليفعلوا شيئا ما من أجله، فتحوا سترته ثم زرروها ثانية، حاولوا أن يرفعوه ثم مددوه ثانية. كانوا في الحقيقة يريدون قضاء الوقت فحسب حتى يصل مع الإسعاف من يعرف ماذا يفعل به ومن يملك الحق في فعل ذلك. واقتربت السيدة ومرافقها أيضا، حيث راحا يتطلعان من فوق الرؤوس والظهور المنحنية الى الرجل الممدد هناك. ثم تراجعا الى الخلف مترددين. شعرت السيدة بشيء غير مريح في الحفرة الواقعة بين القلب والمعدة، جعلها تشعر بالشفقة، رغم انه كان شعورا مترددا ومشلا. قال السيد بعد برهة، مخاطبا اياها: “هذه العربات الثقيلة تحتاج الى مسافة فرامل طويلة حتى تتوقف تماما.” شعرت السيدة بارتياح لذلك فشكرته بنظرة ثناء. كانت قد سمعت حقا بهذه الكلمة مرات عدة، من دون أن تعرف ماذا تعني مسافة الفرامل، وما كان ليهمها أن تعرف؛ فقد كان يكفيها أن يضع توضيحه هذا الحادث الفظيع ضمن إطار ما، مشكلة تقنية لا تعنيها مباشرة. والآن صار في الإمكان سماع صفارات سيارة الإسعاف، مما جعل وصولها السريع يملأ قلوب المنتظرين كلهم بالرضا. لكم تثير الإعجاب هذه المنشآت الإجتماعية ! حمل المصاب على نقالة انسابت داخل العربة. رجال يرتدون نوعا من الزي يحيطون به، فيما بدا داخل العربة او ما كان في امكان المرء رؤيته منها نظيفا ومنتظما مثل جناح مستشفى. لقد جعل ذلك الناس يخرجون بانطباع مبرر تقريبا بأن ثمة واقعة قانونية ونظامية جرت أمامهم. “طبقا للاحصاءات الأمريكية” علق الرجل قائلا، “يبلغ عدد قتلى السيارات كل عام 190000 والجرحى 450000”.
“هل تعني انه ميت؟” سألته مرافقته من دون أن يزايلها الشعور بأنها عاشت شيئا خاصا.
“آمل أن يعيش” رد عليها السيد. “حينما رفعوه الى العربة بدا الأمر هكذا تماما.
بيت الرجل الذي لا خصال له وشقته :
الشارع الذي وقع فيه هذا الحادث الصغير كان واحدا من تلك الأنهار المرورية الملتوية الطويلة المتدفقة خارجا على شكل أشعة من قلب المدينة، مخترقة الأحياء المحيطة بها قبل أن تصب في الضواحي. فلو حدث أن واصل هذان الشخصان المتأنقان سيرهما لبرهة أبعد قليلا لرأيا منظرا كان سيسرهما بالتأكيد. حديقة من القرن الثامن عشر او حتى من القرن السابع عشر ما زالت تحتفظ جزئيا بطابعها، فإذا ما مر المرء بالقضبان الحديدية لسياجها للمح بين الأشجار على العشب المعتنى به شيئا يشبه قصرا صغيرا بأجنحة قصيرة، مأوى صغيرا للصيد او عشا للحب من الأزمنة الغابرة. وبقول أدق، كانت أقواسه الحاملة من القرن السابع عشر فيما اكتسى المتنزه والطابق العلوي بمظهر القرن الثامن عشر، أما الواجهة فكانت قد جددت في القرن التاسع عشر وبدت خربة بعض الشيء، وهكذا اتخذ الكل دلالة ضعضعة نوعا ما مثل صور فوتوغرافية التقطت فوق بعضها، ومع ذلك ما كان للمرء إلا ان يقف ويقول: “آه!” وإذا ما فتح هذا البيت الأبيض اللطيف الجميل نوافذه لأبصر المرء في الهدوء العذب جدران كتب شقة العلامة.
هذه الشقة وهذا البيت كانا يعودان الى الرجل الذي لا خصال له.
كان يقف وراء إحدى النوافذ، متطلعا عبر الغلالة الخضراء الرقيقة لهواء الحديقة الى الشارع، ويعد مستعينا بالساعة منذ عشر دقائق، السيارات، الشاحنات، قطارات الشارع والسابلة الذين اصبحت وجوههم بسبب البعد، مقتنصا مرورها الخاطف في شبكة نظرته، مخمنا السرعات، الزوايا والقوى الحية للكتل المتحركة، وهي تجتذب العين بسرعة البرق نحوها، تمسك بها، تحررها، مرغمة الإنتباه للحظة قصيرة على المقاومة والإفلات، القفز نحو كتلة أخرى لتتعقبها، ثم بعد أن يكون قد أنهى العد في رأسه لفترة من الزمن، يعيد الساعة ضاحكا الى جيبه ويتأكد من أن ما قام به كان عبثا. فلو كان في إمكان المرء أن يقيس قفزات الإنتباه، إنجازات عضلات العين، حركات تجوال الروح وكل الجهود التي ينبغي على المرء أن يبذلها، حتى يظل متمالكا نفسه في نهر الشارع – هكذا فكر، محاولا وهو يلعب أن يحتسب اللاممكن -، فقد ينجم عن ذلك شيء عظيم، تكون الطاقة التي يحتاجها الأطلس ليرفع العالم، ضئيلة إذا ما قورنت به، وسيكون في إمكان المرء أن يحتسب أي انجاز هائل يحققه إنسان لا يفعل شيئا البتة اليوم.
لأن الرجل الذي لا سمات له كان في هذه اللحظة مثل هذا الإنسان.
وهل هو رجل يفعل؟
“يمكن للانسان أن يخرج بإستنتاجين من ذلك”، قال لنفسه.
ان الإنجاز العضلي لمواطن ما يقضي أشغاله بهدوء طيلة يوم كامل هو أكثر بشكل واضح مما هو عليه عند رياضي يرفع مرة واحدة في اليوم ثقلا كبيرا؟ إن هذا أمر مثبت فيزيولوجيا، ولذلك فإن الإنجازات اليومية الصغيرة بحجمها الإجتماعي، وبالذات عندما تضاف الى بعضها، تطلق الى العالم طاقة أكثر بكثير من الأعمال البطولية؟ بل ان الإنجاز البطولي يبدو لذلك ضئيلا مثل حبة رمل، توضع على جبل، متوهمة الأهمية. هذه الفكرة أعجبته.
ولكن لا بد من أن يضاف الى ذلك، بأنها إذا كانت قد أعجبته فليس لأنه كان يحب الحياة البورجوازية ؟ بالعكس كان يسره فحسب أن يضع العوائق أمام سيوله التي كانت قد اتخذت لها وجهة أخرى ذات مرة. أتراه كان محدود الأفق بالذات لأنه تنبأ ببطولة جماعية جديدة هائلة؟ انها سوف تسمى بطولة عقلية ولسوف يجدها المرء جميلة جدا. من يمكن أن يعرف ذلك اليوم؟! مضى الزمان. الناس الذين لم يكونوا قد عاشوا. حينذاك لن يودوا أن يصدقوه، ولكن حينذاك أيضا مضى الزمان سريعا مثل حصان سباق، وليس اليوم فحسب. سوى ان المرء لم يكن يعرف الى أين. وما كان في امكان أحد أن يميز ما هو فوق وما هو تحت، ما مضى الى الأمام وما مضى الى الوراء. “لا يهم ما تفعل”، قال الرجل الذي لا سمات له لنفسه، هازا كتفيه “ففي وجأة هذه القوى وهي تعمل ليس ثمة حتى أدنى فارق!” استدار مبتعدا، مثل امرىء تعلم أن يستغني، أجل مثل شخص مريض ينفر من كل تماس قوي، ثم إذ مر مخترقا غرفة ملابسه المجاورة وجه ضربة سريعة وشديدة الى كرة الملاكمة المعلقة هناك، وهو ما لا يبدو انه كان موائما بالذات لأمزجة الخضوع او ظروف الضعف.
اولريش :
كان الرجل الذي لا سمات له والذي تروى قصته هنا يدعى اولريش، وكان اولريش – ليس مريحا أن يدعى أحد ما، لا نعرفه بعد إلا بصورة عابرة، بدون انقطاع باسم تعميده ! لكن لابد من اغفال اسم أسرته، مراعاة لوالده – فقد اجتاز أول امتحان يتعلق بنزوعه حينما كان لا يزال يقف على الخط الفاصل بين الطفولة والمراهقة في إنشاء مدرسي حول موضوع وطني ما. كانت الوطنية في النمسا موضوعا خاصا جدا. فقد كان الأطفال الألمان يتعلمون ببساطة احتقار الحروب التي يعتبرها الأطفال النمساويون مقدسة، مثلما كانوا يلقنون بأن الأطفال الفرنسيين جميعا هم أحفاد أبناء زنى فاسدين، يلوذون بالفرار بالآلاف حالما يقترب منهم جندي ألماني بلحية طويلة. وكانت نفس الأفكار. تماما، بعد قلب الأدوار والتعديلات المطلوبة، تلقن للأطفال الفرنسيين والروس والإنجليز الذين كانوا يمثلون غالبا أيضا الجانب المنتصر. ولأن الأطفال استعراضيون بطبعهم، فإنهم يهوون لعبة الشرطي واللص وعلى استعداد في أي وقت لاعتبار عائلة ” ي ” في زقاق ” س” الكبير.. العائلة الأعظم في العالم، إذا ما كانت تنتسب بالصدفة اليهم. وهكذا فإنه من السهل كسبهم الى جانب الوطنية. لكن الأمر في النمسا كان أعقد قليلا. فرغم ان النمساويين كانوا قد انتصروا أيضا في كل حروب تاريخهم، إلا انهم اضطروا بعد معظم هذه الحروب الى التنازل عن شيء ما. كان هذا هو ما أثار التفكير، فقد كتب اولريش في انشائه حول حب الوطن أن اي امرىء يحب وطنه حقا لا ينبغي له أن يعتبره الأفضل أبدا، ففي الومضة التي بدت له رقيقة بصورة خاصة، رغم انه أخذ بوهجها أكثر مما كان قد راه جاريا داخلها، أضاف الى هذه الجملة المشبوهة جملة ثانية بأنه ربما كانت الآلهة نفسها أيضا تفضل أن يتحدث عن عالمها بصيغ الإفتراض الشرطية = hic dixerit quispiam ( هنا يمكن للمرء أن يعترض…)، لأن الآلهة فيما هي تصنع العالم تفكر انه كان يمكن لها أن تخلقه بطريقة مختلفة. كان فخورا جدا بهذه الجملة، ولكنه ربما لم يعبر عن نفسه بما يكفي من الوضوح، فقد أثارت جملته تلك اضطرابا شديدا، حتى كاد يطرد من المدرسة بسببها، وإذا لم تكن الإدارة قد توصلت الى قرار ما بشأنه فذلك لأنها لم تفلح في التوصل الى اتفاق في الرأي عما إذا كانت ملاحظته المتطاولة تلك تجديفا بحق الوطن أم تجديفا بحق الله. كان حينذاك يداوم في الإعدادية العريقة لأكاديمية الفرسان التيرسيانية التي طالما زودت الدولة بأعمدتها النبيلة، عندما أقدم والده، مغتاظا من الخزي الذي جلبته له تفاحته الساقطة بعيدا عن جذعها، على إرساله الى مدينة بلجيكية لم يسمع بها أحد، حيث توجد مدرسة صغيرة تدار على أساس تجاري ذكي، محققة الكثير من الأرباح بسبب أسعارها الرخيصة على حساب التلاميذ الضالين. هناك تعلم اولريش أن يوسع استهانته بمثل الناس الآخرين على النطاق العالمي.
لقد مرت منذ ذلك الحين ستة عشر او سبعة عشر عاما، مثلما تمر السحب في السماء. ما كان اولريش نادما عليها ولا فخورا بها، كل ما في الأمر هو انه التفت ببساطة اليها وهو في الثانية والثلاثين من عمره مندهشا. فقد كان في أثناء ذلك هنا وهناك، مثلما أمضى أحيانا أوقاتا قصيرة في بلدته، مشغلا نفسه في كل مكان حل فيه بما هو نافع او غير نافع. لقد أشير للتو الى انه كان مختصا بالرياضيات، وما من حاجة لقول المزيد حول ذلك الآن، ففي كل مهنة يمارسها المرء، ليس بهدف الحصول على المال وإنما عن حب، سوف تحل اللحظة التي تبدو فيها الأعوام المتعاقبة انها لا تؤدي الى شيء. فبعد أن استمرت هذه اللحظة فترة طويلة بعض الشيء تذكر اولريش بأن موطن الإنسان يمتلك طاقة غامضة تجعل الحمى يتجذر ويتوغل في تربتها، وهكذا أقام هناك بعد أن تملكه شعور المترحل الذي يجلس الأبدية كلها على مقعد، رغم انه كان يعي أنه سينهض على الفور مرة أخرى.
حينما كان يرتب أمور بيته، كما يسميه التوراة، وجد نفسه في خضم تجربة طالما انتظرها في واقع الحال. اتخذ لنفسه الوضع المريح لمن ينبغي عليه أن يؤثث من جديد تماما ممتلكاته الصغيرة المتداعية على هواه. فقد امتلك حرية اتباع أي مبدأ، من الناحية الأسلوبية المجردة وحتى الإستهانة الكاملة، حرية اختيار أي أسلوب من الآشوريات وحتى التكعيبية. ولكن ما الذي كان عليه أن يختاره؟ إن الإنسان الحديث يولد في المستشفى ويموت في المستشفى: أفينبغي له أن يعيش هو أيضا في ما يشبه المستشفى! هذا المطلب عرضه أيضا معماري بارز، فيما طالب مجدد آخر للديكور الداخلي بإقامة جدران متحركة داخل الشقق، بدعوى انه ينبغي على الناس أن يتعلموا، وهم يعيشون سوية، الثقة ببعضهم، بدل الإقفال على أنفسهم واختيار العزلة. كان قد بدأ حينذاك زمن جديد ( وهو ما يحدث في كل لحظة )، وكل زمن جديد يتطلب أسلوبا جديدا. ولحسن حظ اولريش فانه وجد القصر الصغير يقوم على ثلاثة أساليب فوق بعضها الآخر، بحيث كان من الصعب على المرء حقا أن يدرك كل ما يتطلب فعله، ولذلك شعر باضطراب شديد تجاه مسؤولية امتلاك الفرصة لتأثيث بيت، تراكم معه فوق رأسه التهديد القائل: “دعني أرى كيف تعيش أقل لك من أنت” والذي كان قد قرأه المرة تلو الأخرى في المجلات الفنية. فبعد دراسة مركزة لهذه المجلات قرر أن من الأفضل له أن يتولى بناء شخصيته بيديه الخاصتين به، وهكذا بدأ تصميم أثاثه المستقبلي بنفسه. ولكن حتى وهو يبتكر شكلا ذو تعبير كثيف، خطر في باله انه يمكن للمرء أن يضع بسهولة في مكانه شيئا أقل اختصارا وأكثر نفعا؛ وكان إذ يضع تصميما لشكل من الخرسانة الصلبة، يتذكر الأشكال النحيفة العابقة بالربيع لجسد فتاة في الثالثة عشرة من عمرها ويسقط في الأحلام بدل الوصول الى قرار.
كان الأمر يتعلق – في شأن ما كان ليعنيه بصورة خاصة حين يجد الجد – بذلك الإنعدام المعروف للترابط بين الخواطر وانتشارها من دون محور لها، تلك الخواطر التي تميز الحاضر وتضفي عليه نكهته الغريبة وتتكاثر من المئات الى الآلاف، من دون امتلاك وحدة تجمعها. وأخيرا ما عاد في امكانه أن يحلم الا بغرف غير قابلة للتنفيذ، وأخرى دوارة وتأثيثات منشورية وتجهيزات متغيرة للروح، بحيث صارت خواطره تقل محتوى باستمرار. وكان قد بلغ الآن بعد لأي النقطة التي اجتذبته. كان يمكن لوالده أن يعبر عن الأمر كما يلي تقريبا: اذا ما تركه المرء يفعل ما يشاء فلسوف يصطدم برأسه بالجدار من الإضطراب. او هكذا أيضا: ان من يحصل على ما يرغب فيه، فلن يعرف قط ما ينبغي له أن يتمناه لنفسه. ردد اولريش هذه الأقوال مع نفسه بالنير من التلذذ. فقد بدت له حكمتها الضاربة في القدم كفكرة جديدة باستثنائيتها. لابد من أن تقيد قبل كل شيء امكانات الإنسان، خططه وعواطفه، بالأحكام المجحفة، بالموروثات، بالصعوبات والتحديدات من كل صنف، مثل معتوه في سترة قصيره، وبعد ذلك فقط ربما امتلك ما هو قادرعلى صنعه، القيمة والنضج والقدرة على البقاء؛ – يصعب على المرء في الحقيقة أن يغض الطرف عما تعنيه هذه الفكرة ! والآن فقد اتخذ الرجل الذي لا سمات له والذي عاد الى موطنه الخطوة الثانية باتجاه السماح لنفسه أن تشكله الظروف الحياتية الخارجية، فعند هذه النقطة في تأملاته ترك ثأثيث بيته ببساطة لعبقرية مجهزيه، وهو مقتنع تماما بأنهم سيتولون أمر الموروثات والأحكام الجائرة والتحديدات. كل ما كان عليه أن يفعله بنفسه هو أن يستذكر الخطوط القديمة التي ظلت موجودة مما مضى، وقرون الأيل الداكنة تحت الأقواس البيضاء للقاعة الصغيرة او السقف الأصولي للصالون، وقد فعل فضلا عن ذلك كل ما بدا له مفيدا ومريحا.
حينما أنجز كل شيء حق له أن يهز رأسه ويتساءل: أهذه إذن هي الحياة التي ستكون حياتي؟ – ما امتلكه كان قصرا ساحرا صغيرا؟ وهذا هو ما كان ينبغي على المرء أن يسميه تقريبا، لأنه كان يطابق تماما ما يمكن أن يتصوره المرء عن قصر مثله: مقام كله ذوق لمقيم، كما تصورته شركات الأثاث والسجاد والديكور الداخلي الرائدة في مجالات عملها. كل ما ظل ناقصا هو أن هذا العمل المتقن المثير لم يدشن بعد؟ إذ حينذاك فقط ستدور عجلات العربات وهي تقطع الطريق، مقلة أصحاب المقامات العالية والسيدات النبيلات، فيما سيقفز المشاة من سلالم عرباتهم ليسألوا اولريش بريبة: “أيها الرجل الطيب، أين سيدك؟”
كان عائدا لتوه من القمر، بيد انه سرعان ما وجد نفسه يستقر ثانية على ما يشبه القمر.
جزء من رواية “روبرت موزيل” ( الرجل الذي لا خصال له ) عن دار الجمل.
ترجمة : فاضل العزاوي .