أنا الآن .. طاعنٌ في السِنّ.
هناك من يقول .. ” لقد بلغتُ منَ الكِبَرِ عِتِيّا”.
هناكَ مَنْ يَدّعي .. “أنّ هذا أرذلُ العُمْر” .
امرأةٌ في الخمسين ، تهمسُ في أُذْنِ صديقتها .. “هذا رجلٌ عجوز”.
صديقٌ في الستّين يقول .. لقد “راحَتْ عليكَ” ، و على شَيْباتكَ يارَجُل .. ولم يَعُد فيك ، ما يُثيرُ بعوضة.
هناكَ من يُناديني .. “حَجّي”.
النساءُ الصغيرات الرائعات ، يَقُلْنَ لي .. “عمّو”.
أنا أُحِبُّ “عَمّو” هذه كثيراً
وأُفَضِّلها على غيرها من التسمياتِ المُميتة.
لستُ سعيداً بهذهِ الأوصافِ طَبعاً
ولستُ حزيناً أيضاَ
ولكنّني أشعرُ بالدهشةِ
لأنّني مازلتُ حيّاً
مع أنّ أكثرَ من حربٍ
قد تركَتْ وحلها فوق روحي.
أشعرُ بالدهشةِ لأنّني لم أمُتْ
مع أنّ ماعشتهُ في حياتي
لم يكُنْ بوسعِ حيوانٍ
أنْ يتحمّلَهُ قَطْ.
أشعرُ بالدهشةِ ، لأنّ كُلّ الذينَ أُحِبُّهم ماتوا ،
دونَ سبَبِ كافٍ
يُبَرّرُ الرحيلَ المُبَكِّر.
مَثَلاً .. أنّ أحدهم ماتَ ، بعدَ وَجَعٍ في القلب ، دامَ بضعَ دقائق.
والأخرُ ماتَ بعدَ إنْ غادرَ البيتَ ، ليشتري للعائلة ، سندويجَ “فلافل” .. فجاءَ أحدهم ، وحزَ عنقَهُ بسكّينٍ ، وتركهُ يرفسُ في الشارع.
والآخرُ ماتَ ، لأنّ شخصاً لا يعرفهُ ، قد اطلقَ عليهِ الرصاص ، وكأنّهُ كيسُ من الرمل ،
كانَ يُنجِبُ أطفالاً ، يشبهونَ صغارَ السمَك ، وهاهُم يلبُطونَ الآنَ على الأرصفة.
وهُناكَ من ماتَ من الجوعِ ، بعدَ إنْ أفلتَ من الكوليرا.
بلْ أنّ أحدهم كانَ أبلَهاً .. فمات ..
لأنّ كُلّ الذينَ يكرَهَهُم .. ماتوا.
وتصَوّروا .. أنَّ إحداهُنَّ ماتت .. لا لشيء .. إلاّ لأنّها ، أحَبّتْ رجُلاً غيري.
كُلُّ هذهِ .. أسبابٌ غيرُ عميقةٍ للموت .
وهي ذاتها التي تركتني أعيشُ ، الى هذه اللحظة ،
في انتظارِ سببٍ وجيه
يستَحِقُّ أنْ أموتَ لأجلِه ..
كأنْ أغفو ذاتَ مساء
مُبتَسِماً لوجهها العذب
ولا أصحو بعد ذلكَ أبداً
الى أنْ يُستَهلَكَ هذا العالم ..
أو .. الى أنْ تاتي تلكَ الرسولةُ فعلاً ،
وتغفو فوقَ صدري
قادمةً من الحُلْم
فأموتُ أخيراً
من شِدّةِ البهجة.
553 دقيقة واحدة