ت. س. إليوت – الرباعيات الأربع

نورتون المحترقة (I)

1

ربما كان الزمن الحاضر والزمن الماضى

حاضرين فى مستقبل الزمن؛

فالماضى يحتوى المستقبل.

إذا كان الزمن الماضى حاضرا أبدا فلم يكن ليستعاد،

ولبقى مايمكن أن يكون

احتمالا سرمديا مجردا

فى عالم من التكهنات.

ما يمكن أن يكون وما كان،

يشيران الى نهاية واحدة، هى الحاضر دائما.

تتردد أصداء خطى فى الذاكرة،

على الطريق الذى لم نسلك،

ونحو الباب الذى لم نفتح أبدا،

فى حديقة الورود تتردد كلماتى فى عقلك هكذا

ولكن لماذا نثير الغبار على آنية من بتلات الورد ؟

لا أدرى.

أصداء أخرى تسكن الحديقة، هل نتبعها ؟

قال الطائر: أسرعوا والحقوا بهم .. الحقوا بهم؛

وراء الناصية، من الباب الأول،

الى العالم الاول. هل نتبع خداع البلبل فى عالمنا الاول ؟

هاهنا كانو مختبئين، يتحركون بلا ثقل على الأوراق الجافة، فى قيظ الخريف

اذهبوا اذهبوا اذهبوا؛

قال الطائر، فالانسان لايستطيع احتمال كثير من الحقيقة.

الزمن الماضى والزمن المستقبل

ماكان يمكن أن يكون وما كان،

يشيران الى ذات النهاية، والتى هى الحاضر دائما.

2

الثوم والزمرد فى الطين

فى حنايا جذور شجرة الأكسل

والدودة التى تزغرد فى الدماء

وتغنى تحت الندوب القديمة،

تهيج حروبا عفا عليها النسيان.

الرقصة على طول الوريد

ودورة الالياف؛

محسوبة فى مسار النجوم.

نصعد الى الصيف فى الشجرة

ونتحرك فوق الشجرة المتحركة

فى الضوء على الأوراق

ونتسمع على الأرض الرخوة

تحت الدب والدب الأكبر

يتبعان مسارهما كما كانا أبدا،

لكنهما متصالحان بين النجوم.

عند النقطة الثابتة من العالم الدوار؛

لابالبدن ولا بدونه،

لامن ولا الى، فى النقطة الثابتة هاهى الرقصة.

ولكن لاالسكون ولاالحركة، ولا تسمها الثبات؛

حيث يجتمع الماضى والمستقبل، لاحركة منها ولا إليها،

لاهو الصعود ولا الهبوط، فيما عدا النقطة؛

النقطة الثابتة.

لارقصة هناك، وماهناك سوى الرقصة.

أستطيع فقط أن أقول هاهناك كنا،

ولكنى لاأستطيع أن أقول أين.

ولاأستطيع حتى أن أقول متى؛ لأن هذا يعين مكانها فى الزمن.

الحرية الداخلية من الرغبة الجزئية،

التحرر من الحركة والمعاناة تحرر من الجبر الداخلى والخارجى،

إلا أننى محاط بلطف فى الحواس،

ضوء أبيض ساكن متحرك،

تسام بلا حركة، تركيز بلا استبعاد،

عالم جديد والعالم القديم معا

اتضحا وفهما

فى اكتمال لذته الجزئية

وإصرار رعبه الجزئى،

إلا أن ارتباط الماضى بالمستقبل؛

منسوج فى ضعف الجسد المتغير،

ليحمى الانسان من السماء واللعنة،

والتى لايستطيع الجسد احتمالهما.

الزمن الماضى والزمن المستقبل؛

لايسمحان سوى بوعى قليل.

فالوعى خروج عن الزمن،

ولكن فى الزمن فقط يمكن أن نتذكر

اللحظة فى حديقة الورود،

واللحظة التى تدب فيها الأمطار على الشجيرة،

واللحظة فى الكنيسة الخالية عندما يسقط الظلام،

ونرتبط بالماضى والمستقبل،

فلا يفل الزمان إلا الزمان.

3

هنا حيث لاتعاطف.

مافات من الزمان وما يأتى

فى ضوء داكن.

لاهو ضوء النهار،

يستثمر الشكل فى سلام ساكن

ويحول الظلال الى جمال زائل،

بدوران بطئ يوحى بالثبات،

ولا هو ظلام ينقى الروح

ويفرغ الحسى بالحرمان،

ويطهر التعاطف من المؤقت.

لاهو بالامتلاء ولا بالفراغ، ولكنها ومضة

على الوجوه التى أجهدها الزمن،

لاهية عن الذهول بالشرود،

مليئة بالأوهام فارغة من المعنى.

كآبة ضالة بلا تركيز

ناس وقصاصات أوراق،

تلهو بها الريح الباردة

التى تهب قبل الزمان وبعده.

زفير وشهيق رئات مريضة.

مامضى من الزمان وما يأتى،

تجشئات أرواح سقيمة

فى الهواء الناحل المكتوم

تسوقها الرياح التى تجتاح تلال لندن الكئيبة

هامستد وكليركنويل وكامبدن وبوتنى،

هايجيت وبريمروز ولودجيت.

ليس هنا، ليس هنا الظلام فى ذلك العالم الساقط

تهبط فقط، هبوطا الى عالم من الوحدة الدائمة،

عالم ليس هو العالم، ولكن ذلك الذى ليس بعالم،

ظلام داخلى وحرمان،

وتجرد من كل ملكية،

انهيار عالم الحواس،

وابتسار عالم الخيال،

وتعطل عالم الروح.

هذا طريق، والطريق الآخر

هو نفس الشيئ، ولكن لافى الحركة،

بل فى الامتناع عن الحركة حين يدور العالم

فى شهوة على طرائقه المعدنية

فى الزمن الماضى والزمن الحاضر.

4

الوقت والجرس شيعا النهار،

وحملت السحابة السوداء الشمس بعيدا

هل تنظر الينا زهرة العباد،

وهل ينحنى الينا الأقحوان عطرا نضيرا ؟

صقيع..

هل تنحنى علينا مخالب الصنوبر ؟

بعد أن خفق جناح الملك الصياد،

وأجاب ضياءا بضياء، ثم صمت وسكن الضوء

فى النقطة الساكنة من العالم الدائر.

5

تتحرك الكلمات، وتتحرك الموسيقى فى الزمن فقط،

ولكن ذلك الذى يعيش لايملك سوى أن يموت.

الكلمات بعد مقالها تصل عبر السكون،

ولكن بالشكل فقط يمكن للكلمات أو الموسيقى أن تصل الى السكون.

مثل آنية صينية تتحرك فى سكونها الى الأبد،

لامثل سكون الكمان بينما تستمر النغمة،

ليس ذلك فقط، ولكن الوجود المشترك.

أو قل أن النهاية تسبق البداية،

والبداية والنهاية كانا هناك أبدا؛

قبل البداية وبعد النهاية،

وكلاهما دائما الآن.

الكلمات تجهد، وتتشقق، وأحيانا تنكسر

تحت التوتر، وتقع وتنزلق وتهلك وتهترئ بالركاكة،

ولن يبقى مكانها سوى أصوات صارخة تجتاحها دائما؛

تحتقر وتتهكم، أو مجرد أن تثرثر.

والكلمة فى الصحراء أكثر عرضة لهجوم أصوات الاغراء.

الظل الباكى فى رقصة الجناز،

وعويل الغولة الحزينة.

الحركة تفاصيل النموذج؛

كما فى شكل السلالم العشر.

الرغبة ذاتها حركة ليست مرغوبة فى ذاتها؛

إلا أنها سبب الحركة وغايتها؛ لازمنية ولاراغبة سوى فى جانب الزمن

حين تتجمد فى تحدد شكلى بين الكينونة والعدم.

فجأة فى ضوء شعاع الشمس؛ يثور الغبار.

وترتفع الضحكة المختبئة للاطفال فى الخمائل.

سريعا. الآن. هنا. الآن. دائما،

يبعث على الأسى ذلك الزمان المضيع الحزين؛

الذى يمتد من قبل ومن بعد.

شرق كوكر (II)

1

فى بدايتى نهايتى.

المنازل تتابع ارتفاعا وسقوطا وتكسرا.

توسع أو تنقل أو تهدم أو ترمم.

أو يحتل مكانها حقل أو مصنع أو طريق.

يؤول الحجر القديم الى مبان جديدة،

والخشب القديم الى نيران جديدة،

والنيران القديمة الى تراب،

والتراب الى الارض؛

والتى قوامها اللحم والفراء والبراز،

وعظام الانسان والحيوان،

وأعواد الذرة والاوراق.

المنازل تحيا وتموت،

حيث هناك زمن للبناء

وزمن للحياة والتناسل،

وزمن تكسر فيه الريح الزجاج السائب،

وتهز كسوة الحائط الخشبية حيث يرتع فأر الغيط،

وتهز الستار الممزق المطرز بحكمة صامتة.

فى بدايتى نهايتى.

والآن، يسقط الضوء

عبر الحقل المكشوف بعد أن تركنا الطريق المتوغل

محتجبا بالفروع مظلما فى الأصيل.

حيث تضطجع على جسر بينما تمر عربة،

ويستمر الطريق فى الاتجاه نحو أعماق القرية،

منوما فى الضباب الدافئ وحرارة الكهرباء،

يمتص الضوء الحار الرطيب،

لاتعكسه الاحجار الرمادية،

وتنام الداليات فى صمت فارغ،

فى انتظار البومة المبكرة،

فى ذلك الحقل المفتوح.

إذا لم تقترب كثيرا، اذا لم تقترب كثيرا؛

فى منتصف ليلة صيف

يمكنك أن تسمع الموسيقى؛

الناى الخافت والدف الصغير.

وتراهم يرقصون حول النار؛

خليطا من الرجال والنساء،

فى رقصهم يرمزون الى الزواج؛

طقسا مهيبا ومريحا،

إثنان اثنان يتصلان،

يتماسكان بالايدى أو بالاذرع،

يمسك أحدهما الآخر رمزا للتوحد،

يقفزون فوق النار أو يتصلون فى حلقات

فى وقارهم الريفى وضحكاتهم الريفية،

يرفعون أقداما ثقيلة فى أحذية كئيبة؛

أقدام من الأرض، أقدام من الطين،

ترتفع فى مرح الريف.

مرح أولئك الذين يرقدون تحت التراب من قديم الأزل يغذون الذرة ويحفظون

المواعيد،

ويحافظون فى رقصهم على الايقاع

مثلما كانوا يفعلون فى حياتهم فى فصول الحياة،

فى زمن الفصول والابراج،

فى زمن الحليب والحصاد،

فى زمن تزاوج الرجل والمرأة،

وزمن الحيوانات.

أقدام ترتفع وتهبط،

تأكل وتشرب،

تتبرز وتموت.

يبزغ الفجر ويوم جديد

يستعد للحرارة والصمت.

ورياح الفجر بعيدا على صفحة البحر تنزلق وتتجعد

أنا هنا، أو هناك، أو فى أى مكان آخر؛

فى بدايتى.

2

ماذا يفعل الخريف المتأخر مع اضطرابات الربيع،

ومخلوقات حرارة الصيف،

وقطرات الجليد تئز تحت الأقدام،

وصقور رمادية حمراء،

تحوم عاليا ثم تهوى،

والزهور المتأخرة مع الجليد المبكر ؟

تدور البروق مع الأنجم الدوارة،

تتشبه بمركبات الانتصار،

منتشرة فى حروب الكواكب؛

العقرب يصارع الشمس حتى تهبط الشمس والقمر،

وتبكى النيازك ويطير الاسد صائدا السماء والسهول

طائرا فى زوبعة ستأخذ العالم الى تلك النار المحرقة،

التى تشتعل قبل أن يسود الجليد.

كانت هذه طريقة فى القول؛ ليست مرضية تماما

دراسة هامشية فى إطار شعرى بال تترك المرء فى صراع لايحتمل مع المعانى

والكلمات.

لايهم الشعر، ولم يكن (لو بدأنا مرة أخرى)

ماكان المرء يتوقع.

فماذا يجب أن تكون قيمة ماتعلق به الأمل طويلا من الهدوء والسلام الخريفى وحكمة

العمر ؟

هل خدعونا أم خدعوا أنفسهم كبار السن ذوى الصوت الهادئ ؟

هل أورثونا مجرد خدعة ؟

ولم يكن السلام سوى ذل متعمد، ولاالحكمة سوى معرفة الاسرار الميتة

لاتفيد فى الظلام التى تتلصص فيه.

هناك يبدو لنا فى أفضل الأحوال مجرد قيمة محدودة

فى المعرفة المستفادة من الخبرة.

حيث تفترض المعرفة إطارا للتزييف؛ والاطار جديد فى كل لحظة.

وكل لحظة تقييم جديد مذهل لكل ماكنا

والامر الوحيد الذى لم ننخدع فيه

هو ذلك الذى لم يعد الخداع يضر به.

فى المنتصف؛ ليس فقط فى منتصف الطريق، ولكن طوال الطريق.

فى غابة مظلمة أو خميلة،

أو على حافة هاوية حيث لامستقر أمين لقدم،

حيث تتهدده الغيلان والاضواء الباهرة والمتعة والمخاطرة.

لاتحك لى عن حكمة كبار السن بل عن حماقتهم،

وخوفهم من الخوف والجنون، وخوفهم من التملك

ومن الانتماء الى آخر أو آخرين أو الله.

الحكمة الوحيدة التى نأمل فى اكتسابها

هى حكمة التواضع.

فالتواضع لانهائى.

المنازل جميعا راحت تحت الجبل.

الراقصون جميعا راحوا تحت التل.

3

أيها الظلام الظلام الظلام،

كلهم يروحون فى الظلام،

فى الفضاء الخالى مابين النجوم،

الفراغ فى الفراغ.

القباطنة ورجال البنوك ورجال الكلمة المرموقين،

ورعاة الفن الكرماء ورجال الدولةوالحكام،

وكبار رجال الحكومة ورؤساء عديد من اللجان،

وسادة الصناعة وصغار المقاولين،

كلهم يروحون فى الظلام.

وظلام هى الشمس والقمر والتقويم

وجريدة البورصة ودليل المديرين.

وتبرد الحواس ويضيع الدافع الى الحركة،

ونذهب جميعا معهم فى الجناز الصامت؛

جنازة لاأحد؛ فليس هناك من يدفن.

وقلت لروحى اسكنى ودعى الظلام يحل عليك والذى سوف يكون ظلام الله،

كما فى مسرح عندما تخفت الاضواء بحفيف أجنحة جوفاء،

وحركة الظلام على الظلام،

ونعلم أن التلال والاشجار والخلفية البعيدة،

والواجهة الجريئة المؤثرة تلتف جميعا ليتغير المشهد،

أو كما فى قطار حينما يتوقف طويلا فى النفق بين محطتين؛

ويرتفع الحوار؛ وبطيئا يتلاشى الى السكون،

وخلف كل وجه يتزايد عمق الفراغ الفكرى،

لايترك سوى الرعب النامى من عدم التفكير فى شئ،

وقلت لروحى اسكنى وانتظرى بلا رجاء،

فالرجاء قد يكون رجاء أمر خطأ،

وانتظرى بلا حب،

فالحب قد يكون حب شئ خطأ،

لكن؛ مازال هناك الايمان.

إلا أن الايمان والحب والرجاء جميعا فى الانتظار.

انتظرى بلا فكر، فلست على استعداد للفكر

وهكذا يتحول الظلام ضوءا والسكون رقصا.

همسات الغدير الجارى وبروق الشتاء.

التوت البرى مختفيا والفراولة البرية.

والضحكة فى الحديقة متعة تتردد؛

ليست ضائعة ولكن متطلبة،

تشير الى ألم الولادة والموت.

تقولون أننى أكرر أمرا قلته من قبل

سوف أقوله ثانية؛

هل أقوله ثانية ؟

حتى تصل الى هناك؛

حتى تصل الى حيث أنت وتأخذ من حيث لاتكون

يجب أن تذهب فى طريق لامتعة فيه.

حتى تصل الى مالا تعرف

عليك أن تذهب فى طريق الجهل.

حتى تمتلك مالا تحوز

عليك أن تذهب فى طريق التخلى.

حتى تصل الى ماليس بذاتك

عليك أن تذهب فى طريق لست فيه ذاتك.

وكونك لاتعرف هو الشئ الوحيد الذى تعرف،

وماتملك هو مالا تملك،

وحيث تكون هو حيث لاتكون.

4

الجراح الجريح يعد المبضع،

الذى يبتر به العضو المريض،

ونشعر تحت الكفوف الدامية بعمق التعاطف وفن الشفاء،

يحلان عقدة ارتفاع الحمى.

صحتنا الوحيدة هى المرض

لو أطعنا الممرضة المحتضرة،

التى لاتسرنا رعايتها الدائمة،

بل تذكرنا بلعنتنا ولعنة آدم

ولاشفاء منها سوى بالسقوط فى المرض.

الارض بأجمعها مستشفانا؛

يرعاها الميليونير المفلس.

نفعل خيرا لو متنا

من فرط الرعاية الأبوية،

والتى لن تعتقنا بل تحبطنا فى كل مكان.

يرتفع الصقيع من الاقدام الى الركب،

وتغنى الحمى فى شعاب العقل،

من أجل الدفء لامناص من التجمد،

والرجفة فى لهيب مطهر مقرور،

شعلته الورود ودخانه البرار.

الدم النازف شرابنا الوحيد،

واللحم الدامى طعامنا الفريد،

بالرغم منهما نحب أن نعتقد؛

أننا دم ولحم سليم،

ثم نسمى هذه جمعة مقدسة.

5

هاأنذا فى منتصف الطريق بعد عشرين عاما؛

عشرون عاما شديدة الضياع،

سنى مابين الحربين.

أحاول أن أتعلم استخدام الكلمات،

وكل محاولة بداية جديدة تماما،

ونوع مختلف من الفشل.

لأن المرء لم يتعلم سوى أن يأتى بأحسن الكلام لقول مالم يعد مضطرا لقوله،

أو الطريقة التى لم يعد مضطرا لقوله بها،

وهكذا فكل مغامرة جديدة بداية،

وحرب على مالا يقال،

بأدوات رثة غالبا مائوخر فى الاضطراب العام للمشاعر المختلطة،

وجحافل العواطف الهوجاء،

وما كان يهزم بالقوة أو بالخضوع قد اكتشفه بالفعل رجال لانستطيع أن نأمل فى

تقليدهم.

ولكن لامنافسة هناك.

وليس هناك سوى الصراع لاسترداد مافقد،

ووجد وفقد مرة بعد أخرى،

الان فى ظروف لاتبدو مرضية،

ولكن لايهم المكسب ولا الخسارة،

وليس هناك سوى المحاولة،

والبقية ليست من شأننا،

البيت حيث يبدأ المرء.

وكلما أوغلنا فى العمر تزداد غرابة الدنيا وتتعقد الأحوال

بالموتى والأحياء.

لا اللحظة الحاسمة منفصلة لاقبل لها ولابعد،

ولكن حياة كاملة تحترق فى كل لحظة.

وليست حياة رجل واحد فقط؛ بل حياة أحجار قديمة لم تحل رموزها بعد.

هناك زمن للمساء تحت ضوء النجوم،

وزمن للمساء فى ضوء القنديل.

(المساء الذى تمضيه مع ألبوم الصور)

حين يكون الحب أقرب الى حقيقته

حين تنتهى أهمية الزمان والمكان.

يحسن بكبار السن أن يكونوا مستكشفين

لا أهمية لهنا أو هناك.

فيجب أن نتحرك أبدا نحو وجود أكثر تركيزا،

نحو اتحاد أوثق وتوحد أعمق،

فى بيداء مظلمة وفراغ بارد،

حيث تهدر الموجة وتصفر الريح،

على المياه الشاسعة؛

مياه النورس والحوت

فى بدايتى نهايتى.

جيدنج الصغيرة (IV)

1

فصلها ربيعى نصف شتوى

سرمدى ولكن مبتل قبل المغيب،

ممتد على الزمن بين قطب واستواء،

حين يكون اليوم القصير على أشده فى لمعان الصقيع والنار.

والشمس المختزلة تلهب الجليد على البرك والنقر،

فى برد لاريح فيه هو حرارة القلب،

عاكسا فى مرآة مائية؛

ومضة كالعمى فى الأصيل المبكر،

وتألق أكثر تركيزا من وهج الفروع أو أشد،

يحرك الروح الخرساء؛ لاريح بل لهيب العنصرة،

يرتعد غمد الروح فى أوقات الظلام من العام،

بين الانصهار والتجمد،

حيث لارائحة للأرض ولا رائحة للأشياء الحية،

هذا زمن الربيع؛ ولكن ليس فى حدود الزمن.

الخميلة الآن تبض ساعة ببراعم فانية من الجليد،

لاهى تزهر ولاهى تذبل،

وليست من النوع المتكاثر.

أين الصيف؛ صيف ماقبل البداية؛

الذى لايصل اليه خيال.

إذا أتيت من هذا الطريق،

متخذا الدرب الذى قد تتخذه،

من المكان الذى نشأت فيه؛

إذا أتيت من هذا الطريق فى مايو فسوف تجد الخمائل بيضاء مرة أخرى،

مايو ذا الحلاوة الآسرة.

وسوف تكون نهاية الرحلة هى ذاتها إذا أتيت ليلا كملك منكسر،

أو إذا أتيت نهارا لاتدرى ماأتيت له؛

فسوف تجد نفس الشئ حين تترك الطريق الوعر،

وتدلف وراء حظيرة الخنازير الى الواجهة الكئيبة،

وشاهد القبر وما ظننت ماله أتيت؛

ليس سوى قوقعة وقشرة للمعنى،

تفقس عن المعنى فقط حين يتحقق ـ لو أنه تحقق أبدا (فإما أن يكون لك هدف؛ أو ان

الهدف أبعد من النهاية التى كنت تتصور، وقد تغير فى التحقق)

هناك أماكن أخرى

هى أيضا نهاية العالم؛ بعضها بين فكى البحر، أو على بحيرة حالكة، أو فى صحراء

أو مدينة، ولكن هذا هو الأقرب فى الزمان والمكان؛

الآن وفى انجلترا.

إذا أتيت من هذا الطريق؛

متخذا أى درب بادئا من أى مكان؛

فى أى وقت وفى أى فصل:

فسوف يكون الأمر دائما هو نفس الأمر، وسوف يجب عليك أن تتخلص من الحـس والفكر،

فلست هنا كى تحكم أو تقرر، وترضى ذاتك أو تشبع استطلاعك،

فأنت هنا لتركع؛

حيث كانت الصلاة دائما واجبة.

والصلاة أكئر من مجرد نظام للكلمات، أو الشغل الواعى للعقل الداعى، أو نبرة

الصوت المصلى؛

ومالم يكن للموتى فيه مقال عندما كانوا أحياء.

يستطيعون أن يقولوا لك وهم أموات؛ أن اتصال الموتى بألسنة اللهيب وراء لغة من

يعيش.

هنا؛ فاصل اللحظة اللازمنية،

فى انجلترا وليس فى أى مكان آخر، أبدا ودائما.

2

رماد على كم رجل عجوز،

هو كل ماتخلف عن احتراق الورود،

تراب معلق فى الهواء؛

أثر موقع نهاية حكاية،

تراب فى الشهيق كان بيتا؛

جدارا وكسوة حائط وفأر.

موت اليأس وموت الأمل؛

هذا هو موت الهواء.

فيضان وجفاف على العين وفى الفم.

ماء ميت ورمال ميتة؛

تتصارعان لأيهما الغلبة.

الأرض المقددة المشققة تفغر فاها للكادحين؛

وتضحك بلا مرح؛

هذا هو موت الأرض.

المياه والنيران تتابعان

على المدن والمراعى والأعشاب،

المياه والنيران تحتقران التضحية التى انكرنا.

المياه والنيران سوف تبلى مانسينا من الأسس الشوهاء للمحراب والترتيل؛

هذا هو موت الماء والنار.

فى ساعة الفجر الكاذب قبيل الصباح

فى نهاية ليل لاينتهى؛ وعند عودة نهاية مالا نهاية له؛

بعد أن مرت الحمامة السمراء رفرافة الهديل تحت أفق مآبها، بينما تصلصل الأوراق

الميتة كالصفائح فوق الأسفلت حيث لايسمع صوت آخر.

بين ثلاثة مناطق يرتفع الدخان؛

حيث قابلت واحدا مهرولا متسرعا كما لو كان يهب على كالأوراق المعدنية،

لايقاوم رياخ الفجر.

وفى الوجه الذى ألقاه الفجر حملقت بذلك التطلع الشائك الذى نتحدى به أول غريب

نقابله لحظة الغسق المتلاشى.

ولمحت نظرة خاطفة لأحد الاساتذة الموتى، والذى كنت أعرفه ونسيته وأكاد أذكره؛

كواحد وجماعة معا.

فى الملامح الملوحة السمراء تطل عينا شبح مألوف وغير معروف.

وهكذا لعبت دورا مزدوجا وصحت؛ وسمعت صوتا آخر يصيح “ماذا … أأنت هنا ؟”

ومع أننا لم نكن، فقد كنت بالرغم من ذلك أعرف أننى شخص آخر؛

وهو وجه مازال يتكون، إلا أن الكلمات كفت لكى تجبر على التعرف الذى سبقته.

وهكذا؛ مواكبة للرياح المشتركة؛ ونحن شديدي الغربة على أحدنا الآخر لسوء الفهم،

مجتمعان عند ذلك الزمن الفاصل باللقاء فى لامكان، بلا قبل ولابعد.

خطونا الرصيف فى دورية ميتة،

قلت “إن العجب الذى أحس سهل، إلا أن السهولة هى سبب العجب، فتكلم إذن، وقد

لاأفهم وقد لاأتذكر.”

قال “لست فى شوق لأستعرض فكرى ونظريتى اللتان قد نسيت، لقد خدمت تلك الأشياء

أغراضها، فدعها، وكذلك أشياؤك.

وادع أن يغفرها لك الآخرون؛ مثلما أرجوك أن تغتفر الردئ والطيب على السواء، فقد

أكلت فاكهة الموسم الماضى، وسوف يركل الحيوان الممتلى مخلـته الفارغة.

لأن كلمات العام المنصرم تنتمى الى العام الفائت،

وكلمات العام المقبل تنتظر شفاها جديدة.

ولكن حيث أن الطريق لاعقبات فيه الآن أمام الروح المغتربة الهائمة بين عالمين

صارا شديديى التشابه؛

فاننى أجد كلمات ماظننت أنى أنطق بها،

فى شوارع ماظننت أنى أعود اليها،

عندما تركت جسدى فوق شاطئ بعيد.

حيث أن همنا كان الحديث وقد اضطرنا الحديث الى تنقية حوار الجماعة،

وحث العقل على الاستبطان والنبوئة.

فدعنى أختم العطايا المحفوظة للعمر الطويل بأن أتوج جهود حياتك؛

أولا، الاحتكاك البارد للحواس المتأججة بلا نشوة وبلا وعد، سوى مرارة تستطعم

ثمار الظل؛

إذ يبدأ الجسد والروح فى الانشطار.

ثانيا، وهن الغضب الواعى على الحمق الإنسانى،

وتهتك الضحك على مالم يعد يسلى.

وأخيرا، الألم الممزق لإعادة تقييم كل مافعلت وما كنت،

والخجل من الدوافع التى تأخر كشفها،

والحذر من الأشياء التى أسئ فعلها فى ضرر الغير،

ثم أن موافقة المغفلين تلدغ وتلطخ الشرف،

ومن عيب الى عيب تظل الروح الحانقة تتخبط مالم تستردها النار المطهرة؛

حيث يكون عليك أن تتحرك بالقياس مثل راقص”

كان النهار يبزغ فى الشارع المشوش.

تركنى بما يشيه الوداع، وتلاشى مع نفخة البوق.

3

هناك ثلاث حالات غالبا ماتبدو متماثلة، إلا أنها تختلف تماما وهى تنمو فى نفس

الخميلة؛

الارتباط بالنفس وبالاشياء وبالاشخاص؛

والانفصال عن النفس وعن الأشياء وعن الأشخاص تقوم بينها اللامبالاة؛

التى تشبه الآخرين مثلما يشبه الموت الحياة، الكينونة بين حياتين لاازدهار فيها

بين العوسج الحى والميت.

هذه فائدة الذاكرة للتحرر لابعدم الحب بل بانتشاره؛

حبا وراء الرغبة.

ثم أن التحرر من المستقبل كالماضى أيضا،

وهكذا يبدأ حب الوطن كارتباط بحقل نشاطنا،

وتنتهى الى أن النشاط قليل الأهمية، ولكنه لايصاب أبدا باللامبالاة.

قد يكون التاريخ استعبادا، وقد يكون التاريخ حرية؛

أنظر؛ الآن هاهم يختفون؛

الوجوه والأماكن مع الذات التى أحبتهم قدر استطاعتها،

لتصير متجددة متحولة فى نموذج آخر.

الخطيئة ملزمة؛ ولكن كل شئ سيكون على مايرام،

وسوف تسير الأشياء على طرائقها إذا فكرت ثانية فى هذا المكان،

وفى الناس غير المعروفين، وليسوا من ذوى القربى أو من نفس النوع،

ولكن بعض العبقريات الغريبة؛

مستهم جميعا عبقرية واحدة.

متوحدين فى الصراع الذى قسمهم.

لو أننى فكرت فى ملك ساعة الغسق،

وثلاث رجال أو أكثر على المشنقة،

وبعض من ماتوا منسيون فى أماكن أخرى هنا وفى الغربة،

ومات أحدهم ضريرا هادئا.

لماذا نحتفل بأولئك الميتين بأكثر ممن يموتون؟

لن يستوى الأمر بدق الناقوس القهقرى، ولا هى ترتيلة لاستدعاء طيف وردة.

نحن لانستطيع إحياء قديم الفن ولا استعادة قديم السياسات،

ولا أن نتبع طبولا قديمة.

أولئك الرجال ومن عارضهم وأولئك الذين عارضوهم؛

يقبلون الصمت دستورا.

ويطويهم حزب واحد.

وما ورثناه عن المحظوظ فقد أخذناه من المنهزم،

وماتركوا لنا هو رمز اكتمل بالموت.

وكل شئ سوف يكون على مايرام،

وطرائق الأشياء سوف تسير على مايرام،

بتطهير الدوافع فى أرض بحثنا.

4

تهبط الحمامة تشق الهواء،

بلهب رعب متأجج،

تعلن ألسنته عن الخلاص النهائى من الخطيئة والذنب.

الخطأ الوحيد أو فاليأس؛

كامن فى الاختيار بين حطب وحطب،

كى نستجير من نار بنار.

من ذا الذى اخترع العذاب؟

الحب.

الحب هو الاسم غير المعروف،

وراء الأيدى التى نسجت قميص اللهب الذى لايحتمل،

والذى لاتستطيع قوى الإنسان أن تخلقه.

إننا فقط نعيش وفقط نأمل؛

تأكلنا إما النار أو النار.

5

غالبا ماتكون النهاية هى مانسمية البداية،

وصناعة النهاية هى أن نصنع البداية،

والنهاية من حيث نبدأ.

وكل عبارة وكل جملة صحيحة (حيث كل كلمة فى مكانها تتخذ موقعها لسند الأخريات،

لاالكلمة محجمة ولا مبهرجة،

تبادل سهل بين القديم والجديد،

الكلمة العامة مضبوطة بلا ابتذال، والكلمة الرسمية صريحة وليست متعالمة،

والمعية جميعا ترقص سويا)

كل عبارة وكل جملة نهاية وبداية،

وكل قصيدة شاهد وأى حركة هى خطوة الى النار فى حلق المحيط.

أو الى حجر لايعقل؛ وهناك حيث نبدأ؛

نموت مع من يموت؛

انظر؛ انهم يرحلون ونحن نذهب معهم؛

إننا نولد مع الموتى؛

أنظر؛ إنهم يعودون ويأتون بنا معهم.

لحظة الوردة ولحظة شجرة السرو متساويتان فى الدوام.

وشعب بلا تاريخ لايسترجع من الزمن.

فالتاريخ نقش من اللحظات اللازمنية.

وهكذا، بينما يهب الضوء فى أصيل شتاء فى كنيسة منعزلة؛

فالتاريخ الآن وانجلترا.

مع سحب ذلك الحب وصوت ذلك النداء،

لن نتوقف عن الاستكشاف.

ونهاية كل استكشاف سوف تكون الوصول الى حيث بدأنا.

ونتعرف على المكان للمرة الأولى؛

خلال البوابة غير المعروفة التى نذكر؛

حيث بقيت آخر بقعة فى الأرض لم نكتشف بعد،

هى تلك الى كانت البداية

عند منبع أطول نهر

وصوت الشلال المختفى،

والأطفال فى شجرة التفاح؛

غير معروفين حيث لايبحث عنهم أحد؛

ولكن مسموعين، نصف مسموعين فى السكون بين هدير موجتين من البحر.

سريعا، الآن، هنا، الآن، دائما.

حالة فى منتهى البساطة (لاتكلف أقل من أى شئ)،

وسوف يكون كل شيء على مايرام.

وتصبح طرائق الاشياء على مايرام؛

حين تلتئم ألسنة النار فى ملتقى تاج اللهب،

واللهب والوردة نفس الشئ.

سالفاج الجافة (III)

(The dry salvage هى فى الأصل Les trois souvages، وهى مجموعة صغيرة من الصخور

عليها فنار بالقرب من الشاطئ الشمالى الشرقى لكيب آن فى ماساشوستس، وتنطق

سالفاج بحيث تسجع مع Aswage {بسكون الجيم وتعطيشها بالعربية}، والنائح هو طوف

عائم يصدر صفيرا)

1

لا أعرف الكثير عن الآلهة، ولكنى أعتقد أن النهر؛

إله أسمر قوى متبرم جامح لايكبح،

صبور الى حد ما، عرف فى أول الزمان كحدود،

مفيد ولايوثق به كناقل للتجارة،

ثم مجرد مشكلة تعترض بنائى الجسور،

وإذا حلت المشكلة مرة؛ كاد السكان فى المدن

أن ينسوا الإله الاسمر.

ولكنه ظل قاسيا

محافظا على غضباته ومواسمه، مدمرا مذكرا

بما اختار الناس أن ينسوا، لايكرمه ولا يسترضيه

من يعبدون الماكينات، ولكنه ينتظر، يراقب وينتظر.

إيقاعه كان حاضرا فى غرفة المهد

وفى صفوف الأزهار على مداخل ابريل،

وفى عبق الأعناب على مائدة الخريف،

وحلقة المساء حول قنديل الشتاء.

النهر فى داخلنا، والبحر فيما حولنا،

والبحر حافة الأرض أيضا، والجرانيت الذى يصل منه الى الشواطئ التى يقارعها،

وكناياته عن خلائق قديمة وغيرها؛

نجم البحر وسرطان الحدوة وفقرات الحوت،

والبرك التى يقدم فيها الى فضولنا الطحلب الأزرق وشقائق النعمان.

يقذف بخسائرنا، بالشبكة الممزقة

والاناء المشروخ والمجداف المكسور ومتاع موتى غرباء،

للبحر أصوات كثيرة آلهة كثيرة وأصوات كثيرة

الملح فى زهرة الخليج،

الضباب فى شجرة السرو.

عصف البحر وعواءه صوتان مختلفان؛

غالبا مايسمعان معا: النحيب فى حبائل الشراع

التوعد والملاطفة للموجة التى تنكسر على المياه

والهدير البعيد على أسنان الجرانيت،

والعويل المحذر من الأرض المقتربة،

كلها أصوات بحر، والنورس والنائح الزافر

متوجهان الى أرض الوطن.

وتحت ضغط الضباب الصامت

الجرس الداق يقيس الزمن، لازمننا تدقه حدبة الأرض المتمهلة،

بل زمن أقدم من زمن الساعات،

أقدم من زمن تعده النسوة القلقات المهمومات،

راقدات مستيقظات تحسبن المستقبل،

تحاولن نسل النسيج وحل الخيط والعقد،

ولصق الماضى بالمستقبل بين منتصف الليل والفجر حينما يكون الماضى كله خداعا،

والمستقبل بلا مستقبل، قبيل ساعة الصباح، حين يتوقف الوقت وأبدا لاينتهى الزمن،

وحدبة الأرض الكائنة التى كانت من البداية؛

يدق الجرس.

2

أين منه النهاية ذلك العويل الساكن،

الذبول الصامت لأزهار الخريف،

تسقط بتلاتها وتبقى بلا حراك،

أين منه النهاية ذلك الحطام المنجرف،

صلاة العظام على الشاطئ،

التى لاتقام فى النذير الفاجع.

لانهاية بل أحداثا تباعا،

قاطرة لأيام وساعات أخر،

حين يطوى الانفعال مالاينفعل،

سنوات حياة بين الحطام،

لما كان يعتقد أنه الأجدر بالثقة،

ولذا فهو أحق بالجحود.

بل هناك الخاتمة النهائية؛ السقوط،

والشيخوخة أو الأشياء عندما تنهار القوى،

الولاء الحر الذى قد يفسر بالكفران،

فى مركب منجرف يتسرب إليه الماء بطيئا،

إنصات صامت لمالا ينكر،

ضجيج الجرس بالبشارة الأخيرة.

أين منهم النهاية الصيادين المبحرين،

فى ذيل الريح حيث يرتعد الضباب،

لانتصور زمنا بلا محيط،

ولا محيطا تغشاه النفايا،

ولا فى مستقبل خئون،

مثل الماضى لااتجاه له.

لامناص من أن نفكر فيهم ينضحون دوما،

يبحرون ويرسون عندما تهبط الريح الشمالية الشرقية،

على الشواطئ الضحلة فى إصرار لاينكسر،

أو يقبضون أجورهم ويجففون قلاعهم على المراسى،

لا مثل القيام برحلة لن تدر أجرا،

لسفر لن يصمد للاختبار.

لانهاية له ذلك العويل الصامت،

لانهاية لذبول الأزهار الذابلة،

لحركة الألم بلا ألم ولاحركة،

لجرف اليم والحطام المنجرف،

صلاة العظام للموت ربها، بالكاد تلك الصلاة،

التى تقام للبشارة الوحيدة.

يبدو أنه كلما أوغل المرء فى العمر

يكتسب الماضى شكلا آخر ولا يصير مجرد حدث،

أو حتى تطورا، فالتطور ضلال جزئى،

شجعته أوهام تقدم سطحية،

تصير فى عقل العامة وسيلة للتخلى عن الماضى.

لحظات السعادة لامعنى الرفاهية،

لا الإثمار ولا الإنجاز ولا الأمان ولا الوجد،

ولا حتى عشاءا دسما؛ بل التجلى الفجائى.

لقد خضنا التجربة وفاتنا المغزى،

فالاقتراب من المغزى يعيد التجربة

فى شكل مختلف وراء كل معنى

يمكن أن نضفيه على السعادة. لقد قلت قبلا أن الخبرة الماضية التى تحيا فى

المعنى

ليست خبرة حياة واحدة فقط؛

ولكن حياة أجيال عدة، دون أن ننسى شيئا ربما استحال التعبير عنه؛

النظرة الخلفية الواثقة

للتاريخ المسجل، ونصف النظرة الخلفية

عبر الكتف نحو الرعب البدائى.

الآن نأتى الى اكتشاف أن لحظات الألم

(سواء كانت أو لم تكن نتيجة سوء فهم بعد أن أملت فى الأمور الخطأ أو كرهت

الأشياء الخطأ، ليست موضعا للتساؤل)

دائمة هى أيضا مثل دوام الزمن،

فنحن نفلح فى تقديرها فى ألم الآخرين الذى نكاد نعانيه وندمج فيه أنفسنا أكثر

من عذابنا نحن،

حيث أن ماضينا تغشاه تيارات الحركة،

ولكن عذاب الآخرين يبقى تجربة

لايضارعها ولا يبليها تعاقب الندم.

الناس يتغيرون ويبتسمون، لكن يقيم العذاب.

الزمن المدمر هو الزمن الحافظ،

مثل النهر بحمولته من الزنوج الموتى والابقار وأقفاص الدجاج.

التفاحة المرة والقضمة فى التفاحة،

والصخرة الرثة فى المياه القلقة،

تكسوها الأمواج ويحجبها الضباب.

وفى أيام السكينة فليست سوى نصب.

وفى أجواء الملاحة دائما علامة بحرية.

أو فى مداهمة الغضبات هى ماكانت عليه أبدا.

3

أحيانا أعجب ما إذا كان هذا ماعناه كريشنا ـ بين أشياء أخرى ـ أو أنها طريقة

لقول نفس الشيئ؛

أن المستقبل أغنية باهتة، وردة ملكية أو رذاذ عطرى،

تثير مشاعر الأسف على أولئك الذين لم يعودوا هنا ليأسفوا،

مضغوطة بين أوراق كتاب صفراء لم تفتح أبدا،

والطريق الى أعلى هو الطريق الى أسفل، وإلى الأمام هو الى الخلف،

لايمكنك أن تواجهها مباشرة، ولكن من المؤكد

أن الزمن لبس طبيبا شافيا، فالمريض لم يعد هنا،

حين يقوم القطار ويكب المسافرون

على الفاكهة والمجلات وخطابات الأعمال

(وأولئك الذين ودعوهم قد تركوا الرصيف)

تنتقل سحناهم من الحزن الى الراحة،

مستسلمة للايقاع النعسان لساعات مئة،

سافروا قدما ياراحلين، لاأنتم هاربين من الماضى

الى حياة أخرى أو الى مستقبل أخر؛

لستم نفس الناس الذين تركوا المحطة،

أو الذين سوف يصلون إلى أى نهاية،

بينما القضبان التى تضيق تنزلق خلفكم،

وعلى سطح المركبة الداقة،

تراقبون السهول التى تتسع ورائكم،

فلا تظنوا أن الماضى قد انتهى،

أو أن المستقبل أمامنا.

ففى الغسق صوت يترنم فى الحبال والصوارى،

(قوقعة الزمن الهامسة ولكن ليس الى الأذن، ولا بأى لغة)

سافروا قدما يامن تظنون أنكم تسافرون،

لستم أولئك الذين رأوا المرفأ يتباعد،

ولا هؤلاء الذين سوف يحطون رحالهم،

بين الشاطئ الأدنى والشاطئ الأبعد،

بينما ينفلت الزمن، تأملوا فى المستقبل

والماضى بعقل واحد،

واللحظة التى لاهى فى حركة ولا فى سكون.

تستطيعون أن تتقبلوا هذا “على أى مدار من الكينونة،

فعقل الانسان سوف يكون مجتهدا ساعة الموت”

وهذه هى الحركة الوحيدة.

(وساعة الموت هى كل لحظة)

والتى سوف تثمر فى حياة الآخرين،

فلا تفكروا فى ثمار الحركة.

سافروا قدما يامسافرين ياملاحين،

يامن يأتون الى المرفأ ويامن أجسادهم

سوف تعانى حكم البحر وقضائه،

أو أية نوائب.

تلك هى وجهتكم الحقيقية؛

مثلما قال كريشنا ناصحا آرجونا فى ساحة الوغى:

“لاسفرا سعيدا ..

بل سفرا قدما يامسافرين”.

4

سيدتى؛ يامن يقوم محرابك فوق الأكمة،

صلى لأولئك الذين فى السفن،

وأولئك الذين يعملون بالسمك،

وأولئك الذين يعملون فى كل سفر مشروع،

وأولئك الذين يقودونهم،

وصلى أيضا للنسوة الائى شهدن أزواجهن وأبنائهن يرحلون ولم يعودوا،

ياابنة ابنك ياملكة السموات

وصلى أيضا لأولئك الذين الذين كانوا فى الفلك

وأنهوا حياتهم على الرمال فى شفاه البحر،

أو فى الحلق المظلم الذى لن يلفظهم،

أو حيث لايصلهم صليل جرس البحر،

وجرس صلاة البشارة الدائمة.

5

للاتصال بالمريخ ومخاطبة الأرواح

للابلاغ عن سلوك وحش البحر

ووصف حظ الأفلاك والكهانة والتقصى،

واستنتاج الأمراض من التوقيعات واستنباط الحياة من تجاعيد الكفوف،

والمآسى من الأصابع، وإطلاق الفأل من تنوة البن أو أوراق الشاى،

وحل ألغاز المحتوم بأوراق اللعب والعبث بالخماسيات،

أو بأحماض الباربيتوريك أو تشريح الصورة المتغيرة الى أهوال ماقبل الوعى،

لاستكشاف الرحم أو القبر أو الأحلام؛

كل هذا اعتيادى.

تضييع وقت ومخدرات وموضوعات للصحافة،

ـ وسوف تكون دائما ـ حين تغشى الامم المحن والحيرة،

سواء على شطئان آسيا أو فى إدجواير رود.

إن فضول الناس ينقب فى الماضى والمستقبل، ويتعلق بذلك البعد،

ولكن فهم النقطة التى تفصل اللازمنى عن الزمن،

هى وظيفة القديس.

وليست حتى وظيفة، ولكن شيئا يمنح ويمنع فى فناء حياة بأكملها فى الحب،

والشوق والتفانى والتسليم،

وليس هناك لمعظمنا سوى سوى اللحظة المنفصلة،

اللحظة داخل الزمن وخارجه،

ونوبة الذهول فى شعاع من ضوء الشمس،

والزعتر البرى لايرى، أو برق الشتاء أو مساقط المياه،

أو الموسيقى التى تسمع بعمق حتى أنها لاتسمع بتاتا،

ولكنك أنت الموسيقى طالما عزفت الموسيقى،

هذه ليست سوى إشارات وتخمينات،

إشارات تتبعها تخمينات والبقية صلاة وملاحظة ونظام وفكر وحركة،

فإذا انتصف تخمين الإشارة، وإذا انتصف فهم المنحة فهو التجسد.

وهنا يصبح الاتحاد المستحيل لمدارات الوجود واقعا،

هنا ينهزم الماضى والمستقبل ويتصالحان؛

حيث لم يكن الفعل سوى حركة

لما يدفع وليس فيه مصدر لحركة

تسوقه قوى شيطانية ممسوسة.

والفعل الصحيح هو الحرية

من الماضى والمستقبل معا.

ولمعظمنا فهذا هو الغرض

الذى لم نعد هنا لنتعرف عليه؛

فنحن لم نهزم لأننا واظبنا على المحاولة،

ونرضى فى النهاية

إذا ماغذى تحول رفاتنا الزمنى

(غير بعيد من شجرة السرو)

حياة تربة خصيبة.

*

ترجمة :عمر الفاروق عمر

******

(ترجمة أخرى للقصيدة)

الرباعية الأولى – نورتن المحترقة

-المقطع الثاني-

الثوم وحجر الصفيّر في الطين.. (هامش: حجر كريم)

يشكلان أساس جذع الشجرة

ارتعاش الدم المتدفق..

يغني تحت الندوب المتأصلة..

ليهدئ المعارك الطويلة المنسية

الرقص عبر الشريان..

دوران السائل اللمفاوي..

صوِّرا في حركة الكواكب

لنرتقي للصيف في الشجرة تحركنا فوقها..

وكانت هي تتحرك بالضوء عند الأوراق المتكاثفة..

وبالصوت فوق الأرض المبللة

تحركنا تحت الدب الأكبر والدب الأصغر..

اللذان يتابعان مسارهما كالمعتاد..

لكنهما متصالحان بين النجوم

في النقطة الساكنة للعالم المتقلب..

لا من يكسوه اللحم ولا من لا يكسوه ..

لا من هنا ولا نحو هناك..

في النقطة الساكنة.. هناك يوجد الرقص..

لكن لا الكبح ولا الحركة

ولا تسمي ذلك استقرارا..

حيث الماضي والمستقبل يجتمعان

لا الحركة من هنا ولا الحركة إلى هناك..

ولا الارتقاء ولا التدهور

فقط في تلك النقطة.. النقطة الساكنة..

لن يكون هناك رقص.. وسيكون هناك الرقص فقط

استطيع فقط أن أقول.. هناك كنا.. لكن لا استطيع أن أقول أين

ولا يمكنني أن أقول.. كم بقينا.. لأن هذا سيحدده في الزمن

الحرية الداخلية المنبعثة من الرغبة الواقعية..

التحرر من العمل والمعاناة..

يحرر من الداخل ومن إكراه المحيط الخارجي..

لكنه محاصر بنعمة الإحساس..

ضوء ابيض ساكن ويتحرك

تأهيل بلا حركة, تركيز..

بلا إقصاء.. كلاهما عالم جديد

والوضوح الموجود منذ القدم..

مفهوم جيدا في تحيّز انجذابه التام..

وفي تحيّز رعبه المقرر

رغم ذلك فأن الماضي والمستقبل يأسران..

بشق طريق عبر ضعف الجسد المتبدل..

لحماية البشرية من النعيم واللعنة..

لكن الجسد لا يتحمل ذلك

الزمن الماضي والزمن الآتي..

يسمحان بقليل من اليقظة فقط

أن تكون يقضا يعني انك غير موجود في الزمن

لكن فقط في الزمن تتمكن اللحظة في حديقة الورود..

اللحظة في العريشة حيث ينبض المطر..

اللحظة في هبوب الهواء الإلهي البارد عبر دخان الجمرة..

أن تتورط مع الماضي والمستقبل

فقط عبر الزمن.. يُقهر الزمن

*

ترجمة افراح الكبيسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى