دعني يوماً ما، بعد انقشاع الرؤية المُـرعبة،
أنْ أغنّيَ مُبتهجاً وممجِّداً الملائكةَ المُستَجيـبـين.
ألاّ تُخفِقَ أيّـة ٌمن مطارق قلبي صافـيةِ الضَّـربات
في نغمتها عند أوتاري الواهنة، الشاكّة أو المُمزّقة.
دع وجهيَ المُنسابَ يجعلني أكثَـرَ لمعـاناً؛
ليُزهِـرَ بُكائي غيرُ المَرئيِّ. أه كمْ ستصبحين إذاً عزيزةً
لديَّ، يا لياليَ العَـذاب. لِمَ لمْ أنحَـنِ أكثَـرَ ركوعاً لَكُنَّ
أيـّتها الأخوات غيرُ المواسياتِ، لمَ لمْ أتحمّـلْ تشتّتَ
ذاتي فـي شَعرِكُـنَّ المُسترسلِِ.
نحن مُبَذِّرون آلامَنـا. كم ننظر إلى ما وراءها قُدُماً، في
الزّمن الحزين، فيما لو أنّها تنتهي. ولكنّها
ليست سوى أوراقِ شتائنا الحقّة، معنى حياتنـا
الأخضرِ الدّاكنِ ، واحدةٍ من فصول سَنـتِـنـا السِّريّة-،
ليست فقط زمناً-، هي أماكن، استيطان، ملجأ، أرض، مأوى.
.
ولكنْ وا أسفاه، كم هي غريبة حقّاً شوارع مدينة الألم،
حيث في السكون الكاذب المصنوع من صخب يُخمد صخباً،
يختال المصبوب من عَفَنِ الفراغ قويّاً: الصّخب المُخادع،
النُّصبُ المتفجِّرُ. آه، كيف سَـيَـطأ مَـلَـكٌ من دون أثرٍ
سوقَ مواساتِهمْ، الذي يحُدّ الكنيسةَ التي اشتروها جاهزةً:
.
نظيفةً ومُغلقةً ومُخيِّبةً مثلَ دائرة بريد في يوم الأحد.
ولكنْ خارجَها تَموَّرُ حافّـاتُ المهرجان.
أراجيحُ الحرّية! غوّاصو وبهلوانات الطّموح.
وردهة الرِّماية المُصَمَّمة للحظّ الأخّاذ حيثُ تهتزّ الأهداف
وترنّ الصفيحةُ عندما يُصيب رامٍ. من استحسان إلى
حظّ يتمايلُ أكثرَ; بينما أكشاك كلِّ فضوليّ تتودّد تطبيلاً
وصراخاً. ولكنْ للبالغين وحدَهم يوجد شيء خاصّ ليروْه،
كيف يتزايد المال تلقائيّاً، ليس للاستمتاع فقط: جزء المال
التناسليّ، كلّ شيء، العمليّة كلها-، تُعلّمُ وتَصنعُ التّخصيبَ….
آه، ولكن ما وراءها خارجاً،
خلف اللوحة الأخيرة، التي أُلصِقَتْ مع لافتات ” الخلود “، تلك
الجعّة المُرّة التي تبرز حلوةَ المذاق للشّاربين، ما داموا مستمرّين
على عَـلْـكِ شرود الذِّهن الطَّريِّ….. ، تماماً في
ظهر اللوحة، تماماً وراءها، يكون عالَم حقيقي.
أطفال يلعبون، وعشّاق يمسك أحدهم بالآخر،- جانباً، بجدّ،
على عشب قليل، وكِلابٌ لها طبيعتها.
يذهب الشابّ أبعدَ من هذا، ربما يُحبّ معاناةً
فَـتـيّـةً…. يتبعها إلى الحقل. تقول: – بعيداً.
نسكن هناك خارجاً….
أين؟ والفتى يتبعها. يُثـيره تَوقّـفُـها. ذراعاها، رقبتها-،
ربَّما هي من أصل نبيل. ولكنْ يَـدَعُـها تذهبُ، يعود
راجعاً، ينظر حَوالَيه، يلوِّح … ما الفائدة؟ إنّها معاناة.
وحدَهم الذين ماتوا وهمْ صبيان، الذين هم في لحظاتهم الأولى
من هدوء سرمديّ، بعد الفطام، يتبعونها بتحبّب. الصَّبـايا
تنتظرُهنّ وتصادقهنَّ. وبلطف تريهنَّ ما عليها من لبوس:
لآلئَ من مكابَدةٍ وحجاباً رقيقاً من الصّبر.- مع الصّبيان
تسير صامتةً.
.
ولكنْ هناك، حيث يسكنون، في الوادي، تُجيب واحدة من
المكابَداتِ المُعَمِّرة الصَّبيَّ عندما يسأل:- ” كنّـا عشيرةً كبيرةً
يوماً ما، نحن المكابَداتِ. آباؤنا أداروا المناجمَ هناك في الطّودِ
الشّامخ؛ أحياناً تجدُ قطعةً مسحونةً من ألم مُتقادم بين البشر،
أو حثالةً من غضب مُتَحجِّر من بركان قديم. نعم، جاء
من هناك، لقد كنّـا أثرياءَ في أحد الأيام.-“
وتقوده بلطف خلال الأرض الواسعة للمكابَدات، تُريه
أعمدةَ المعابد، أو خرائبَ تلك القلاع، حيث حكم أمراء
المكابَدة الأرضَ بكياسة يوماً ما. تُريه أشجار الدّموع العالية
وحقولَ الحزن المُزهِر، ( يعرفها الأحياء كأوراق ناعمة فقط )،
تُريه حيواناتِ المواساة ترعى – وأحياناً يأخذ طيرٌ مُرتَعبٌ
في الطيران بانخفاض على مدى أنظارها، مُخربشاً على
المدار صورةَ صيحتِه الانعزالية.-
مساءً تقوده بعيداً إلى قبور القدماء من عشيرة المكابدة، السّادة
العرّافين والكُهّـان.
ولكنَّ الليلَ يقترب فيمشيان في سكونٍ أكثرَ، وحالاً يبرز القبرُ
الذي يراقب كلَّ شيء، لمّاعاً كضوء القمر. وأخ لذلك الموجود
على النيل، الهرم المَهول- وجه المخدع الصّامت.
ويندهشان من الرأس المُتَوَّج، الذي وضع الوجهَ البشريَّ بصمتٍ
على ميزان النّجـوم إلى الأبد.
.
نَظْـرَتُـه، مذهولةً بالموت المُبكِّر، لا تستطيع أنْ تُمسِكَ به.
ولكنَّ نظرتَها أفزَعَتْ بومةً من وراء حافة التّـاج.
وهي، مُخطّطةً بلطخة خفيفة بطيئة على طول الخدِّ،
ذلك المُدوَّرِ الكامل، تخطّ برخاوة في
السَّمع الجديد للميِّت، كما لو على صفحتين متقابلتين
من كتاب مفتوح،
موجَزاً لا يوصف.
.
وعالياً، النجوم، جديدة. نجوم أرض المُكابدات.
المُكابَدة تسمّيهم ببطء: – هنا،
أنظر: الفارس، العصا وهذا البرج الكامل يسمّى:
إكليل الفاكهة. ثمَّ، بعيداً نحو القطب: مهد؛ طريق؛
الكتاب المحترق، دمية، نافذة.
ولكنْ في السّماء الجّنوبية، نقيةٌ مثلُ راحةِ اليد المُقَدَّسةِ،
المُشعِّة الواضحة “ M ” التي تعني Mütter ( أمّهات)… –
.
ولكنَّ الميِّتَ يجب أنْ يمضيَ قُدُماً، والمُكابَدة القديمة
تأخذه، بصمتٍ، إلى الوادي الظَّليل،
حيث يلمع في ضوء القمر: نبع الابتهاج.
بتبجيلٍ تُسمّيه، تقول:- في دنيا البشر هو نهر جبّار –
يقفان عند سفح الجّبل.
وهنا تطوِّقه بذراعيها، باكيـةً.
.
يتسلّق وحده جبلَ الألم القديم.
ولا تطنّ خطوتُـه قـطّ ُمن المَمـرّ عديـم الرّنـين.
ولكنْ لو أيقظ الموتى أبديّـاً رمزاً فينا،
أنظر، لربّما أشاروا إلى الهُـرَيراتِ* المعلّقةً على
أغصان شجيرات البُندُق العارية، أو عَـنَـوْا المطرَ المتساقطَ
على الأرض المُعتمة في بداية الربيع.-
.
ونحن، الذين يفكّرون في الحظّ المُتصاعد،
سنُحسّ بالانفعال،
الذي يكاد يُذهلنا،
عندما يسقط علينا ما يُسعِدنا.
_____________
* الهُريْرات : جمع هريْـرة. هنا تعني
نظام ازهرار مركّب من سنبلة عليها أزهار وحيدة الشّق
تبدلت من كأسها وتويجها حراشف بسيطة، فهي بذلك تُشبه
ذيل القط تتدلّى عمودياً على غصن شجيرة البندق وتوجد بكثرة
قبل أنْ تنمـو أوراق الشجيرة. وتعني أيضا صغار القطط.
*
ترجمة : د. بهجت عباس
* من مجموعة ( راينر ماريا ريلكه – مراثي دوينو وسونيتات إلى أورفيوس )
الناشر : فيشون ميديا – السويد 2006