كيف تعلمت أن أكتب أقل – دونالد هول

أشخاص:

عندما كنت في السادسة عشرة من عمري، كنت أقرأ عشرة كتب في الأسبوع: كتب لـ “إ إ كنينجز” و”وليم فوكنر” و”هنري جيمس” و”هارت كرين” و”جون شتاينبك”. كنت أحسب أنني أتقدم في الأدب كلما أسرعت في القراءة، غير أن في الإكثار من القراءة إقلالا منها. لذلك تعلمت أن أبطئ. وبعد ثلاثين سنة، في نيوهمشر، مع جين [كينيون ـ زوجة الشاعر الراحلة]، كنت أكسب لقمة عيشي من العمل كاتبا متفرِّغا، فكنت أكتب طيلة النهار، ولا أقرأ الكتب إلا بالليل. كانت جين تنام بسرعة ولا تبالي بالنور المضاء في جانبي من السرير. قرأت “انهيار وسقوط الإمبراطورية الرومانية” ورسائل هنري آدمز الصادرة في ستَّة مجلدات. قرأت روايات هنري جيمس المتأخِّرة مرارا وتكرارا. وبعد أن ماتت جين، واصلت قراءة الكتب، ففي أول الأمر قرأت للكتَّاب القتلة أو ذوي الأقلام العنيفة من أمثال كورماك مكارثي. وأنا اليوم أكبر بأربعين عاما من أقصى عمر بلغته جين، وأدرك أنني لم أنه قراءة كتاب واحد في سنة.

يبلغ الرياضي الاحتراف في العشرين، وفي الثلاثين يصبح أبطأ وإن ازداد مهارة، وفي الأربعين يترك الهوية التي ولد ليحملها، وعاش بحمله إياها. ويتضاءل في الخمسين، وفي الستين، وفي السبعين. وكل ذي طموح ممن يعيش إلى أن يهرم يمرُّ بهذه الخسارة المحتومة، خسارة تحقيقه طموحاته.

حدث مرة أن ذهبت لزيارة صديقة في دار للمتقاعدين بهوليود، فرأيت عجوزا جميلة في مقعد متحرك، لم أتعرف على وجهها، لكنها وثبت في نشوة حينما اتجهت إليها قائلة “حوار!”. قلت في نفسي “حوار!”.

عادة يعمل الكاتب حتى آخر حياته. فحينما كنت في الثمانين، كنت لم أزل أشارك كثيرا في الندوات الشعرية، ويقف الجمهور مصفقا لي في نهاياتها، وأظل أصفق لهم إلى أن أسكتهم. وبعدها بالطبع كنت أظل أوقع الكتاب تلو الكتاب إلى أن أرجع إلى غرفتي في الفندق مدركا أن كل ذلك التصفيق ليس إلا لأنهم لن يروني مرة أخرى.

تصوروا لو أنني شجرة القيقب ذات المئة والخمسين عاما القائمة أمام شرفتي. حينما يتزحزح الشتاء إلى الربيع، أدفع ورقاتي الضئيلة ـ فتلتوي شيئا فشيئا إلى الأخضر المصفر، ثم تتضخَّم، مستحيلة إلى الأخضر الداكن لتزدهي في الصيف. وفي سبتمبر تنسرب نقاط من البرتقالي في ثنايا الأخضر، وفي أكتوبر تستحيل الورقات برتقالية وحمراء وبهية. ويتساقط الورق، وتتعرى الغصون، وفي ديسمبر، لا يبقى منها غير القليل. وفي يناير، ترفرف الباقيات منها متهادية إلى الجليد، سوداء ومتناثرة، شأن الكلمات التي أكتبها.

قديما، كنت أكتب طيلة النهار، منذ أستيقظ في الخامسة صباحا. لكنني الآن أستيقظ كسلان في السادسة أو أبقى متشبثا في السرير حتى السابعة. وأشرب القهوة قبل أن أتناول القلم. أطالع الجريدة. أحاول أن أكتب طيلة الصباح، لكن الإنهاك ينهي جلستي بحلول العاشرة. أملي رسالة. أغفو قليلا. أنهض لتناول قليل من المقرمشات وزبدة الفول السوداني، قبل أن يحل الإنهاك التالي. وفي الليل أشاهد البيسبول في التليفزيون، وفي الاستراحات أتصفح نيويورك رفيو أوف بوكس. وأتقلب طيلة الليل. وإفطار. وقهوة.

في حياة جين، كان كلبنا “جاس” يحتاج إلى تمشية كل يوم. فكانت جين تستيقظ لتخرج به وهي ناعسة قبل الإفطار. وعند خروجهما كنت أرفع يدي اليسرى عن الورقة وألوِّح لهما. في منتصف اليوم ، كنا نتناول الغداء، ونغفو، ثم أخرج لتمشية جاس. كنت أصطحبه بسيارتي صوب نيو كندا، سالكا الطريق الترابي القريب من بيتنا، وحيثما يتسع الطريق المنفرد أركن السيارة. ونمشي على الأرض المنسرحة، فلا نطيل المشي، لرغبتي في الرجوع مرة أخرى إلى مخطوطتي. الآن حينما يحضر أحد بكلب إلى البيت، أتمترس في كرسي كبير، خشية أن يتسبب كلب مجامل في كسر فخذي.

لويز قطتي. قبل عشر سنوات، كانت أختها النشيطة ثيلما تتسلل من البيت لتستكشف طريق 4. حفرت مساعدتي كيندل حفرة، ووضعنا نصف برميل فوق المقبرة لنعوق الحيوانات الجائعة من التنعم بوجبة من ثيلما. لويز أميل إلى الكمون، خجول، لا تقدم على المروق من باب مفتوح. وبالليل بينما أشاهد “إم إس إن بي سي”، تضايقني بالتمسح في ركبتي، ولكنها لا تطرحني مطلقا على الأرض.

عندما كنت أكافح لدفع أقساط البيت في أواخر السبعينيات وفي الثمانينيات، كنت في بعض السنوات أنشر أربع كتب. الآن يمر عليَّ الشهر كله لكي أكتب سبعمئة كلمة، لكن ها هي اكتملت.

دونالد هول (1928 ـ 2018) شاعر أمريكي وكاتب غزير الإنتاج، كان في فترة مستشارا شعريا لمكتبة الكونجرس الأمريكية وأميرا للشعراء الأمريكيين، وكان من قبل أول محرر للشعر في مجلة باريس رفيو. هذه المقالة مأخوذة من كتابه الأخير “كرنفال الخسائر: ملاحظات على مشارف التسعين”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى