مشهد من حانة العالم الثالث
محمد الأمين سعيدي/الجزائر
إلى الشاعر مظفر النواب
“المشرب ليس بعيدا”(1)؛ قال مظفّر وهْو يجرجر خيبته من هذا الوطن العربيّ ومن سلطان الشِّعر يغيّر”لا شيءَ”، يظلّ الشعراء يقولون ويشدون بصدق حتى هرم القولُ وغابتْ زمجرة الفعل عميقا في النسيانِ..
مظفّر صوتٌ مذبوح الصرخة والزمن العربي حضور أخرسُ..مأدبة الماضي..وإمام القدسيّ الأغبرَ. مات مظفر مرات قبل الموتِ، وما فرحتْ عيناه بدجلة تسقي العالم أغنيةً دافئةً من نهر الإنسانِ
دخنتُ مع الأصحاب حشيشا من سرِّ المغربِ، فانفتح البابُ، دخلتُ الحانةَ. كان مظفر يمشط شعر قصيدته ويعلّم روّاد الخبطة أسرار الشربِ. يغني حينا، ثم يكلم شخصا لم يوجدْ يوما، يمتص”كما الإسفنجة”(2)أوجاع الأرض لينسى القمم العربية تسْلَح(3) فوق ربى الأوطانِ
جلستُ قريبا منه، كان يغازل خصر القنينة، يغمز، ينشد كالمعبد قدّاسا في مدح الخمرة، ثم يسافر عبر مباهجها، يقفو أثر الماضين إلى أقصى السّكْر هروبا من صحوٍ عربيٍّ يعبث بالعقل، رآني أجرع بحر نبيذٍ كي أسبح في أفق الحيرة، أسأل أجدادي الأحرار بني مازيغ عن الوطنية صارتْ بيت الذئب، عن الوطنيّ يخيط قميص كرامته من مرمى الأوساخ؛ فيبكون-مظفّر يسمع شعرا مازيغيًّا-يلقون الجمرَ من الكلماتِ، يراهم ليسوا عربا منحوا شرف الأختِ إلى الأغرابِ..
يخرّ مظفّر دمعا عربيا حتى أبكى معه أجدادي، أبكاني وهْو يؤجج حزنا مشتركا بين جميع الأجناس المقهورة في أدغال العصرِ الحجريِّ
تبخّرَ..
فانقطع السفر الزمنيّ الفاتن، كنتُ مع الأصحاب نوجه طلقة ماريخونا صوب الرأسِ لننسى النائب والمسؤول ونحكم بالديموقراطيّ مماليكَ الهذيانِ
الوقتُ مساءٌ أعمى
لا شمس تقاوم هذا الظل الجاثمَ
ألعمرانُ كئيب جدا مثلي حين أجوب اليأسَ، أغني للطرق المهجورة جرحي، وأدخن حتى تحترق الرئتان ولا يبقى مني للقبر سوى العظم اليابس لا يبقى للدود سوى الخذلانِ
عرفتُ مظفر حين درستُ الأدب العربي أفتّش في أعماق مفاوزه عن شجرٍ أو قطرة ماءٍ من بئر المعنى الناضبِ. كان النص غذائي اليوميّ، أنقّب في الكتب المنسية عن جسد الفكرة يترك أبراج التجريد وينزل للشارعِ، يصبح قلبَ الوطن الأخضر، لكنّ الواقع أحقر من حلمٍ طفلٍ، أسْكر من فرط الإدمانِ
أستاذ الشعر العربيّ ثقيل الفطنةِ، لم يدرك أنّ مصيبتنا الشّعرُ، نغني من فجر التاريخ، قصائدنا الجنّاتُ بها من أنهار الخمر وحور العين ومن رغد يفتن ما لا يوجد في الواقع من فقر مفترسٍ والجوعُ البشري يئنّ يُجنّ ويقفز من أعلى البنيانِ
كأنّ مظفّر في وهمي قال:الصحوُ حرامٌ…!!!
الصحوُ حرامٌ…!!!
الصحوُ حرامٌ…!!!
يا حاناتِ العالم صُبّي
صُبّي
صُبّي يا ربّكِ حتى يأتي مطرٌ شهمٌ فيغطينا بالحريّةِ..
أو يأخذنا بالطوفانِ
مشرية يوم 22/09/2017
………
(1)،(2) من نص لمظفّر النواب.
(3)تسلح:تبول.